الحرص!
3 ربيع الثاني 1427

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد:
إن بعض الناس يظن أن الحرص مذموم بإطلاق، وليس هذا صحيح، بل الحرص منه المحمود ومنه المذموم، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة أن الله يسأل ملائكته عن عباده وهو بهم أعلم فيقول: ما يقول عبادي؟
قالوا: يسبحونك ويكبرونك ويحمدونك ويمجدونك.
قال فيقول: هل رأوني؟
قال فيقولون: لا والله ما رأوك.
قال فيقول: وكيف لو رأوني؟
قال يقولون: لو رأوك كانوا أشد لك عبادة وأشد لك تمجيداً وتحميداً وأكثر لك تسبيحاً.
قال يقول: فما يسألوني؟
قال: يسألونك الجنة.
قال يقول: وهل رأوها؟
قال يقولون: لا والله يا رب ما رأوها.
قال يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟
قال يقولون لو أنهم رأوها كانوا أشد عليها حرصا وأشد لها طلبا وأعظم فيها رغبة.. الحديث(1). وهذا هو الشاهد، فذكر الله حرصهم في معرض المدح.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال _صلى الله عليه وسلم_: "احرص على ما ينفعك"(2)، وفي التنزيل: "لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ" [التوبة:128].

ولكن الحرص المذموم ما كان على أمر دنيا لا نفع فيه أو ضرره أكبره من نفعه، فمثل هذا الحرص جدير بأن يذم صاحبه، وقد نسبه الله لليهود في معرض التعريض، فقال: "وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ..." [البقرة:96].

ولعل من المفاهيم الخاطئة عد الحرص على أمور الدعوة محمودا بإطلاق والحق أن الحرص حتى على أمر الدين نوعان؛ حرصٌ إيجابي وحرصٌ سلبي، فالحرص إذا كان هو الدأب على اتخاذ الوسائل اللازمة لتحقيق هداية الناس ومقاصد الشرع فهو حرصٌ إيجابي، يفرح ويحزن.

وينبغي أن يتحرك في نفس المؤمن ضمن الأطر الشرعية والعقلية والبشرية، أما إذا كان الحرص يؤثر سلباً على النفس، وربما أحبط فذلك حرص سلبي؛ لأنه تعدى ما يجب من بذل الأسباب والجد والاجتهاد، إلى تعلق النفس بحصول النتائج، وهذا ليس إلينا، ولذلك يقول الله _جل وعلا_: "وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ"، "إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ" [النحل:37]، "فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ" [فاطر: من الآية: 8]، "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً" [الكهف:6]، "لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" [الشعراء:3]، "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ" [القصص: من الآية56] فكل هذه الآيات تقول للنبي – صلى الله عليه وسلم – عليك بالحرص الإيجابي، أما الحرص الذي يؤدي إلى إجهاد النفس وإرهاقها بأنواع الضغوط النفسية فلا داعي له؛ لأن هداية البشر بيد الله _جل وعلا_، وقلوب البشر بين أصابع الرحمن _جل وعلا_، لا نملكها نحن البشر، وإنما نملك البلاغ، "إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ..." [الشورى: 48]، "فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ" [النحل: 35].

فالواجب الاعتدال في الدعوة، والتفريق بين الحرص على المبادرة وبذل الأسباب واستفراغ الوسع، وبين الحرص الذي يحطم النفس إن فات مقصودها، فذلك حرص على ما لم يجعله الله إلينا، وليس وراؤه إلاّ إثقال النفس بالهموم وإحراقها، أما العمل الدؤوب وبذل الجهد وما باليد من الأسباب الشرعية المقدورة فحري أن نحرص عليه، وهذا من جملة الحرص الإيجابي طالما لم يكن على حساب الواجبات الأخرى، أما أن تتبع نفسك أمراً ليس إليك وتملؤها غماً إذا فاتك ما تصبوا إليه، فذلك الحرص الذي قد يصل بك إلى التشاؤم واليأس والقنوط فالاعتزال، أو الاستعجال فالتنازل عن الدين أو التهور وركوب كل صعب يحسب من الدين وهو منه براء، وكل هذا منهي عنه "فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ" [فاطر: من الآية8].

ولابد أن تعلم أن للهداية أهلاً اختصهم الله بها، "وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ" [يوسف:103]، "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ" [آل عمران:20]، "إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ" [الشورى: من الآية48]، ولك في مؤمن آل فرعون أسوة تولى وهو يقول: "فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ" [غافر:44-45].
وفقني الله وإياك للحرص على ما ينفعنا، والاشتغال بما يلينا...

______________
(1) صحيح البخاري 5/2353 (6045).
(2) صحيح مسلم 4/2052 (2664).