أنت هنا

التطبيع.. أيصبح العدو اللدود صديقاً حميماً! (1)
20 ربيع الأول 1427

اشتق لفظ التطبيع (Normalization) من الكلمة الإنكليزية (Normal) بمعنى العادي أو المعتاد أو المتعارف عليه، وفي مختار الصحاح (الطبع هو السجية جبل عليها الإنسان)، وفي المعجم الوسيط (تطبع بكذا أي تخلّق به، وطبّعه على كذا أي عوّده إياه)، ولا توجد مادة تطبيع في المعاجم العربية لأنها محدثة، فالمعنى الحالي مأخوذ من ترجمة هذه الكلمة عن لفظة إنكليزية تم تداولها أخيراً خاصةً بعد اتفاقيات كامب ديفيد، لكن يمكن تصور المعنى من كلمة التطبيع من حيث المبدأ أنه (هو العودة بالأشياء إلى سابق عهدها وطبيعتها).

حقيقة التطبيع مع اليهود:
"أنه يشمل (كل اتفاق رسمي أو غير رسمي أو تبادل تجاري أو ثقافي أو تعاون اقتصادي مع إسرائيليين رسميين أو غير رسميين) ويهدف إلى (إعادة صياغة العقل والوعي العربي والإسلامي بحيث يتم تجريده من عقيدته وتاريخه ومحو ذاكرته خاصة فيما يتعلق باليهود، وإعادة صياغتها بشكل يقبل ويرضى بما يفرضه اليهود) ومآله: الاستسلام غير المشروط للأمر الواقع والاعتراف بالكيان الصهيوني الغاصب للأرض كدولة ذات شرعية، وتحويل علاقات الصراع بينها وبين البلدان العربية والإسلامية إلى علاقات طبيعية وتحويل آليات الصراع إلى آليات تطبيع " (ورقة لحسين عبيدات ألقيت في المؤتمر العام العاشر للصحفيين العرب عام 2004 م).

وبذلك يتضح أن المقصود بالتطبيع هو سلام دائم وليس عبارة عن هدنة مؤقتة ومسالمة يركن إليها المسلمون لضعفهم في زمن معين - كما يعتقد بعض من يقولون بجواز التطبيع - باعتبار أنه صُلحٌ أو سِلمٌ جنح له العدو، ولا يخفى أن هناك فرقأً شاسعاً بين اتفاقيات التطبيع وبين أحكام الهدنة والصلح التي ذكرها العلماء، وأهون ما يمكن أن يقال عن هذه الاتفاقيات أنها صلح دائم مع عدو محتل لأرض المسلمين غاصب لمقدساتهم وهذا محرم باتفاق المسلمين، وقد قال جمع من علماء المسلمين أن الصلح الدائم مع اليهود لا يجوز شرعاً لما فيه من إقرار الغاصب على الاستمرار في غصبه والاعتراف بحقية يده على ما أغتصبه وتمكين المعتدي من البقاء على عدوانه، وقد أكدت الفتوى الصادرة من رابطة علماء فلسطين عدم جواز التطبيع مع دولة الاحتلال الصهيوني، موضحة أنه 'إذا استوطن أحد من الأعداء أرض المسلمين، فلا يجوز أن يقره على هذا الاستيطان أحد من المسلمين، وأن التطبيع بمثابة إقرار من المسلم المطبع لعدوان العدو واحتلاله،وجاء في فتوى الرابطة أن 'الواجب الديني على كل مسلم نصرة إخوانه ومعاونتهم على إخراج الأعداء من أرضهم، وعدم التطبيع مع الأعداء أبداً؛ لأن التطبيع مع الغاصب خذلان لأصحاب الحقوق وضرر بالغ بهم، فأين التعاون بين المسلمين على الأعداء إذا طبع المسلم مع عدو أخيه ومغتصب أرضه وقاتل بنيه' (موقع حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين على شبكة الإنترنت).

وأخطر ما في التطبيع الذي يراد إقراره هو أنه في حقيقته صورة من صور الولاء، الذي يمكن أن ينتهي إلى التولي، والولاء والتولي لا يجوز إلا للمسلم، قال الله - تعالى ـ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ" (الممتحنة: 1).

ولعلنا نتأمل أقوال بعض زعماء الصهاينة ونظرتهم إلى العلاقة التي يرغبون بإقامتها مع المسلمين، " يقول اليهودي هركابي (الأب الروحي لرابين): لابد من إدماج العرب في المشروع الصهيوني وتوظيفهم لخدمته، وهذا ممكن من خلال التعامل السياسي (وليس العسكري) مع العرب؛ لأنهم قوم لا يتحلون بالمثابرة والصبر والدأب وسرعان ما يدب فيهم الملل والضجر والاختلاف، ويسلمون أمورهم حتى لأعدائهم في سبيل الغلبة في معاركهم وخلافاتهم الداخلية " كتاب (لا للتطبيع د. عبدالله النفيسي)، ويقول شيمون بيريز: إن البقاء مستحيل لدينين لن يلتقيا ولن يتصالحا، وأنه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهراً سيفه ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلى الأبد، وفي مؤتمر التسامح الذي عقد قبل عدة سنوات في المغرب العربي قال ديفيد ليفي وزير خارجية العدو حينها (إنه من أجل أن يقوم التسامح بيننا وبين العرب والمسلمين، فلا بد من استئصال جذور الإرهاب , وإن من جذور الإرهاب سورة البقرة من القران).

ثانياً: إستراتيجية اليهود وخططهم في التطبيع:
هناك بعض المعالم التي تبين سياسة الكيان الصهيوني للوصول إلى رحلة التطبيع:
1- القضم ثم الهضم هي إستراتيجية الكيان الصهيوني، ففي السنين الماضية احتلت أجزاء من بلاد المسلمين فتحتاج إلى وقت لهضمها وخلال هذا الوقت يتم الاستعداد لجولة أخرى يتم فيها التهام جزء آخر من بلاد الإسلام.

2- أصبح من المعتاد أن تبدأ الاتصالات سرية أولا بين المندوبين والوسطاء، ثم تنتقل إلى المسئولين فالزعماء للترتيب لإعلان بداية المفاوضات العلنية للتضليل، وهي قد انتهت سراً قبل الإعلان، وما جرى قبل زيارة السادات لفلسطين من اتصالات سرية بدأت في 9/1977م، وما كشفه موشي ديان في كتابه " أيبقى السيف الحكم "، وكشفته العديد من الكتب والمذكرات لزعماء يهود ومنها كتاب (تواطؤ عبر الأردن: ليوسي ميلمان ودان رفيف) من حقائق كثيرة لهو دليل واضح على ذلك.

3- تكوين رابطة الشرق أوسطية التي تربط بين دول المنطقة أجمع باسم الشرق الأوسط وتنبذ الانتماء للإسلام أو العروبة، وهذا مشروع اليهودي (شيمون بيريز)الذي طرحه في كتابه (الشرق الأوسط الجديد) عام 1993 م، ثم طور خطابه في عام 1995 م فذكر بأن الشرق الأوسط بحاجة إلى تبني مواقف ليندمج مع العالم الجديد، ونصح العرب بتطبيق سياسة اقتصاد السوق علماً بأن الكيان الصهيوني يقيد سياسة السوق، ومن المعلوم أن اقتصاد السوق الذي ينادي به بيريز هو الطريق اليسير لسيطرة الكيان الصهيوني والصهيونية العالمية ورؤؤس الأموال الأمريكية على الاقتصاديات العربية، ثم اسُتنسخ هذا الطرح مع بعض الإضافات والتعديلات في المشروع الأمريكي المسمى (الشرق الأوسط الكبير) الذي من أبرز عناصره:
- إقامة أمن إقليمي جديد بدلا من الأمن القومي العربي ويتضمن ذلك إقامة مناورات مشتركة عربية – غربية – إسرائيلية لضمان تطبيع العلاقات وكسر التعبئة النفسية وإضعاف روح الاستعداد المعنوي للمواجهة.

- طبيعة هذا المشروع سياسية في الأصل لكنه يعرض بقالب اقتصادي حيث يوصف بأنه مشروع اقتصادي أو كما يجري اختزاله أحياناً بـ " سوق شرق أوسطية ".

4- التطبيع وسيلة فاعلة لليهود تهيئ لهم الفرصة لدعم المنافقين والمفسدين لأداء دورهم داخل مجتمعاتهم بشكل يدفع كثيراً من المسلمين إلى الهزيمة النفسية والشعور باليأس من الإصلاح.

5- من أبرز أهداف اليهود سعيهم إلى عزل الدول العربية بعضها عن بعض وخاصة في المفاوضات ليحققوا أطماعهم الخاصة، فيخسر العرب الكثير من قوتهم بسبب فرقتهم وتفرقهم.

6- أن تصبح جامعات اليهود ومراكز أبحاثهم ودراساتهم مرجعية علمية للمنطقة بأسرها، بحيث تؤسّس للمشروع الصهيوني، الموجّه لتدمير الثقافة والهويّة الحضارية الإسلامية للمنطقة العربية بأكملها، وإحداث التفكيك والفوضى في داخل كل بلد عربي.

ثالثاً: مراحل التطبيع:

المرحلة الأولى: قبل عام 1967 م (اللقاءات السرية):
كانت بدايات مراحل التطبيع الأولى تتمثل في قدر من التواصل السياسي الذي يتحرك عبر الاتصالات السرية بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني، كالاتصالات التي كانت قائمة بين المغرب والكيان الصهيوني وبينه والأردن، وبعضها قبل حرب 1967م، وما كشفه كتاب (تواطؤ عبر الأردن)، يكفي في بيان المقصود حيث فيه توثيق للعلاقات السرية التي كانت قائمة بين الكيان الصهيوني والأردن ومن ذلك التوقيع على مسودة اتفاق في عام 1950 م تضمن: عدم الاعتداء بين الجانبين لمدة خمس سنوات وتشكيل لجان مشتركة بهدف التوصل إلى تسوية شاملة بين الطرفين، وقد برز هذا اللون من التطبيع منذ الاحتلال العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة في يونيو 1967م، وذلك إثر توافق النظام العربي الرسمي بعد اعتراف مصر، ومن ثم سوريا بالقرار الدولي رقم 242 المتضمن أن الكيان الصهيوني قد وجد ليبقى، وأنه ما من سبيل إلى إزالته، لكن هذا التوجّه بدا أكثر وضوحاً بعد عام 1974م عندما انضمت منظمة التحرير الفلسطينية إلى السرب العربي، واعترفت بالقرار المذكور ولم يكن خافياً بالطبع ذلك الترابط بين اعتراف المنظمة بالقرار الدولي وبين الاعتراف بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني في مؤتمر الرباط عام 1974م، بل بدأت مشاريع اتصالات سرية مع الكيان الصهيوني من خلال ما عُرف بالاتصالات مع التقدميين الإسرائيليين، أو اليسار الإسرائيلي، وكان من أبرزها اللقاءات المتتابعة للملك حسين مع اليهود في عامي 75 – 1976 م حيث بلغت ستة لقاءات ، وذلك لشعور الملك بخسارته لجزء مما كان يملكه بعد الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ولخوفه من اتفاق وشيك بين مصر والكيان الصهيوني .

المرحلة الثانية: مرحلة توقيع معاهدة كامب ديفيد وتداعياتها عام1979م (كسر الحاجز النفسي):
زار فيها السادات فلسطين المحتلة عام 1977 م، والتقى بقادة اليهود فيها وألقى خطاباً في الكنيست الإسرائيلي، ثم ما لبثت المفاوضات أن تسارعت حتى تمخضت عن توقيع معاهدة كامب ديفيد برعاية أمريكية وذلك عام 1979 م، وتم عزل مصر عن بقية الدول العربية بهذه المعاهدة المنفردة، وسيأتي مزيد من التفاصيل عن هذه المرحلة لاحقاً.

المرحلة الثالثة: مرحلة أوسلو عام1993م...(الهرولة السريعة):
جاءت مرحلة مدريد بعد حرب الخليج الثانية ثم أوسلو لتطلق حصان التطبيع العربي الإسرائيلي من عقاله خاصة مع الطرف المباشر وهم الفلسطينيون؛ فما هي سوى عشرة شهور، وتحديداً في شهر يوليو 1994م، حتى وقع الأردن اتفاقية (وادي عربة), وما أن حدث ذلك حتى انطلق مسلسل سريع من الهرولة العربية صوب تل أبيب؛ من موريتانيا إلى المغرب صاحب العلاقات التاريخية مع تل أبيب، إلى تونس وبقية الدول العربية.

المرحلة الرابعة: مرحلة ما بعد مؤتمر الإسكندرية عام 1995م (التهدئة التكتيكية):
أدركت الدول العربية المحورية، وعلى رأسها السعودية , ومصر، وسوريا أن موجة الهرولة العربية صوب تل أبيب تؤذن بإنجاح مشروع (شيمون بيريز) الشرق أوسطي القائم على فكرة التمدد السياسي والاقتصادي الإسرائيلي في المنطقة من خلال السوق الشرق أوسطية بلا ثمن, وأن إسرائيل تتجاهل النوايا العربية في التطبيع بالحد الأدنى من الحقوق، وفي هذه الأجواء جاء مؤتمر القمة الذي عقد في الإسكندرية مطلع عام 1995م لتهدئة الهرولة تجاه الكيان الصهيوني، وبدأت موجة من الضغوط التكتيكية على الدول العربية المطبعة والمتجهة للتطبيع كي تهدئ جماح التطبيع، وهو ما استجابت إليه معظم الدول في واقع الحال؛ إذ بقيت العلاقات الدبلوماسية في حدها الأدنى غالب الأحيان، غير أن الأهم من ذلك كله هو ما يتعلق بسير المفاوضات؛ فقد كانت استراتيجية الدول الثلاث تقول: إن مسيرة التطبيع يجب أن تتزامن مع سير المفاوضات؛ إذ من دون الوصول إلى تسوية حقيقية لا يمكن الحديث عن تطبيع مع الكيان الصهيوني، وقد جاءت مسيرة المفاوضات الأولية من خلال جملة الاتفاقات التي تلت (أوسلو) لتؤكد أن نوايا الكيان الصهيوني بالتسوية بعيدة جداً، وهو ما تأكد بعد ذلك في قمة كامب ديفيد صيف عام 2000م، وهي القمة التي أكدت صعوبة التسوية مع مطالب إسرائيلية لا يقبل بها أحد في الساحة الفلسطينية والعربية.

المرحلة الخامسة: مرحلة تصاعد انتفاضة الأقصى واشتداد المقاومة المسلحة(تكافؤ القوى):
جاءت انتفاضة الأقصى بعد ثلاثة شهور من القمة كامب ديفيد ثم تصاعدت واستمرت وفي أجوائها تصاعدت المقاومة المسلحة لتحصر في زمن قياسي جهود التطبيع التي بذلت طوال سبع أو تسع سنوات في أضيق نطاق، وبدأت مرحلة جديدة في الخطاب الرسمي العربي حيال الكيان الصهيوني تقوم على هذه الرؤية للتطبيع، حتى أن الدولتين المرتبطتين باتفاقيات سلام مع الكيان الصهيوني ولهما علاقات دبلوماسية معها وهما مصر والأردن قد اضطرتا إلى سحب سفيريهما من تل أبيب تحت وطأة الضغوط الشعبية والرسمية والتكتيك السياسي.

المرحلة السادسة: مرحلة ما بعد قتل عرفات واحتلال أمريكا للعراق (الهرولة الجماعية):
يمكن التأريخ لهذه المرحلة بمقتل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات نهاية عام 2004م، وموافقة حركة فتح على تعيين (محمود عباس) خلفاً له، وهو المعروف بمناهضته لبرنامج المقاومة الذي تبنته حركة حماس والجهاد وفصائل فلسطينية أخرى، أو يمكن التأريخ لها باحتلال العراق، على اعتبار أن ذلك الحدث هو الذي مهّد لمرحلة الرعب بالنسبة للنظام العربي الرسمي الذي شكّل وقوفه خلف (محمود عباس) سبباً أساسياً في إنهاء مرحلة انتفاضة الأقصى، وإعلان التعامل مع التسوية بلغة جماعية جديدة، على رغم عدم توافر أي أفق حقيقي لها في المنطقة بوجود شارون والمحافظين الجدد على رأس السلطة في الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، وفي هذه الأجواء جاءت المبادرة العربية للتطبيع الجماعي.

رابعاً: نماذج من بنود اتفاقيات التطبيع السابقة بين العرب والكيان الصهيوني:

أ- كامب ديفيد الأولى (التطبيع بين مصر والكيان الصهيوني 1979 م):
" نصّت المادة الثالثة من اتفاقيات كامب ديفيد تحت عنوان العلاقات الثقافية على ما يلي:‏
1-يتفق الطرفان على إقامة علاقات دبلوماسية وتبادل السفراء عقب الانسحاب المرحلي.‏
2-يتّفق الطرفان على أنّ التبادل الثقافي في كافّة الميادين أمر مرغوب فيه، وعلى أن يدخلا في مفاوضات في أقرب وقت ممكن، وفي موعد لا يتجاوز ستّة أشهر بعد الانسحاب المرحلي، بغية عقد اتفاق ثقافي.‏

3- كما نصّت المادة الخامسة الفقرة الثانية على تعاون الطرفين على إنماء السلام والاستقرار والتنمية في المنطقة ويوافق كل منهما على النظر في المقترحات التي قد يرى الطرف الآخر التقدم بها تحقيقا لهذا الغرض." (من كتاب مشاريع التسوية للقضية الفلسطينية).‏

ومع ذلك كله فإنه أثناء زيارة (بيغن) - رئيس وزراء الكيان الصهيوني الهالك - لمصر في 25/8/ 1981م، أعرب عن استيائه البالغ من استمرار الطلبة في مصر بدراسة كتب التاريخ التي تتحدث عن "اغتصاب إسرائيل لفلسطين" وكتب التربية الإسلامية التي تحتوي على آيات من القرآن الكريم تندّد باليهود وتلعنهم ولعله يقصد مثل قوله _تعالى_: "لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" (سورة المائدة: 82)، وقد أشارت الصحف إلى أنّ السادات استجاب على الفور لطلب "صديقه بيغن"، فأصدر أوامره للمختصين في وزارة التربية بإعادة النظر في المناهج الدراسية بما يتلاءم مع طلبات بيغن.‏

ب- وادي عربة (التطبيع بين الأردن والكيان الصهيوني 1994 م ):
لا يخفى اهتمام اليهود بالجانب الثقافي لما له من أثر كبير في مسيرة التطبيع، فهم في معاهدة كامب ديفيد قد طالبوا بأمور عديدة، ثم تطورت مطالباتهم في اتفاقية (وادي عربة) على النحو التالي:
- «انطلاقاً من رغبة الطرفين في إزالة كافة حالات التمييز التي تراكمت عبر فترات الصراع؛ فإنهما يعترفان بضرورة التبادل الثقافي والعلمي في كافة الحقول، ويتفقان على إقامة علاقات ثقافية طبيعية بينهما».

- وجاء في المادة الحادية عشرة: «يسعى الطرفان إلى تعزيز التفاهم المتبادل فيما بينهما والتسامح القائم على ما لديهما من القيم «التاريخية» المشتركة، وبموجب ذلك فإنهما يتعهدان بما يلي:
أ - الامتناع عن القيام ببث الدعايات المعادية القائمة على التعصب والتمييز، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية الممكنة التي من شأنها منع انتشار مثل هذه الدعايات؛ وذلك من قِبَل أي تنظيم أو فرد موجود في المناطق التابعة لأي منهما.

ب - القيام بأسرع وقت ممكن بإلغاء كافة ما من شأنه الإشارة إلى الجوانب المعادية، وتلك التي تعكس التعصب والتمييز، والعبارات العدائية في نصوص «التشريعات» الخاصة بكل منهما.

خامساً: من وسائل التطبيع:
من أخطر وسائل التطبيع، التطبيع الثقافي ومن أهم ما يرتكز عليه:
1- الاهتمام بعينة من الكتاب والصحفيين والأكاديميين، وفتح المنابر لهم، وتوفير فرص تدفعهم إلى مناصب سياسية واجتماعية متقدمة حتى وإن كانت مؤهلاتهم الحقيقية متواضعة وضعيفة، أو من خلال جمعيات أهلية عربية تدعم مشروع التسوية، وتدفع باتجاه التطبيع كجمعية بذور السلام غير الحكومية التي تأسست عام 1993م، إثر اتفاق أوسلو بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني.

2 - إيجاد أنصار للتطبيع مع دعمهم وإبرازهم من خلال المنظمات الممولة أمريكياً وأوروبياً تحت لافتات متعددة ومتنوعة مثل منظمات الدفاع عن حقوق المرأة ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان داخل المجتمع العربي ليقوموا بالأدوار التالية:
أ - الطعن في الإسلام وادعاء عدم صلاحية الشريعة للتطبيق، وضرورة علمنة المجتمعات العربية والإسلامية وتبديل أحكام الشريعة ومحاصرة دعاة الإسلام واتهامهم بالتطرف والإرهاب والظلامية...الخ.

ب - القول إن النص القرآني يجوز التعامل معه كنص تاريخي أو الهجوم على كل تفسير صحيح للإسلام وبشكل خاص الآيات القرآنية التي تتعلق بالجهاد أو بالمواريث أو غيرها.

جـ - الدعوة إلى كل ما يثير الاضطراب داخل المجتمعات الإسلامية والعربية بإثارة المسائل العرقية والطائفية والأقليات، وإبراز الحضارات السابقة للإسلام كالفرعونية والفينيقية ونحو ذلك.

3- الترويج لما يسمى بثقافة السلام، الذي وجد طريقه إلى العديد من الكتابات والأفكار التي طرحت في العديد من المؤتمرات والملتقيات الدولية والعربية العامة، وكذلك الندوات والحوارات عبر القنوات الفضائية، والتي تدعو إلى نسيان التاريخ – تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي – وإلغاء ذاكرة الأمة.

4- التهوين من فتاوى العلماء حتى علماء المؤسسات الرسمية خاصة السنية، للتقليل من أهمية المرجعية العلمية في معظم البلاد العربية والإسلامية ، فترى اليوم كثيراً من الدول العربية والإسلامية، تفتقد المرجعية العلمية، بينما تنمى المرجعية العلمية المتميعة والمبتدعة.

5- ممارسة ضغوط على الدول التي لا تتجاوب مع التطبيع بالسرعة المطلوبة فقد حث أعضاء الكونغرس الأمريكي إدارة الرئيس جورج بوش على رفض التوقيع على اتفاق يسمح للسعودية بالانضمام إلى منظمة التجارة العالمية حتى تنسحب من المقاطعة العربية لإسرائيل وأكدوا أنه يتعين على الولايات المتحدة الإصرار على تحقيق تقدم في أربعة ميادين رئيسة قبل تقديم مساعدتها للرياض للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، ووضعوا على رأس هذه الميادين إنهاء المقاطعة السعودية للكيان الصهيوني.

6 - تشويه صورة الجهاد والمجاهدين المقاومين للاحتلال في نفوس الشعوب المسلمة والسعي لإيقاف الدعم عنهم ونبزهم بالإرهاب.

7 - استخدام طوائف من عرب أراضي ثمانية وأربعين الذين هم داخل الخط الأخضر للترويج للتطبيع كما هي خطة (عزمي بشارة) التي عرضها على الكنيست الإسرائيلي والتي قدمها كمشروع لدولة المواطنين والتي يدعو فيها إلى المساواة بين الفلسطينيين والصهاينة وهو لا يعني سوى إضفاء شرعية نهائية على اغتصاب فلسطين بشرط الاعتراف بحقوق الفلسطيني في المواطنة.

فالمقصود من كل هذه الوسائل إيجاد تيار عريض يقوم أفراده بدور الطابور الخامس القابع خلف خطوط الدفاع في الأمة، حيث أنهم يضربون في صميم عقيدة الأمة وملامح هويتها على جميع الصعد، لجعل الإنسان العربي المسلم مجرد إنسان بلا هوية، يسهل تشكيل عقله على هوى المحتل، وقد كان تمويل أمثال هؤلاء يجري في مصر وفق أنماط من الرسمية أو وفق حالات مقننة، حيث كانت الأموال تصل إليهم عبر وزارة الشئون الاجتماعية وخصماً من المعونة الأمريكية المقدمة للحكومة المصرية، إلى أن تطور الأمر بعد احتلال العراق وأخذ مدى أبعد حيث أصبحت السفارة الأمريكية في القاهرة هي التي تتولى مباشرة عملية تسليم الأموال في الاحتفالات التي تدعى إليها مختلف أجهزة الإعلام، ليجري توزيع ما يزيد على 40 مليون دولار سنوياً.

سادساً: من فعاليات التطبيع:
ضمن إطار العمل المستمر لدعاة التطبيع من الصهاينة والأمريكيين والعرب من أجل استحداث مؤسّسات وهيئات وجماعات وملتقيات تصب في المشروع التطبيعي، تكوّنت "مؤسّسة المبادرة من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط" في سبتمبر 1991م، وهي تضمّ نخبة من الشخصيات الأمريكية والصهيونية والعربية, ويترأسها "جون ماركس" بصفته من الخبراء الأمريكييّن في شؤون المنطقة على مدى العقود الأربعة الماضية, ويعمل في إطار " مؤسّسة المبادرة" خمسة وعشرون شخصاً من الأمريكيين والعرب والإسرائيليين، وتعدّ أحد المطابخ الرئيسة في طرح الأفكار والتصوّرات الممّهدة لتأسيس "نظام الشرق أوسطي" على أنقاض النظام العربي، يقوم اليهود فيها بدور القيادة وتتمحور حول مصالحهم وإستراتيجيتهم شبكة التفاعلات الإقليمية الجديدة وقد برزت أخبار هذه "المؤسّسة" إثر خلوتهم السرّية السادسة التي عقدت في مراكش بالمغرب (في الفترة من 18-22 مارس 1994م)، حيث اعترف المجتمعون أن هدف اجتماعاتهم هو إعداد الجماهير العربية لقبول "السلام" بشروطه الحالية أي فرض هذا "السلام" طوعاً بإرادتها، أو رغماً عنها عن طريق تزييف وعي الناس وإرادتهم المقاومة للعدوان والاستيطان والعنصرية الصهيونية، ولتحقيق برنامجها، قررت المجموعة القيام بإجراءات وتحركات واسعة، تتمثّل خطوطُها العامة بما يلي:‏
- ينبغي إحداث تحولات في التوجهات والإدراك في الشرق الأوسط إذا أريد للمنطقة الانتقال من ثقافة المواجهة والحرب إلى ثقافة السلام.‏

- يمكن للإعلام أن يلعب دوراً أساسياً في بناء السلام لتجاوز القيود الحكومية والثقافية السائدة، التي تضع عقبات مانعة أمام تقدم السلام.‏

ثم عُقدت في سبتمبر من عام 1994 م، "خلوة أنقرة" التي أشرفت عليها ونظمت أعمالها وأسماء المدعوّين إليها وموّلتها المؤسّسة الأمريكية الصهيونية المعروفة بـ "مشروع البحث عن أرضية مشتركة" وقد استمرت أعمالها لثلاثة أيام تحت شعار "نحو ثقافة سلام بالشرق الأوسط"، وقد بدأت بتنفيذ برنامج العمل المستقبلي، الذي كانت أقرته في الاجتماع السادس بمراكش (مارس 1994م)، مجموعة العمل الأساسية في إطار "المبادرة" من أجل السلام والتعاون في الشرق الأوسط، وقد ساهم بدور واضح في "خلوة أنقرة"، "مركز تاتي ستينمتيز الإسرائيلي لأبحاث السلام" في تل أبيب، الذي يترأسه "شمعون شامير" (الذي كان مديراً للمركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة)، ومؤسّسة "وقف الأمل" التركيّة بأنقرة وجمعية إعلام العالم بباريس، إضافة إلى تسعة صحفيين عرب.

وقد أجمع المشاركون على ضرورة اتخاذ الخطوات التالية:‏
- ينبغي على صحف المنطقة نشر مقالات وزوايا دائمة من دول أخرى، وقد قبل أكثر من صحفي عربي دعوة المساهمة في كتابة مقالات في الصحف (الإسرائيلية).‏

- أن يتم ترجمة وتوزيع المقالات الرئيسة التي تصدر في الصحف (الإسرائيلية)، التي لا يسمح بدخولها إلى الدول العربية من قبل المشاركين، كما يتم ترجمة وتوزيع المقالات الرئيسة، التي تصدر في الصحف الأخرى التي لا تتوافر (للإسرائيليين)، والهدف من ذلك هو رفع مستوى العلاقات وتقويتها بين الصحفيين العرب و(الإسرائيليين).‏

- ينبغي على الصحفيين المشاركين من دول مختلفة أن يكتبوا مقالات مشتركة، وهذا من شأنه أن يجعلهم يتبنّوا ذات الأفكار والمفاهيم، وقد وافقت (ر.د) مراسلة صحيفة "الحياة" مشاركة صحفي (إسرائيلي) في كتابة مقالات مشتركة.‏

- أعلن المشاركون عن تشكيل شبكة مهنية لصحافة الشرق الأوسط، ودعوا إلى ضرورة توسيعها والنشر عنها، لضمّ أكبر عدد ممكن من الصحفيين العرب و(الإسرائيليين) وغيرهم إليها، وتقديم إرشادات حول أية مقالات يريدون كتابتها.‏