على بصيرة (2-2)
24 ربيع الثاني 1427

لعل ما مضى بيانه من استهجان تصدر غير المختص شأناً ينبغي أن يشرف عليه فيه أصحاب الاختصاص، لعله أمر باد لبادي الرأي وبدائه العقول إن تعلق بالمحسوسات، فالتجربة برهان، وعوداً إلى صاحبنا نعمان لعلك إن رأيت نعماناً يقتل مريضاً بدواء، فسوف تحول دونه ودون قتل من تحب بالدواء الذي صرفه لنفس الداء. غير أن أهل الاختصاص يدركون للوهلة الأولى أن الدواء الذي قتل به الأول مهلكة ما كان ينبغي أن تورد. وهكذا أهل العلم المعنيين بالدعوة يدركون للوهلة الأولى أن بعض القيادات لن توصل الناس في دعوتهم إلى واقع إسلامي صحيح، ولكن لعموم الجهل، وخفوت أضواء الشريعة.


يُقضى على المرء في أيام محنته حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

ولو أننا أعدنا الأمور إلى نصابها وجعلنا قيادة العمل الإسلامي للمتخصصين فيه، ولو عن طريق مجالس شورى تكون هي الفاصلة حقاً لحصل خير كثير، وإذا تأملت حال المجددين الذين خرجوا بالأمة عن ظلمات مدلهمة، على مر خمسة عشر قرناً هجرياً، لوجدت من أبرز صفاتهم البصيرة في الدين، فكيف يرتجى تجديد من جاهل أو من جماعة يقودها جاهل بالشرع، إن مثل هؤلاء ليخشى عليهم من تبديل الدين.

وهذا الواقع في كثير من دعاة العالم الإسلامي لا يختلف عن واقع الرياسة، وما تأخرت أحوال المسلمين وتقهقروا إلى ما هم عليه الآن شيئاً فشيئاً إلاّ بعد أن تولى أمرهم رؤوساً جهالاً، أقصوا أمر العلماء شيئاً فشيئاً، وإلاّ فالأصل أن يقدم العالم لقيادة الأمة إذا توافرت فيه بقية صفات القيادة، كما قدم الخلفاء الراشدون على غيرهم، فإن تعذر فلا أقل من أن يكون هناك مجلس شورى شرعي يكون هو الآمر الناهي، هذا هو الأصل الذي لما تخلف تخلف أهل الإسلام عبر عقود، بيد أن الولاية العامة لها أعمال ومهمات تختلف عن قيادة العمل الإسلامي، فإن من تحمل أعباء صياغة مجتمع صياغة إسلامية وتصدر لهذا لزمه أن يعرف الإسلام حق المعرفة أولاً.

وأخيراً حول هذا الموضع تثار شبهة حاصلها أنه لا رجال دين في الإسلام، بل المهندس والطبيب وغيرهما ينبغي أن يكونوا رجال دين. وهذه المقولة، أعني: (لا رجال دين في الإسلام)، ليست آية ولاحديثاً شريفاً، فإن كانت حقا، فما معناه؟

إن قصد بها: كل المسلمين ملزمين بالدين والتشريع وليس ثم طائفة بعينها هي المختصة بأحكامه الملزمة باتباع تشريعاته فهذا حق، ولا يحق لمن يدخل في ما لم يحط بعلمه، أو يتولى قياد ما لا يحسنه، أن يتشدق بهذه العبارة.
وإن قصد بها: أن أحكام الإسلام ليست حجراً محجوراً في المسجد والمصلى، فهذا حق ولا يحق لجاهل أن يحتج بها في تقحمه أمراً لم يحط بعلمه.

أما إن قصد بها: أن سياسة الناس بالشريعة في الإسلام، وكذا علم الحلال والحرام والاعتقاد كلأ مباح يأكل منه كل بهيم، ويتصرف فيه كل راع لقطيع، ويتحدث فيه كل لسان عرف الكلام، فاللهم لا بل يقال بهذا الاعتبار وبملء الفم: نعم في الإسلام وللإسلام رجال دين. ألم يقل الله _تعالى_: "وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً" [النساء:83]، وألوا الأمر هم العلماء والأمراء، وطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء، قال الإمام ابن القيم: "والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذ أمروا بمقتضى العلم فطاعتهم تبع لطاعة العلماء فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء"(1)، أليس العلماء هم ورثة الأنبياء، أليسوا بمنزلة نجوم السماء؟

ونحن لا نقول بأن من شرط العالم أن يتخرج من كلية الشريعة أو أصول الدين، وإن كان هذا هو الغالب وفقاً لما أملاه واقع الناس اليوم، بل إن بعض من يتخرج من الكليات الشرعية ليس أهلاً لأن يعد في عداد أهل العلم، وإن أحرز الدرجات، فضلاً عن أن يرشح قائداً، وقد رأيت بعض أصحاب تلك الدرجات يتحدث ويفتي فيأتي بالعجاب والطامات، فتذكرت قول ربيعة: لبعض من يفتي هاهنا أحق بالسجن من السراق، وصدق من قال:


وما كُل (دكتور) بصير بفنه ولا كل أستاذ جدير بأن يدري
وليس لزاماً أن يكون مؤهلاً فتى أحرز الألقاب أو صال في النشر

وقد يخرج أفراد عن الأصل فتجد طبيباً ما ألهاه التكسب بطبه، ولا ألهاه عن العلم، فبرز في علوم الشريعة وصار أهلاً للإفتاء في نوازلها، بعد أن تخرج على العلماء، ولزم حلقهم سنيين عدداً، ولئن كان هذا في خريجي الشريعة قليل، فوجوده في غيرهم أقل من القليل، غير أنا لا نمنع ممكناً، ولا نحجر واسعاً، ولكن من لك بالطبيب الذي درس العلم وحذق فيه ثم تصدر لقيادة الدعوة.
هذه خواطر، والله أسأل أن يصلح أحوال المسلمين، ويعلي كتابه وسنة رسوله وعباده الصالحين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

______________
(1) إعلام الموقعين 1/10.

------
المحرر :
ورد للموقع بعض الأسئلة من عدد من القراء فيما يتعلق بمقال فضيلة المشرف العام، المنشور في الموقع أعلاه ، وقد عرضت الأسئلة على فضيلة المشرف العام فتفضل بالإجابة على بعضها كما يلي :

السؤال (1):
في تفسيركم (لأولي الأمر) قدمتم العلماء على الأمراء في قولكم هم العلماء والأمراء، فهل لذلك معنى؟
ومامعنى طاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء؟
الجواب (1):
ما يتعلق بتفسيري لقوله سبحانه (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ )(النساء: من الآية83) بأنهم العلماء والأمراء، و أن طاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء ، فهذا ليس من قولي بل هو قول جمع من سلف الأمة وممّن صرَّح بذلك شيخ الإسلام حيث قدم العلماء على الأمراء كما في الفتاوى 3/250 ونصه (( وقد قال الأئمة: أن أولي الأمر صنفان، العلماء والأمراء، وهذا يدخل فيه مشايخ الدين وملوك المسلمين)) فقد قدّم العلماء هنا مرتين ونسبه للأئمة أيضاً فأين الخطأ الذي وقعت فيه وقد سبقني هؤلاء الأئمة ؟
وأما قولي: وطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء فهو قول الإمام ابن القيم – رحمه الله – كما في إعلام الموقعين 1/8 ونصه: (( والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، إلى أن قال – فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء)). فأين الخطأ هنا، وقد نسبت القول لصاحبه في المقال المذكور؟

السؤال (2):
هل هناك علاقة بهذا التفسير وبين ما أطلقه الخميني من القول بولاية الفقيه؟
الجواب (2):
ولاية الفقيه لها دلالتها المعروفة عند الرافضة وهي أنهم جعلوا الولاية للفقيه وحده، على منهج منحرف، ينتهي بهم إلى الدعوة إلى الخروج على الحكام كما عند المعتزلة في أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويريدون به الخروج على الحكام والأئمة .
وهذا يختلف تمام الاختلاف عن مبدأ الإمامة عند أهل السنة ، و الذي طبقه الصحابة ومن بعدهم، وجدده الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب – رحمهما الله – ، وفيه أن لكل جهة اختصاصها، فلايبغي أحد على الآخر، فالأمراء والحكام يرجعون إلى العلماء فيما يشكل عليها من أمر الشرع، وما يقرره العلماء يلتزم به الأمراء، لأن العلماء هم الموقعون عن رب العالمين.
وكذلك العلماء يوصون الأمة ويلزمونها بالسمع والطاعة للحكام بالمعروف، ويحرمون الخروج على الولاة مالم يروا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله برهان، وليس كما يدعو إليه الرافضة والمعتزلة.
كما أن العلماء هم السدّ المنيع ضد الفتن، يتعاونون مع الحكام في مواجهتها ووأدها ، وحماية المجتمع منها.
وبهذا تتكامل المسيرة، وتنعم الأمة بالأمن والأمان لايبغي أحد على أحد، ولكل حقوقه وعليه واجباته سواء كان عالماً أو حاكماً أو فرداً من أفراد الأمة.

السؤال (3):
هل قامت دولة إسلامية بهذا المفهوم الذي ذكرتم في هذا المقال؟
الجواب(3):
وهل يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل ؟
ماذا تقول عن دولة الخلفاء الراشدين؟ وعن مراحل مشرقة في دولتي بني أمية وبني العباس وما بعدهما من الدول الاسلامية ؟
بل ماذا تقول عن الدولة التي أقامها الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب وسار عليها أبناؤهم من بعد ، كما هو مبسوط في الدرر السنية وغيرها من كتب مؤرخي تلك الفترات ؟

السؤال (4):
ما الفرق بين الدعوة إلى الدولة الدينية والدولة المدنية؟
الجواب (4):
إن رفض الدولة الدينية والدعوة لدولة مدنية هو دعوة صريحة للعلمانية، ومن دعى إلى دولة مدنية ولم يصرح برفض الدولة الدينية قلنا عنه أن كلامه مجمل يحتاج إلى تفسير . ومن المعروف أن الدولة المدنية عند الغرب هي الدولة (اللادينية)، أي الدولة العلمانية .
وأما من يدعو في مجتمعنا إلى دولة (مدنية) رافضاً الدولة الدينية فهو في الحقيقة يدعو إلى القضاء على هذه الدولة واستبدالها بدولة أخرى.

وختاماً فإني أوضح أن المقال الذي أثار هذه الأسئلة ليس فيه أي حديث عن دولة دينية ولا غيرها، وإنما هو مقال في الدعوة إلى الله، وهو موجه لمعالجة مشكلة تعاني منها الدعوة والدعاة على مستوى الجمعيات والجماعات الإسلامية في العالم، ومسألة إقصاء العلماء ينطبق على الدول التي اتخذت العلمانية منهجاً في الحكم، وليس على الدول الإسلامية، حيث إن علاقة الحكام بالعلماء واضحة والتشاور، والمناصحة قائمة بينهما. مع استمرار محاولة الأعداء للإساءة إلى هذه العلاقة والحدّ منها، أسأل الله أن تبوء هذه المحاولات بالفشل وألا يحقق لهم مايتمنون (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(يوسف: من الآية21).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،