خصائص الدلالة الشرعية للنصوص
8 ربيع الثاني 1427

الوقوف على خصائص وحي الله ـ تعالى ـ والمتمثل في كتابه , والصحيح من سنة رسوله- صلى الله عليه وسلم-, أمر جدير بالفقه, كي يتعرف المسلم على طبيعة العلاقة التي تحكم موقفه من الكتاب والسنة: قبولاً واتباعاً , في زمن أصبح لأهل الأهواء من العصرانيين, والعقلانيين هجوم على النصوص الشرعية, وعبث بدلالاتها وإخضاعها للنقد, ومحاولة تطويعها لتوافق أغراضهم, وصدق الله: "وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ" (الأنعام: من الآية 121) ومن أهم خصائص الدلالة الشرعية للنصوص:

أولا: خاصية الثبات، فكلام الله _تعالى_ وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم - هما الحق الثابت الذي لا يتغير ولا يتبدل، قال _تعالى_: "وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (الأنعام: 115)0قال العلامة ابن عاشور: "هذه الجملة معطوفة على جملة "أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً" (الأنعام: من الآية 114)؛ لأن تلك الجملة مقول قول مقدر، إذ التقدير: قل أفغير الله أبتغي حكما باعتبار ما في تلك الجملة من قوله: "وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً" (الأنعام: من 114) فلما وصف الكتاب بأنه منزل من الله، ووصف بوضوح الدلالة بقوله: "مُفَصَّلاً" ثم بشهادة أهل الكتاب بأنه من عند الله بقوله: "وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ" (الأنعام: من الآية 114) أعلم رسوله - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنين بأن هذا الكتاب تام الدلالة، ناهض الحجة، على كل فريق: من مؤمن وكافر، صادق وعده ووعيده، عادل أمره ونهيه"(1).

وهذا بخلاف نصوص القوانين الوضعية، التي تتغير شكلاً ومضموناً بتغير الزمان والمكان، ويطرأ عليها ما يطرأ على كلام البشر من نقص وقصور0وماتدعيه الحداثة من نسبية الحقيقة وقضية إسقاط المطلق (الإطار المرجعي وهي قضية ربوبية الله- تعالى-والوهيته) فالقول بأن كل الحقائق نسبية هو قدح في ثبات حقائق الشريعة لأنه يصبح وفق تيك النظرية إيجاد حقائق خارج إطار الشريعة تعود على الحقائق الشرعية بالإبطال. وقد رأى الناس من يدافع عن حقوق الآخرأياكانت0

ثانياً: خاصية الشمول، فدلالات الكتاب والسنة جاءت عامة، بمبانيها ومعانيها، شاملة لكل ما يجد في الحياة من حاجات، وما يطرأ على الناس من مشكلات0 قال _تعالى_:
"وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" (النحل: من الآية 89). يقول العلامة السعدي:" وقوله "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ" في أصول الدين وفروعه، وفي أحكام الدارين، وكل ما يحتاج إليه العباد، فهو مُبين فيه أتم تبيين، بألفاظ واضحات، ومعان جلية00حتى إنه _تعالى_ يجمع في اللفظ القليل الواضح، معاني كثيرة، يكون اللفظ لها كالقاعدة والأساس"(2)

ثالثا: خاصية العصمة، فهذه السمة بقدر ما هي في حقائق الشريعة؛ فهي في ألفاظها ودوالها، قال _تعالى_: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" (الحج: 52)، وقد بين الشاطبي عند كلامه على هذه الآية أن الله - تعالى - " يحفظ آياته ويحكمها، حتى لا يخالطها غيرها 00والسنة وإن لم تذكر فإنها مبينة له ودائرة حوله، فهي منه وإليه ترجع معانيها"(3) ثم قرر- رحمه الله - أن الحفظ شامل للسنة.

وقد تقرر عند أهل العلم أن" العصمة بقدر ما هي في حقائق الشريعة فهي في ألفاظها ودوالِّها"(4).
وأطال ابن القيم النفس في تقرير هذا الأمر ودعا المفتي إلى الاعتصام بلفظ الشارع ما أمكنه فإنه" يتضمن الحكم والدليل مع البيان التام، فهو حكم مضمون له الصواب، متضمن للدليل عليه في أحسن بيان، وقول الفقيه المعين ليس كذلك، وقد كان الصحابة والتابعون والأئمة الذي سلكوا على مناهجهم يتحرون ذلك غاية التحري، حتى خلفت من بعدهم خُلُوف رغبوا عن النصوص، واشتقوا لهم ألفاظاً غير ألفاظ النصوص، فأوجب ذلك هجر النصوص، ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم والدليل وحسن البيان، فتولد من هجران ألفاظ النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، فألفاظ النصوص عصمة وحدة بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب ولما كانت هي عهد الصحابة وأصولهم التي إليها يرجعون كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم، وخطؤهم فيما اختلفوا فيه أقل من خطأ من بعدهم، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك، وهلم جرا، ولما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض، وقد كان أصحاب رسول الله_صلى الله عليه وسلم_ إذا سئلوا عن مسألة يقولون: قال الله كذا، قال رسول الله كذا، أو فعل رسول الله كذا، ولا يعدلون عن ذلك ما وجدوا إليه سبيلاً قط ، فمن تأمل أجوبتهم وحدها شفاء لما في الصدور، فلما طال العهد وبعد الناس من نور النبوة صار هذا عيباً عند المتأخرين أن يذكروا في أصول دينهم وفروعه قال الله، وقال رسول الله. والمقصود أن العصمة مضمونة في ألفاظ النصوص ومعانيها في أتم بيان وأحسن تفسير.."(5)

رابعاً: خاصية القداسة، وهذه الخاصية مستمدة من الذي أنزل هذا الدين، فهو _تعالى_ القدوس السلام، المبرأ والمنزه عن كل عيب ونقص، فكذلك خلقه وأمره 0
فهذه السمات تقطع الطريق على كل من يريد أن يخضع نصوص الوحيين، للنقد والتحليل، وفق الفكر البنيوي، أو العصراني أو غيرها من المناهج الدخيلة على ديننا وثقافتنا. والله _تعالى_ أعلم.

___________________
(1) التحرير والتنوير: (7/14).
(2) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان ، للشيخ عبدالرحمن السعدي ، ص: 447.
(3) الموافقات : (2/40).
(4) المصدر السابق.
(5) إعلام الموقعين : (4 / 170-172 ).