على بصيرة (1-2)
17 ربيع الثاني 1427

إذا تأملت واقع الدعوة المعاصرة في العالم الإسلامي، وجدت أن بعض قيادات الدعاة حقاً –وللأسف- ليسو من أهل البصيرة، أعني البصيرة التي تخولهم قيادة شأن دعوة شاملة، وذلك خطر عظيم إذ هو تنكب لطريق محمد _صلى الله عليه وسلم_، قال الله _تعالى_: "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" [يوسف:108] وقد اختلف المفسرون _رحمهم الله_ في قوله: "ومن اتبعني" على أي شيء عطفه، فقال بعضهم على قوله: (أنا) فعلى هذا أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به من العلماء دون من عداهم، وقيل بل هو عطف على الضمير المستتر في قوله: (أدعو)، وعلى هذا كان أتباعه هم الدعاة إلى الله، قال ابن القيم _رحمه الله_: " والتحقيق أن العطف يتضمن المعنيين فأتباعه هم أهل البصيرة الذين يدعون إلى الله"(1)، وهذا هو الصواب.

وعلى هذا فلابد أن يكون قائدُ الناس السالكُ بهم طريق محمد _صلى الله عليه وسلم_ لابد أن يكون من أهل الدعوة والبصيرة، بل لابد أن يكون سالك كل سبيل داع إليها من أهل البصيرة بها، ولو أن رجلاً مبتدئاً في الطب أسند إليه بعضهم مهمة الإشراف على طاقم ضخم من المختصين وغيرهم، لعد ذلك ضلالاً وضرباً من توسيد الأمر إلى غير أهله، مع أن للرجل بصيرة ببعض الطب! وعلم بمبادئه، ومع ذلك لا يوصف: بأنه على بصيرة تخوله الإشراف على ذلك الجم الغفير من المختصين وغيرهم، وكذلك واقع الدعوة اليوم، فإنك إن نظرت وجدت كثيراً من الدعاة المُبَرَّزين، بل من قيادات العمل الإسلامي من لم تكتمل لديهم البصيرة، بل ليست عندهم البصيرة الشرعية التي تؤهلهم للقيام بما هيئوا له، فهم ما تخصصوا في علم الشرعية وليس لهم مجلس علماء أعلى يصدرون عنه ويأتمرون بأمره، كشأن كثير من أهل الاستبداد المتحكمين، نعم قد يكون ذلك الرجل متخصصاً في أمور أخرى، وهو على خير وهدى وصلاح، ولكن مثله ليس أهلاً لأن يقود العمل الإسلامي؟

أويليق بطبيب حاذق أن يرأس فريقاً من المهندسين؟ وهل يناسب أن يرأس فريقاً من الجرَّاحين مهندس؟ وهل يحق لتربوي أن يرأس فريقاً من المتخصصين في الرياضيات الدقيقة أو في الفيزياء؟ عقلاء الناس كلهم يدركون أن هذا لايليق وإن كان فثم خلل، فكيف يسوغ إذاً أن يكون على رأس العمل الإسلامي والدعوة إلى الله _جل وعلا_ أناس ليسو من طلاب العلم المتخصصين؟

ولعل هذا سبب من أهم أسباب تأخر العمل الإسلامي، بل –وللأسف- فشل العمل الإسلامي في كثيرٍ من بلاد المسلمين، فإذا تأملت حالهم وجدت الذين يرأسون العمل ويوجِّهونه ويقومون بأمره ويتصدون لمعضلاته فيشيخون، أو يمنح لهم لقب الأستاذية، بل قد يكون لهم حق الطاعة في نظام الجماعة أو المؤسسة، إذا نظرت وجدتهم ليسو أهلاً لذلك، مع أنهم قد يكونون أخياراً صالحين، يحبون الإسلام، يبذلون الغالي والنفيس من أجل رفعه، وكل هذا حسن، ولكنه لا يكفي إذا لم يكن صاحبه على مستوى من العلم الشرعي يؤهله لقيادة العمل، وياللعجب! كيف يسترذل الناس أن يقود الأطباء طبيب غير متخصص، ولا يسوغ عندهم أن يقود العسكريين إلا ضابطٌ متقدم ورتبةً ومكانة، ويأبون إلاّ أن يقود المهندسين مهندسٌ، فإذا جاء أمر الدين وسياسة الناس به ودعوتهم إليه رضوا باتخاذ رؤوس جهال! وعلى أحسن الأحوال ليسوا علماء.

لقد جبت الأرض وسافرت فرأيت في كثير من بلاد المسلمين أناساً يقودون العمل الإسلامي وهم ليسوا أهلاً لذلك وللأسف، فإن وجدت لهم مجالس شرعية شورية وجدت فيها نفس العلة، وقل أن تجد فيهم العالم، فإذا وجد –ودنه خرط القتاد- وجدت دوره استشاري ورأيه غير ملزم، فهل حقاً تصدى أولاء للدعوة إلى الله؟ قد يقول لي قائل: ربما لم يجدوا إلا هذا، فليس عندهم عالم، وإن لم يكن إلا ذاك فلاشك أن من السياسة الشرعية تقديم الأكفأ فالأكفأ حسب الحاجة والطاقة والإمكان –كما قرر شيخ الإسلام في كتابه العظيم (السياسة الشرعية) بيد أنه يقال: أحقاً لا يمكن هؤلاء الظفر بمتخصص واحد في العلم الشرعي؟ لئن كان الجواب بنعم فإن في تلك الدعوة لإشكال، ولو فرض جدلاً أنه ما بها بأس ولكنه اندراس العلم في بلادهم أفلا يمكنهم أن يبعثوا نفراً ليتفقهوا في الدين خلال خمس أو عشر سنين ثم يجيئون لقيادة العمل.

إنني لا أجد مسوغاً ظاهراً لأن يبقى رجلٌ ليس من أهل العلم الشرعي يقود العمل والدعوة في بلد عشرين أو ثلاثين سنة أبداً، ولاينبغي أن يسوغ ذلك مطلقاً، وكيف يسوغ أمر عاقبته وخيمة على الدعوة، هل يجوز لنا أن نتعامى عن الأخطاء التي تعرض في عملهم ولكم تأخرت بسببها الدعوة؟ وتلك نتيجة بدهية فلو أن رجلاً متخصصاً في الرياضيات قاد فريقاً من الأطباء في عملية جراحية يوجه هذا ويأمر ذاك، أو يرتجى بعدها شفاء؟



أقول لنعمانٍ وقد ساق طبُه نفوساً نفيساتٍ إلى باطنِ الأرض
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض!

وأياً ما كان قصد نعمان هذا فلعلك توافقني فإن الأخذ على يده واجب، وإن أبى فالضرب عليها بمطرقة من حديد لازم، وكذلك الحال مع من يعدهم البعض مفكرين وعقلاء فيضعون فيهم ثقتهم ثم تأت الباقعة من أحدهم إذا تحدث في الدين فيشط كل الشطط ويشذ كل الشذوذ، يخالف الإجماع والمعقول ويأتي بأقوال منكرة في بدائه عقول طلاب علم الشريعة، فذلك يشير إلى وحدة الأديان، وهذا يصرح بجواز زوج النصراني الكافر أو الوثني من المسلمة، وثالث ينكر حد الردة، ورابع وخامس _وللأسف_ يجدون لهم بعد ذلك أنصاراً وأعواناً ومنتسبين ومحبين، وهكذا يستشري الضلال والإضلال في جسد تلك الدعوة، وتلك العاقبة التي ينبغي أن تنتظر إذا اتخذ الناس رؤوساً جهلاً، والله المستعان.

_____________
( ) الصواعق المرسلة 1/155.

----
المحرر :
ورد للموقع بعض الأسئلة من عدد من القراء فيما يتعلق بمقال فضيلة المشرف العام، المنشور في الموقع أعلاه ، وقد عرضت الأسئلة على فضيلة المشرف العام فتفضل بالإجابة على بعضها كما يلي :

السؤال (1):
في تفسيركم (لأولي الأمر) قدمتم العلماء على الأمراء في قولكم هم العلماء والأمراء، فهل لذلك معنى؟
ومامعنى طاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء؟
الجواب (1):
ما يتعلق بتفسيري لقوله سبحانه (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ )(النساء: من الآية83) بأنهم العلماء والأمراء، و أن طاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء ، فهذا ليس من قولي بل هو قول جمع من سلف الأمة وممّن صرَّح بذلك شيخ الإسلام حيث قدم العلماء على الأمراء كما في الفتاوى 3/250 ونصه (( وقد قال الأئمة: أن أولي الأمر صنفان، العلماء والأمراء، وهذا يدخل فيه مشايخ الدين وملوك المسلمين)) فقد قدّم العلماء هنا مرتين ونسبه للأئمة أيضاً فأين الخطأ الذي وقعت فيه وقد سبقني هؤلاء الأئمة ؟
وأما قولي: وطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء فهو قول الإمام ابن القيم – رحمه الله – كما في إعلام الموقعين 1/8 ونصه: (( والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء، إلى أن قال – فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول – صلى الله عليه وسلم – فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء)). فأين الخطأ هنا، وقد نسبت القول لصاحبه في المقال المذكور؟

السؤال (2):
هل هناك علاقة بهذا التفسير وبين ما أطلقه الخميني من القول بولاية الفقيه؟
الجواب (2):
ولاية الفقيه لها دلالتها المعروفة عند الرافضة وهي أنهم جعلوا الولاية للفقيه وحده، على منهج منحرف، ينتهي بهم إلى الدعوة إلى الخروج على الحكام كما عند المعتزلة في أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ويريدون به الخروج على الحكام والأئمة .
وهذا يختلف تمام الاختلاف عن مبدأ الإمامة عند أهل السنة ، و الذي طبقه الصحابة ومن بعدهم، وجدده الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب – رحمهما الله – ، وفيه أن لكل جهة اختصاصها، فلايبغي أحد على الآخر، فالأمراء والحكام يرجعون إلى العلماء فيما يشكل عليها من أمر الشرع، وما يقرره العلماء يلتزم به الأمراء، لأن العلماء هم الموقعون عن رب العالمين.
وكذلك العلماء يوصون الأمة ويلزمونها بالسمع والطاعة للحكام بالمعروف، ويحرمون الخروج على الولاة مالم يروا كفراً بواحاً عندهم فيه من الله برهان، وليس كما يدعو إليه الرافضة والمعتزلة.
كما أن العلماء هم السدّ المنيع ضد الفتن، يتعاونون مع الحكام في مواجهتها ووأدها ، وحماية المجتمع منها.
وبهذا تتكامل المسيرة، وتنعم الأمة بالأمن والأمان لايبغي أحد على أحد، ولكل حقوقه وعليه واجباته سواء كان عالماً أو حاكماً أو فرداً من أفراد الأمة.

السؤال (3):
هل قامت دولة إسلامية بهذا المفهوم الذي ذكرتم في هذا المقال؟
الجواب(3):
وهل يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل ؟
ماذا تقول عن دولة الخلفاء الراشدين؟ وعن مراحل مشرقة في دولتي بني أمية وبني العباس وما بعدهما من الدول الاسلامية ؟
بل ماذا تقول عن الدولة التي أقامها الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب وسار عليها أبناؤهم من بعد ، كما هو مبسوط في الدرر السنية وغيرها من كتب مؤرخي تلك الفترات ؟

السؤال (4):
ما الفرق بين الدعوة إلى الدولة الدينية والدولة المدنية؟
الجواب (4):
إن رفض الدولة الدينية والدعوة لدولة مدنية هو دعوة صريحة للعلمانية، ومن دعى إلى دولة مدنية ولم يصرح برفض الدولة الدينية قلنا عنه أن كلامه مجمل يحتاج إلى تفسير . ومن المعروف أن الدولة المدنية عند الغرب هي الدولة (اللادينية)، أي الدولة العلمانية .
وأما من يدعو في مجتمعنا إلى دولة (مدنية) رافضاً الدولة الدينية فهو في الحقيقة يدعو إلى القضاء على هذه الدولة واستبدالها بدولة أخرى.

وختاماً فإني أوضح أن المقال الذي أثار هذه الأسئلة ليس فيه أي حديث عن دولة دينية ولا غيرها، وإنما هو مقال في الدعوة إلى الله، وهو موجه لمعالجة مشكلة تعاني منها الدعوة والدعاة على مستوى الجمعيات والجماعات الإسلامية في العالم، ومسألة إقصاء العلماء ينطبق على الدول التي اتخذت العلمانية منهجاً في الحكم، وليس على الدول الإسلامية، حيث إن علاقة الحكام بالعلماء واضحة والتشاور، والمناصحة قائمة بينهما. مع استمرار محاولة الأعداء للإساءة إلى هذه العلاقة والحدّ منها، أسأل الله أن تبوء هذه المحاولات بالفشل وألا يحقق لهم مايتمنون (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)(يوسف: من الآية21).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،،،