أنت هنا

العلماء.. وتعبيد الخلق لربهم
26 ربيع الثاني 1427

يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - أن نفس معرفة الله تعالى ومحبته مقصودة لذاتها، وأن الله سبحانه وتعالى محبوب مستحق للعبادة لذاته لا إله إلا هو، ولا يجوز أن يكون غيره معبودا محبوبا لذاته وانه سبحانه يُحب عباده الذين يحبونه ويرضى عنهم ويفرح بتوبة التائب ويبغض الكافرين ويمقتهم ويغضب عليهم ويلعنهم ويذمهم، وأن في ذلك حكما بالغة ومقاصد جليلة(1).

ويبين - رحمه الله تعالى - أن مقصد الشارع في خلقه وأمره يتضمن شيئين:
أحدهما: حكمة تعود إليه يحبها ويرضاها.
والثاني: حكمة تعود إلى عباده وهي نعمة عليهم يفرحون بها ويلتذون بها.
وهذا في المأمورات وفي المخلوقات.

أما في المأمورات فان الطاعة هو يحبها ويرضاها ويفرح بتوبة التائب أعظم فرح يفرحه الناس، كما أنه يغار أعظم من غيرة العباد، وغيرته أن يأتي العبد ما حرم عليه فهو يغار إذا فعل العبد ما نهاه ويفرح إذا تاب ورجع إلى ما أمره به، والطاعة عاقبتها سعادة الدنيا والآخرة وذلك مما يفرح به العبد المطيع فكان فيما أمر به من الطاعات عاقبته حميدة تعود إليه والى عباده ففيها حكمة له ورحمة لعباده(2).

فإذا كان المقصد العام للشريعة هو تحقيق العبودية لله تعالى في الخلق لتشمل نواحي الحياة كلها من ثقافية واقتصادية وسياسية واجتماعية فان دور أهل العلم هو تعبيد العباد لربهم – جل وعلا- وفق هذا المقصد. هذه هي مهمتهم وقد كانت مهمة الرسل- عليهم السلام- قبلهم.

وفي نظري أن رسالة أهل العلم – أعني: تعبيد الخلق لربهم- رسالة شاقة لاسيما في هذا العصر عصر العولمة، وهي إلى جانب سلفية المنهج بحاجة إلى عصرية المواجهة كي تكون على مستوى التحدي.

فلامناص من قيام أهل العلم بدعوة الناس وتعليمهم وتذكيرهم للفكاك من ربق الهوى وتخليص أنفسهم من استعباد المطامع وفتن الدنيا والدخول في هذا الدين كافة، ومصداق ذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) (البقرة: 208). فتداعيات العولمة ألقت بظلالها على غالب حياة الناس اليوم. فقبول الخلاف في كل شيء حتى في الثوابت، وانتشار ثقافة الاستهلاك والجري وراء الغنى السريع(3) والإغراء بالخيارات الشخصية وتزيين الفردية والإيحاء بأن كل شيء طبيعي.. هي تحديات تفرضها العولمة على المسلم المعاصر. تحتاج إلى ثقافة مضادة تكرس معايير الحق والفضيلة في أذهان الناس وتعيد إليهم ما سلبته الثقافة الوافدة من قيم ومبادئ.

ولا يمكن أن يحفظ العلماء على الناس دينهم وأنفسهم وأموالهم وعقولهم وأعراضهم - وهذه كليات الشريعة التي جاءت بحفظها - إلا إذا نجح العلماء في تحقيق العبودية الحقة لله تعالى في نفوس الناس. لماذا؟
لأن تعريف الناس بربهم وتحديثهم بأسمائه وصفاته وأمره ونهيه ووعده ووعيده هي التي تورث طاعته وخشيته فينتظم العبد في سلك العبودية لربه تعالى فيعود ذلك على كليات الشريعة الخمس بالحفظ فتصلح أحوال الخلق في معاشهم ومعادهم.

وللعلماء في سيرته- صلى الله عليه وسلم- أعظم الشواهد على صدق المنهج ووضوح المقصد. وماذا كان العالم في القرون الأولى يغتبط أن حضر مجلسه بضع مئات أو نسخ كتابه عشرات المرات أو نقل علمه بعض الرواة فان في عصر العولمة من الفرص المتاحة لنشر الخير مالا يخطر على بال أسلافنا. فقد يستمع للمتحدث الواحد عبر القنوات الفضائية أو يقرأ للكاتب الواحد في مواقع الشبكة العنكبوتية مئات الملايين من البشر. فضلا عن الوسائط الالكترونية التي تحفظ آلاف الكتب ومئات الساعات الصوتية وتباع بأزهد الأثمان.

إن تعبيد الخلق لربهم يتطلب مواجهة أهواء الناس التي تعيق عن دعوتهم وتثني عن مكاشفتهم بما هم عليه من انحراف أو إعراض. ولا ريب أن من مقاصد هذه الشريعة المباركة إخراج الخلق من مصايد الهوى وتعبيدهم لربهم سبحانه وتعالى.

والى ذلك أشار العلامة الشاطبي- رحمه الله- بقوله: "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدا لله اختيارا كما هو عبد لله اضطرارا"(4). فالله تعالى- وهو يخبر عن عصمة نبيه صلى الله عليه وسلم- بقوله: "وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" (النجم:3، 4). قد حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة والهوى فلا ثالث لهما. وإذا كان كذلك فهما متضادان وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده فإتباع الهوى مضاد للحق(5).

والناظر لواقع المسلمين اليوم يعجب كيف أن بعض المحسوبين على العلم والدعوة انصرفوا عن هذا المقصد الكبير- تعبيد الخلق لله- إلى مقاصد دونه فصاروا يدعون الخلق لمصالح دنياهم قبل مصالح دينهم. وصار البعض همه تعبيد الخلق لمصلحة الأرض أو النظام أو غيرها. هكذا لما غاب المقصد الأعظم في دعوتهم انقلبوا من تسويق مراد الله تعالى من دينه إلى تسويق مصالح دنيوية ومطالب حياتية.. بل تعدى الأمر ذلك إلى مراعاة ميول الناس ورغباتهم وتلبيس ذلك عباءة الإسلام. وتبني منهج التيسير على الخلق من الأخذ بالمقاصد بعيدا عن النصوص والدعوة إلى التطبيق المرحلي لأحكام الشريعة وتتبع الرخص وشواذ الآراء الفقهية..

وهكذا يبدأ مسلسل التراجع تحت ضغط الواقع.

بينما نجد الله تعالى يقول لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: "وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ" (المائدة: من الآية 49). وبذلك ينصرف العلماء عن رسالتهم التي شرفهم الله تعالى بحملها وأخذ عليهم الميثاق في تبليغها للعالمين فيصيروا بين مطرقة الملأ وسندان الجماهير. ثم لا يلوون بعد ذلك على منهج أو مقصد. إن مهمة العلماء كبيرة ورسالتهم عظيمة وما تنتظره الأمة من علمائها كثير والأمل بعد الله تعالى معقود بما يتحقق على أيديهم. "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" (التوبة:105).

________________
(1) مجموع الفتاوى: (10 607). بخلاف ما ادعاه بعض الأصوليين من أن المقصد العام للشريعة منحصر في مصالح العباد في الدنيا والآخرة فحسب وأن المصالح لا ترجع إلى الله تعالى. كالرازي. و بعض المتأخرين كابن عاشور.
(2) المصدرالسابق: (2 13). وانظرالمقاصد عند ابن تيمية للبدوي ص: 450.
(3) أقصد تهافت الناس على كل ما يدرلهم ارباح من غيرتحر عن حله أوحرمته. وانظرالى تسابق الناس للاكتتاب في الشركات المساهمة.
(4) الموافقات: (2 289).
(5) المصدرالسابق ص: 291.