أنت هنا

الليبرالية العربية العبثية الجديدة : شاكر النابلسي أنموذجاً
8 ربيع الثاني 1427

جيش لجب تخاله من وراء غبار كثيف، فإذا ما انقشع الغبار تجردت الحقيقة، عاصفة تراب بلا رجال.. ليبرالية جديدة أو نبتة بغير جذور وأفكار بلا أصول.
هذا الفارق الأصيل بين ليبرالية تعني حرية تشمل مناح عديدة للحياة، تختلف معها لكن يمكنك أن تحترم بعض مبادئها، وليبرالية جديدة تريد أن تختزل طريق فهمها فتعمد إلى قراءة جميع توصيات دوائر الاستخبارات الغربية، الأمريكية منها على وجه الخصوص.

والحق أن هذه الليبرالية الجديدة قد لا تستحق عناء الكتابة عنها من حيث هي كأفكار متهافتة لا تقوى أن تقف بصلابة أمام قيم هذه الأمة وموروثاتها الحضارية، وإنما الدافع من وراء الحديث عنها يستوجبه كونها بيارق على دبابات احتلال ينبغي مقاومتهما معاً سواء بسواء.

ومن هنا كانت محاولة توصيف هذه النحلة الجديدة هي إحدى مستلزمات تحصين الشعوب العربية، وتحجيم دهاقنتها، غير أن تحديد أهدافها هو الآكد من توصيفها الذي قد يتصادم مع براجماتية منظريها واقترابهم من حيز المرغوب أمريكياً مثلما هو الحال مع منافقي الديكتاتوريات الذين يهللون للتحولات السياسية الجديدة بعد أيام من مدحهم لاستقرار الأنظمة الذي هو مرادف لتكلس هذه النخب الحاكمة على عروشها.

وأهداف هؤلاء الليبراليون العرب الجدد باتت كما تقدم بحاجة إلى فهم استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة العربية والحوض الإسلامي الأكثر اتساعاً، ويمكن تحديد هذه الاستراتيجية في عنوانها العريض بالهيمنة على المنطقة سياسية واقتصاداً وأفكاراً بما يندفع معه ممهدو الطريق القيمي والسلوكي والأخلاقي لمحو العقابيل من أمام الغازي الأمريكي وأزلامه، وفي عناوينها الواضحة من خلال أدبيات كونداليزا وهيوز وأخواتهما، والتي تترجم إلى عناوين جزئية من خلال ميليشيا الليبرالية الجديدة، والتي نختار لها نموذجاً من أوضح ممثليها، هو شاكر النابلسي المقيم حيث الأم الرؤوم لليبراليين (أمريكا) تتمثل فيما يلي:

هدم المقدس لدى الأمة:
ليس لدى الليبراليين الجدد مقدساً يجلونه إلا ما كان مرضياً من الولايات المتحدة الأمريكية، ويلفت النظر هنا أن التوراة لا تتعرض لأي نقد بالمرة من سدنة هذا الفكر في الوقت الذي يوضع فيه القرآن على سندان النقد، وهنا نطرح السؤال استناداً إلى ما قيل عن تبرؤ أسرة النابلسي منه: هل للرجل جذور لا نعرفها؟
هناك ما يدعنا للتشكك وقد لاقينا مدحاً للتوراة هنا لاعتبارها ملهمة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان يستقي منها قرآنه على حد مفهوم كلام النابلسي!!: "إن نصوص التوراة كانت بين يدي الرسول ومتوفرة لمن شاء القراءة والدرس، ولابد من أن الرسول في هذه الفترة كان قد اطلع على التوراة –أو قُرئت له- بإمعان، وفهمها وصدَّقها" (كتاب المال والهلال)، و"تأثير العقيدة اليهودية الواضح في العقيدة الإسلامية والذي كان أكبر من تأثير العقيدة المسيحية" دافعاً للظن ذاته، ويدعم ذلك قوله في ذات الكتاب: "نلاحظ أن الآيات التي لعنت اليهود (يهود المدينة على وجه الخصوص) وهي ثماني آيات –في سور البقرة والمائدة والتوبة- كانت كلها مدنية، وبعد أن اختلف الرسول صلى الله عليه وسلم مع يهود المدينة بالذات على أمور مادية وعقائدية، وكان الرسول قبلها على وفاق مع اليهود، وأشركهم في أول دولة إسلامية أقامها في المدينة، في حين أن الآيات التي كرّمت موسى والكتاب والعقيدة اليهودية التي جاء بها كانت كلها آيات مكية قبل هجرة الرسول إلى المدينة، وقبل خلاف الرسول مع يهود المدينة خاصة، علماً بأن اليهود كانوا في مكة ولم يلعنهم القرآن طيلة ثلاث عشرة سنة من بدء الدعوة الإسلامية في مكة وحتى سنة الهجرة إلى المدينة، ذلك أن الرسول لم يكُ على خلاف مع يهود مكة في ذلك الوقت كما صار عليه الحال بعد هجرته إلى المدينة" وهو ما يشرعن من دون إعمال تفكير للتطبيع مع الكيان الصهيوني لاعتباره كيان لديانة مهضومة تعامل معها الإسلام ببراجماتية!!

(نكرر هنا أن النابلسي لم يتعرض بالمرة للعقيدة اليهودية, وتوجه للرئيس الأمريكي أحد أشهر الرؤساء الأمريكيين التصاقاً باليمين الصهيوني بالتهنئة على فوزه بفترة ثانية، وزعم أن تحريم الربا كان لخلاف مع اليهود بل كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيداً باليهود" مثلما تقيأ الكاتب في كتابه الآنف الذكر..).

والقرآن على حد قول النابلسي في المصدر ذاته: "الأخبار التي وردت فيه عن الماضي وعن حاضر القرآن غير موثّقة بتواريخ محددة، أو بمصادر تاريخية أخرى موثوقة تسندها، يستطيع المؤرخ أو الباحث معها اعتمادها، وبناء أحكامه واستنتاجاته على أساسها" وبالتالي فالنابلسي يحتاج لكتاب موثوق نستطيع أن نوثق به القرآن وإلا نبذناه!!

هدم رموز هذا المقدس لدى الأمة:
العلماء المستقلون والدعاة المتحضرون والمصلحون الوطنيون هم أهداف للتدريب على التصويب ثم التصويب الفعلي، وهنا فكل ما يعترض طريق أمريكا بالنسبة للنابلسي هو معرض لقذائفه الكلامية، فالشيخ القرضاوي داعية إرهاب يستحق توقيفه وإحالته إلى القضاء الدولي "العادل" لأنه يفتي للإرهاب، والحقيقة أن الشيخ القرضاوي برغم إشادة عمدة لندن باعتداله هو عند القوم إرهابي خطير لا يقل في إرهابه عن بن لادن والزرقاوي على حد توصيف النابلسي، الذي لا يتورع عن سب الشيخ بهذه الألفاظ: "أي مخادع ولاعب سياسي رخيص ورثِّ الفتاوى هذا الشيخ الذي يقود العمل السياسي/الديني العربي الآن" (الحوار المتمدن 12/9/2004)، وكذلك القيادي الإسلامي التونسي راشد الغنوشي الذي يعد من الشخصيات الأكثر اعتدالاً للحد الذي يثير حنق التيارات السلفية عليها أحياناً، وأيضاً من أسماهم بـ"شيوخ سفك الدماء" في المقال ذاته وهم "البيومي والرفاعي والزيدان والترابي والصدر وغيرهم"!

ويلاحظ هنا أن هذا الفكر الشارد في علمانيته يفارق تطرفه هذا حينما يتعلق الأمر برغبة أمريكية في أن تبقي بعض المقدس مقدساً في النفوس لحاجة في نفس أمريكا وأيضاً رموز هذا المقدس إذا ما اقتضى الأمر، فكم ضربت هذه النخبة الذكر صفحاً عن كلمات مثل "إن فصل الدين عن الدولة هو مجرد خرافة" التي كررها مراراً من دون أن يسمعها النابلسي وشيعته ديفيد بارتون مساعد الرئيس الأمريكي جورج بوش أثناء حملته الانتخابية الماضية في العشرات من كنائس حزام الإنجيل الأمريكي، تلكم العبارة التي لو قالها غيره في بلاد العرب لأوسعه النابلسي بدرة الفكر المستنير..

وكم تجاوزت عن تمجيد الغرب والشرق لأفعال البابا الراحل وتدخله في السياسة بل وقيامه بأعمال استخبارية أدت إلى تفكك الاتحاد السوفيتي السابق الذي كان النابلسي وكثير من زملائه إلى منظومته الفكرية اليسارية ينتمون، وكم نسيت أن أوروبا قد تحولت إلى قداس كبير يؤبن البابا ويمجد دوره الديني/السياسي النافذ، وكم تجاهلت تدخلات شيخ الأزهر والسيستاني بفتاويهم المسيسة التي تصب في صالح النخبة الليبرالية الجديدة وامتداداتها الرسمية في مصر والعراق..

وبرغم أن النابلسي ذي الجذور اليسارية التي يرى بعض دهاقنته أن "الدين أفيون الشعوب"؛ فإنه قد سكت على هذا التدجين الذي يمارس هنا وهناك باسم الدين ما دام قد حظي بالرضا الأمريكي فالبيعة واجبة ومقاطعة الاستفتاء ليست موقفا سياسيا تحترمه النخبة الليبرالية وإنما كبيرة من الكبائر تستوجب غضب الرب لأنها كتمان شهادة "ومن يكتمها فإنه آثم قلبه"، تماما مثلما كانت مقاطعة الانتخابات البرلمانية العراقية على لسان السيستاني موجبة لدخول النار!! وهل اعترضت أمريكا على الفتوتين حتى يناوئهما الليبراليون..

إلغاء الوطن والعروبة لصالح العولمة:
العولمة عند القوم هو ذلك الثقب الأسود الذي أطاح بجاذبية الوطنية والقومية وأحالهما صفحات من التاريخ، وبالتالي فإن الحديث عن العروبة وغيرها من المواد الصلبة الجامعة لمكونات البنية المقاومة لهذه الشعوب هو درب من دروب التخلف والرجعية التي لا يرضى الليبراليون الجدد عنها بحال، ويصبح في ملة النابلسي واعتقاده جلب الديمقراطية بأي وسيلة كانت ولو فرطت الدول العربية والإسلامية في سيادتها أمراً طبيعاً بل واجباً إذ لم يكن متاحاً إلا هو، ونستطيع أن نلمس تحريضاً على أي استجلاب للقوى الأجنبية واستحساناً له ما دام يصب في مصلحة الديمقراطية لا بل في مصلحة راعية الديمقراطية التي زعم أنه بسقوط الاتحاد السوفيتي فإن الأنظمة الديكتاتورية قد أضحت في موقع يؤهل شعوبها للتحرك بمساندة أمريكية جعلته يشيد بأي تحرك مأذون فقط من الولايات المتحدة كما في لبنان وسوريا وغيرهما ويسكت عما سكتت عنه الولايات المتحدة الأمريكية..
وإذ خرج النابلسي من رحم بيئة كانت تعتبر الالتصاق بالاتحاد السوفيتي هو عين الوطنية؛ فإنه ومع سقوط الاتحاد السوفيتي قد غدا ذاهلاً عن أي معنى للوطنية في غياب الأم الوطنية!!

مكافحة المقاومة المناوئة للولايات المتحدة الأمريكية:
يضع النابلسي وشيعته كل أعمال المقاومة في خانة الإرهاب، ويستحيل أن يصادفك ليبرالياً جديداً يشيد بأي عمل مقاوم للوجود الأمريكي الاحتلالي أو الاحتلال "الإسرائيلي" على حد سواء، ومن المخزي الذي لا تفسير له عند العقلاء من الليبراليين الجدد هذا المذهب النابلسي الجديد الذي يبدل الاحتلال مكان المواطنين والمواطنين مكان الاحتلال، فالمقاومة العراقية صارت احتلالاً لبلدها والمحتلون براء، يقول النابلسي: "إن إصرار أمريكا وبريطانيا والحكومة العراقية المؤقتة على تحقيق الانتخابات هو نصر مؤكد لمستقبل العراق السياسي مهما حاولت فصائل الاحتلال الإرهابي الأصولي الدموي والإعلامي محاربتها وعدم تحقيقها." (إيلاف: 22/1/2005).

وإذ يشيد كثيراً بالسيستاني الموالي للاحتلال الغربي؛ فإنه يعتبر الصدر وهو مرجعية شيعية أيضاً لا يفرقها عن السيستاني سوى عدم تماهيها مع الاحتلال ومناهضته له وإن سلمياً في غالب الأحيان "آخر الدمامل المُتقيّئة في الجسم العراقي" زاعماً أن "المساعي السلمية لإزالة هذا الدُمّل المتقيئ بالسلام والسياسة لم تفلح، وكان لا بُدَّ لإزالته من جراحة عسكرية عسيرة." (الحوار المتمدن 17/8/2004)، والمقاومة عند النابلسي هي خليط من تقطيع الأجساد وجز الرؤوس وقتل الأطفال لا غير، وكل مقاوم بنظره هو إرهابي، وما احتفاله بقصف الفلوجة بشتى أنواع الأسلحة واستهدافها مدنيين ومقاومين بخارج عن سياق ينثر الحبور لدى سماع قصف مدينة لتتحرر من أسر "طالبان العراقية"، والنابلسي وشيعته لا يفتح الملف من أوله ليسأل عن المسؤول عن وجود طالبان الافتراضي في العراق ومن إلى ذلك أوجد المجموعات التي تهاجم نساء الجنوب الشيعيات لرفضهن الحجاب؟ أم أن الحجاب السيستاني محمود وإن أتى قسراً، وحجاب طالبان هو عين قيد الحرية التي تحبها بلاد العام سام؟!

وإذا كانت تلك هي العناوين الجزئية لفكر الليبراليين العرب الجدد، فإنه بمقدورنا أن نلم شعاثه في النقاط التالية:
• هو فكر يجمع المتناقضات: فهو يتحدث عن ضرورة التحرك باتجاه إطلاق الحريات والأفكار وترسيخ الديمقراطية والترحيب بها وإن جاءت على دبابة أمريكية، ثم هو في الوقت عينه لا يجد غضاضة في أن تتسود الولايات المتحدة الأمريكية العالم وتحكمه بطريقة فردية ديكتاتورية من خلال هيئة الأمم المتحدة التي صيرتها مطية لأهدافها الإمبراطورية، وهو كذلك لا يريد للنسائم الحرية أن تهب إلا على من تريد الولايات المتحدة الأمريكية لها أن تهب عليها في المنطقة العربية، فإذا انحرفت رياح الحرية عن جوانتنامو أو أبو غريب أو أقبية السجون التي ترضى عنها أمريكا فلا ضير.

• هو فكر مجتزأ: يحشد جنوده للتوقيع على بيان يدعو الأمم المتحدة لتطبيق قراراتها فيما يخص مكافحة ما يسمونه الإرهاب، يجمع له النابلسي والعفيف الأخضر من حصروهم بـ 3000 ويعملون على جمع 10 آلاف توقيع لمحاكمة الشيخ القرضاوي وغيره ممن دعوهم بفقهاء الإرهاب، وهم في المقابل لا يبالون بالاستبداد والقهر والفساد الذي يعشش في البلاد العربية بمباركة من وطن النابلسي (أمريكا)، مع أن العشرات في بلادنا هم من يصطلون بنيران "الإرهاب" فيما تتلظى مئات الملايين من شعوب المنطقة بأنظمة الديكتاتورية والفساد والطغيان المأذونة أمريكياً، وهو فكر لا يعتبر نهب ثروات الشعوب جريمة بمليارات الدولارات وينزعج لمئات الآلاف منها تجمعها الجمعيات الخيرية في البلاد الإسلامية لكفالة يتيم أو إعالة أرملة..

• وهو فكر إقصائي: ينزعج أن يصدر عدد من العلماء في السعودية بياناً يضم 26 عالماً فقط لإبداء المساندة المشروطة للمقاومة العراقية بالتزام الشرع، ويحرض عليهم لحد المطالبة بتوقيفهم ومحاكمتهم في محاكم تفتيش دولية، ولا يتورع أن يحتكر إصدار البيانات الداعية إلى بث دجله الفكري بآلاف المصوتين..

• وهو فكر يبتعد كثيراً عن قيم البحث الأكاديمية: فكثيراً ما يستبيح الكذب في النقل عن من يصارعهم فكرياً أو بالأحرى يحرض عليهم الأجهزة الأمنية العالمية والمحلية.
وإجمالاً، فتلك أفكار إذا وضعت إلى جوار بعضها أمكن تحديد الدور المنوط بهذه العصبة التي تريد أن تنسف كل مقدس تبني الأمة عليه عناصر مقاومتها للغازي القادم، تحرث بسبيله الطريق لاستنبات نبتة الغرب الخبيثة وتمهيد الطريق لاجتياح دباباته..