الاستعصام من الفتن بالإخلاص*
8 جمادى الثانية 1427

إن الإخلاص مما يُكسى العبد به ثوب العفة، وبه ينجو من الفتنة، فمن كان أشد حباً لله قدم محبوب الله على حظ نفسه، واضمحل عنده حب غيره مهما تعارض الحبان واعتركا، وبهذا نجَّا الله - تعالى- عبده يوسف - عليه السلام- من هذه الفتنة العظيمة، لأنه كان عبداً مخلَصاً، "إنه من عبادنا المخلصين" خلَّص قلبه من الشرك ومن اتباع الهوى، فخلَّصه الله - تعالى- بفضله من الفتن. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (المخلِصين)، بكسر اللام، وذلك شأن الموحدين الذين هم أشد حباً لله، فهواهم تبع لأمره ونهيه، وهكذا بتحقيق التوحيد والإخلاص ينجي الله الذين آمنوا كما نجى الرسل وأتباعهم: "ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ" [يونس:103]، ينجون من الفتن ومن كل غم وبلاء في الدنيا والآخرة كما قال – تعالى-: "َاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ" [الأنبياء:88]، ويوم القيامة يهديهم ربهم ويقيهم عذاب الجحيم كما قال – سبحانه-: "ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً" [مريم:72]، "وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ" [الزمر:61]، بل الله ينجي أهل الشرك في الدنيا –مع ما يدخره لهم في الآخرة من العذاب العظيم- إذا ركبوا في الفلك وجاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنه أحيط به فدعو الله مخلصين له الدين، فهنا عند إخلاصهم الدين –وقد كانوا مشركين- ينجيهم الله – تعالى- برحمته، كما قال – سبحانه- : "هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ" [يونس:22]، وقال عز من قائل في الأنعام: "قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ" [الأنعام:64].

فالإخلاص والتوحيد من أعظم أسباب العصمة من الفتن، والنجاة من الشهوات والشبهات، وتحقيقه كافل العفة ضامن السلامة والعصمة. ومن كمال تحقيقه حفظ أوامر الله ونواهيه، وهذه السيرة الطاهرة لهذا النبي الكريم تدل على ذلك وتذكرنا بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لابن عباس - رضي الله عنه-: (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وإذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، قد مضى القلم بما هو كائن؛ فلو جهد الناس أن ينفعوك بما لم يقضه الله لك لم يقدروا عليه، ولو جهد الناس أن يضروك بما لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه، فإن استطعت أن تعمل بالصبر مع اليقين فافعل، فإن لم تستطع فاصبر، فإن في الصبر على ما تكرهه خيراً كثيراً، واعلم أن مع الصبر النصر، واعلم أن مع الكرب الفرج، واعلم أن مع العسر اليسر) (1) .
وينبغي لكل مسلم أن يتفيأ ظلال هذه النصيحة الغالية، ليتقيَ لفح الفتن في هذا الزمان الذي اشتد فيه هجير الجهل بدين الله، وحمِيت فيه رمضاء الابتعاد عن منهجه.

-----------
* مستل من كتاب الشيخ: (آيات للسائلين) تحت الطبع.
(1) رواه الإمام أحمد 1/293، 1/303، 1/307، ورواه الترمذي 4/667 (2516) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين 3/623(6303) والذي بعده، وجمع غيرهم، وقد حسن ابن رجب إسناده في رسائله 3/91، وابن حجر في موافقة الخبر الخبر 1/327، وجمع من المتأخرين.