أنت هنا

صناعة الفتوى وفقه الأقليات5
19 ربيع الأول 1427

معالم فقه الأقليات: تعريف وتكييف وتأصيل وتفصيل.
إن هذا المصطلح مصطلح حديث لم يكن معروفاً في الماضي وقد نشأ في القرن الماضي وتأكد في مطلع القرن الخامس عشر الهجري مع قيام الهيئات الإسلامية المهتمة بأوضاع الجاليات المسلمة والمجتمعات المسلمة في بلاد الغرب وفي مقدمة هذه الهيئات رابطة العالم الإسلامي وبعدها منظمة المؤتمر الإسلامي حيث استعملت كلمة الأقلية وهي ترجمة لكلمة minorite التي تعنى مجموعة بشرية ذات خصوصيات تقع ضمن مجموعة بشرية متجانسة أكثر منها عدداً وأندى منها صوتاً تملك السلطان أو معظمه.

وقد وقع جدل كثير حول هذه التسمية "فقه الأقليات" وبالإضافة إلى ما ذكرنا من الجواب فيجب أن نذكر أن الإضافة تقع لأدنى سبب كإضافة الضحى إلى العشية في قوله تعالى(إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـٰهَا).

وقد حسم المجلس الأوربي هذا الجدل في دورته المنعقدة بدبلن.
واستقر المجلس على صحة استعمال مصطلح (فقه الأقليات) حيث لا مشاحة في الاصطلاح، وقد درج العمل عليه في الخطاب المعاصر، إضافة إلى كون العرف الدولي يستعمل لفظ (الأقليات) كمصطلح سياسي يقصد به: "مجموعات أو فئات من رعايا دولة تنتمي من حيث العرق أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه الأغلبية".

كما استقر رأي المجلس على أن موضوع (فقه الأقليات) هو: الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام.
قد تكون خصوصيات الأقلية دينية أو نسبية "إثنيه" ولهذا فإن الأكثرية تنحو في الغالب إلى تجاهل حقوق هذه الأقلية إن لم تضايقها في وجودها المادي أو المعنوي لأنها تضيق ذرعاً بالقيم والمثل التي تمثلها تلك الأقلية وهذه أهم مشكلة تواجهها الأقليات في المواءمة بين التمسك بقيمها والتكيف والانسجام مع محيطها.

لقد شهد التاريخ مئاسي كثيرة للأقليات بسبب الخصومة بين الأقليات وبين الأكثرية ولسنا بصدد سرد تاريخي لمجازر للأقليات ما زال العالم يعيشها في نهاية القرن العشرين في كوسوفو والبوسنة والهرسك.
إلا أنه وفي العصر الحديث حصل تطور مهم في العالم حيث أصبح نظام حقوق الإنسان وسيلة لعيش الأقليات بين ظهراني الأكثرية وبخاصة في ديار الغرب التي تبنت حقوق الإنسان وكان في الأصل وسيلة للتعايش بين أتباع الكنيستين البروتستانية والكاثولوكية إلا أنه سمح مع الزمن بوجود أقليات أفريقية وآسيوية نشأت هذه الأقليات لأسباب شتى أهمها العلاقة الاستعمارية التي أدت إلى نزوح عمال المستعمرات إلى البلاد المستعمرة.

وفي فترة من التاريخ كانت الحضارة الإسلامية الوحيدة بين الحضارات البشرية التي تنظم حقوق الأقليات في ممارسة شعائرها والتحاكم إلى محاكمها.
وهكذا عاشت الأقلية القبطية في مصر 14قرناً محمية بحماية الإسلام كما هي حال الأقلية اليهودية في المغرب.
ولقد اهتمت كثير من المعاهدات الدولية بعد الحرب العالمية الأولى بحماية الأقليات كما كانت مسألة الأقليات من أهم المشكلات التي واجهت عصبة الأمم المتحدة.

أن أوضاع الأقلية المسلمة في ديار غير المسلمين يمكن أن توصف بأنها أوضاع ضرورة بالمعنى العام للضرورة الذي يشمل الحاجة والضرورة بالمعنى الخاص.
ولهذا احتاجت إلى فقه خاص ولا يعني ذلك إحداث فقه جديد خارج إطار الفقه الإسلامي ومرجعيته الكتاب والسنة وما ينبني عليهما من الأدلة كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب إلى آخر قائمة الأدلة التي اعتمدها الأئمة في أقوالهم وآرائهم العديدة والمتنوعة والتي تمثل ثراء وسعة الفقه الإسلامي، فقضايا الأقليات قديمة بالجنس حديثة بالنوع.

أما إضافة الفقه إلى الأقليات فهي من نوع الإضافات التي يراد بها تمييز المضاف وتخصيصه وهي من نوع الإضافة شبه المحضة فقد ذكر ابن مالك في الألفية نوعين من الإضافة هما الإضافة اللفظية والإضافة المعنوية وهي الإضافة المحضة.

وهذه منها لأن المضاف إليه يخصص الأول أو يعرفه قال ابن مالك:

.............. واخْصُصَ أَوَّلا *** أو أَعْطِهِ التَّعْرِيفَ بالَّذي تَلاَ


وأشار إلى هذه الإضافة بقوله بعد أبيات:

..................... *** وتِلْكَ محْضَةُ ومَعْنَوِيَّهْ



والمطلوب هنا أن نبين أن إضافة الفقه للأقليات لا تعنى إنشاء فقه خارج الفقه الإسلامي وأدلته المعروفة وإنما تعنى أن هذه الفئة لها أحكام خاصة بها نظراً لظروف الضرورات والحاجيات كما تقول فقه السفر أو فقه النساء وسيتضح ذلك أثناء نشرنا لطي هذا الموضوع وبسطنا لبساطه ولا مشاحة في الاصطلاح كما يقول العلماء.

وقد نظمت أبياتاً في إحدى دورات المجلس الأوربي عندما كنا نناقش تأصيل فقه الأقليات لا بأس من إثباتها هنا وهي:








عُقُودُ المُسلِمينَ بدَارِ غَربٍ   تَجَاذَبَها المَقَاصِدُ والفُرُوعُ
ومِيزَانُ الفَقِيه يَجُورُ طَوراً   إلى طَرَفِ فَيُفْرِطُ أو يُضِيعُ
فَفِي الجُزْئِيِّ ضِيقُ وانْحِصَارُ   وفي الكُلِيِّ مُنْفَسَحُ وَسِيعُ
ونُورُ الحَقِّ مَصْلَحَةُ تُوازَى   بِجُزئيِّ النُصُوصِ لَه سُطُوعُ
مَآلاتُ الأُمُورِ لَهَا اعتِبَارُ   وحَاجِيُّ الضَرُورةِ قَدْ يُطِيعُ
فَزِنْ هذَا بذَاكَ وذَا بِهذَا   يَكُنْ في القَيسِ مَنْهَجُك البَدِيعُ
"فِإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أمراً فَدَعْهُ   وجَاوزهُ إلى مَا تَسْتَطِيعُ".

التأصيل لفقه الأقليات:
فقه الأقليات كسائر فروع الفقه يرجع إلى مصدري الشريعة: الكتاب والسنة إلا أنه عند التفصيل يرجع أولا: إلى كليات الشريعة القاضية برفع الحرج وتنزيل أحكام الحاجات على أحكام الضرورات واعتبار عموم البلوى في العبادات والمعاملات وتنزيل حكم تغير المكان على حكم تغير الزمان ودرء المفاسد وارتكاب أخف الضرين وأضعف الشرين مما يسميه البعض فقه الموازنات والمصالح المعتبرة والمرسلة دون الملغاة.

"فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد".كما يقول ابن القيم في إعلام الموقعين.
وهي كليات شهدت الشريعة باعتبار جنسها فيما لا يحصر ولا يحصى من النصوص.

ثانياً: يرجع فقه الأقليات إلى نصوص جزئية تنطبق على قضايا وموضوعات ماثلة في ديار الأقليات وتشاركهم في حكمها الأكثريات المسلمة.

ثالثاً: يرجع فقه الأقليات إلى أصل خاص ببعض العلماء يعتبر حالة المسلمين في أرض غير المسلمين سبباً لسقوط بعض الأحكام الشرعية مما عرف بمسألة الدار التي نعبر عنها بحكم المكان وهو منقول عن عمرو بن العاص من الصحابة وعن أئمة كالنخعي والثوري وأبي حنيفة ومحمد ورواية عن أحمد وعبد الملك بن حبيب من المالكية.

وهو مؤصل من أحاديث كالنهي عن إقامة الحدود في أرض العدو أصله حديث أبي داود والترمذي وأحمد بإسناد قوي: "لا تقطع الأيدي في السفر".
ومرسل مكحول:"لا ربا بين مسلم وحربي".

فانطلاقا من هذه الأسس التي سنتوسع فيها ومن الأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية وآراء أهل العلم يكون اجتهاد العلماء ترجيحاً انتقائياً أو إبداعياً إنشائياً وإن كنت شخصياً أميل إلى النوع الأول ولا أجسر على النوع الثاني إلا بشاهد أي بنوع من التخريج لأن النوع الأول اختيار من أقوال العلماء لمصلحة اقتضت هذا الاختيار أو لدرء مفسدة قد يؤدي إليها تطبيق القول المتروك وبصفة أكثر دقة فسيكون الاجتهاد هنا على ثلاثة أضرب: اجتهاد جديد لإحداث قول في قضية جديدة قياسا على المنصوص في الأصلين الكتاب والسنة.

واجتهاد في تحقيق المناط وهو اجتهاد لا ينقطع أبدا كما يقول الشاطبي لأنه تطبيق القاعدة المتفق عليها على واقع جديد تنطبق عليه هذه القاعدة وليس كالاجتهاد الأول الذي يختص به المجتهدون بل يستوي فيه المجتهد والمقلد.

أما النوع الثالث فهو اجتهاد ترجيحي وهو اختيار قول قد يكون مرجوحاً في وقت من الأوقات إما لضعف المستند - وليس لانعدامه- فيختاره العلماء لمصلحة اقتضت ذلك وهذا ما يسمى عند المالكية جريان العمل.
فلهذا فتسليط الأنواع الثلاثة للاجتهاد يكون في ضوء العناصر الثلاثة التي تحكم الفتوى وهي واقع الأقلية والأدلة الإجمالية والأدلة التفصيلية.

من كل ذلك تنشأ الفتوى في جدلية وتداخل وتكامل وتفاعل ينتج منه توازن بين الدليل والواقع يضبط به الفقيه طبيعة الفتوى ويرى به الحكم من خلال مرتبة الحاجة ومرتبة الدليل ومرتبة الحكم وكذلك من خلال التعامل بين الكلي والجزئي وهو تعامل دقيق لا يجوز فيه إهمال أي منهما بل يعطى كل منهما قدر ما يستحق من الحكم ولهذا أصل المالكية لما سموه بالقاعدة البينية وهي إعطاء قضية واحدة ذات وجهين حكمين مختلفين باعتبار وجود دليلين.

وسترى هذه الأنواع من الاجتهاد من خلال مطالعة مشهد أوضاع الأقليات فيما يتعلق بأنكحتهم ومعاملتهم المالية وعوائدهم في الأكل واللباس وفي التعامل مع الناس في تهاني الأفراح والتعازي في الأحزان والأتراح في الانخراط في الأحزاب والترشح والانتخاب إلى آخر القائمة.

فالأقليات تواجه تحديات عنيدة على مستوى الفرد الذي يعيش وسط بيئة لها فلسفتها المادية التي لا مجال فيها للوازع الديني وعلى المستوى الأسرة التي تحاول التماسك في خضم مجتمع تفككت فيه الروابط الأسرية واستحالت فيه العلاقة الزوجية بين الزوجين والأبوية بين الأبناء والأبوين علاقة غير قائمة على أسس من القوامة الإيجابية.

أما على مستوى المجتمع المسلم الصغير الذي يساكن هذه المجتمعات فهو مبعثر لا ينتظمه ناظم ولا يجمع شتاته جامع فالتحديات تطاول العقيدة التي نعنى بها أن يكون المرء مسلماً مؤمناً بالله وملائكته وكتبه ورسله وليس بالضرورة أشعرياً ولا سلفياً ولا معتزلياً وغير ذلك من التفسيرات التي تشوش على العامي.

ولعل العقيدة التي كتبها محمد بن أبي زيد القيرواني في صدر الرسالة والتي ترجع إلى نصوص الكتاب والسنة لا يختلف عليها طوائف أهل السنة هي أفضل شيء يتعلمه المسلمون في المهاجر لبساطتها وسلامتها من الجدل والتشويش.

كما تطاول ممارسة العبادة مع ما يتطلبه من تكوين الجماعة المسلمة والمؤسسات الإسلامية من مساجد ومدارس ومراكز.
كما تطاول العلاقة بالآخر وإيجاد وسائل التعايش التي تجنب المسلم الذوبان الثقافي. وكذلك تحرسه من التقوقع والعزلة ليصبح في النهاية عضواً فعالاً في المجتمع ممكناً أسوة بنبي الله يوسف عليه السلام عندما خاطب ملك مصر بقوله: "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم".
كل ذلك يحتاج إلى فقه نفس يوازن بين الدليل وبين الواقع مع ورع لا تشوبه وسوسة وجسارة لا ينغصها تهتك ولا جرأة.

وينقسم التأصيل لفقه الأقليات إلى مقاصد وقواعد:
القسم الأول: المقاصد:
أولاً: مقصد عام وهو المحافظة على الحياة الدينية للأقلية المسلمة على مستوى الفرد أو الجماعة.
ثانياً: التطلع إلى نشر دعوة الإسلام في صفوف الأكثرية مع ما يستتبع ذلك من تمكين تدريجي للإسلام في الأرض.
ثالثاً: التأصيل لفقه العلاقة مع الغير في الواقع الحضاري والعالمي وهو أمر قد لا يختص بالأقلية لتداخل الأوضاع العالمية لإيجاد حالة من الثقة المتبادلة والقبول.
رابعاً: التأصيل لفقه الجماعة في حياة الأقلية بمعنى الانتقال من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية.

أما القواعد فإنها لا تعنى إحداث قواعد أصولية أو فقهية بقدر ما تعنى التركيز في الاتجاه البحثي على قواعد موجودة في الموروث الأصولي والفقهي أكثر التصاقاً وأقرب وشيجة بواقع الأقليات لتمحيصه من جديد واستكشاف إمكاناتها في التعامل مع أوضاع الأقليات.

القسم الثاني: قواعد كبرى تعتمد في فقه الأقليات:
ومن أبرز هذه القواعد: قاعدة التيسير ورفع الحرج، وتغير الفتوى بتغير الزمان، وتنزيل الحاجة منزلة الضرورة، والعرف، والنظر في المآلات، وقيام جماعة المسلمين مقام القاضي.

ونتقصر في هذه الحلقة على القاعدتين الأوليين:
أولاً: قاعدة التيسير ورفع الحرج وتجلياتها
قال الشاطبي: إن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالشاق والإعنات فيه والدليل على ذلك أمور:
أحدها: النصوص الدالة على ذلك كقوله تعالى: "وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَٱلأَْغْلَـٰلَ ٱلَّتِى كَانَتْ عَلَيْهِمْ " [الأعراف:157] وقوله: "رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا" [البقرة: 286/2 ] وفي الحديث: " قال الله تعالى قد فعلت " وفي الحديث:" بُعِثتُ بالحَنِيفية السمحة"، وحديث: " ما خُيِّرَ رسولُ الله –صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُما أَيْسَرُ من الآخَرِ إلاّ اخْتَار أَيْسَرَهُما مَا لَمْ يُكنْ إِثْماً فَإنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ مِنْهُ".
ولو كان قاصداً للمشقة لما كان مريداً لليسر ولا التخفيف ولكان مريداً للحرج والعسر وذلك باطل.

والثاني: ما ثبت أيضاً من مشروعية الرخص وهو أمر مقطوع به ومما علم من دين الأمة ضرورة كرخص القصر والفطر والجمع وتناول المحرمات في الاضطرار، فإن هذا نمط يدل قطعاً على مطلق رفع الحرج والمشقّة، وكذلك ماجاء من النهي عن التعمق والتكلف والتسبب في الانقطاع عن دوام الأعمال.
ولو كان الشارع قاصداً للمشقة في التكلف لما كان ثم ترخيص ولا تخفيف.(الموافقات:2/121-122).

فالنصوص سالفة الذكر عامة في المشقّة بنوعيها الشديد والمتوسط، وإذا فرضنا أن رفع الحرج مفقود فيه صيغة عموم فإنا نستفيده من نوازل متعددة خاصة مختلفة الجهات متفقة في أصل رفع الحرج كما إذا وجدنا التيمم شرع عند مشقة طلب الماء والصلاة قاعداً عند مشقة طلب القيام، والقصر والفطر في السفر، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر، والنطق بكلمة الكفر عند مشقة القتل.

وقد عبر العلماء بعبارات مختلفة عن أسباب رفع الحرج منها:
عموم البلوى:
وهو الحالة أو الحادثة التي تشمل كثيراً من الناس ويتعذّر الاحتراز منها.
أو ما تمس الحاجة إليه في عموم الأحوال كنجاسة النعل والخف تطهر بالدلك.

الغلبة:
الغلبة تنزل منزلة الضرورة في إفادة الإباحة.

عسر الاحتراز:
ومعناها صعوبة التحفظ عن أمر وهي في العبادات وغيرها.
وعبّر عنه القرافي بالتعذر حيث قال:" المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف".
وأما خليل فقد قال: " لا إن عسر الاحتراز منه".
وعفى عما يعسر كحدث مستنكح.

ويرى ابن تيمية ترك بعض المستحبات تأليفا قائلا: لان مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل مثل هذا كما ترك النبي صلى عليه وسلم تغيير بناء البيت لما في إبقائه من تأليف القلوب.
و أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر ثم صلى خلفه متما وقال: الخلاف شر.(الفتاوى 22-407)

- العذر باختلاف العلماء:
عدم الإنكار في مسائل الاختلاف ومسائل الاجتهاد يقول ابن القيم: إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مساغ لم تنكر على من عمل فيها مجتهداً أو مقلداً. (إعلام الموقعين 3- 365)

ويقول العز بن عبد السلام: من أتى شيئا مختلفا في تحريمه إن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفاً (قواعد الأحكام 1- 109).

وقد قدمنا تأصيل الاختلاف وأسبابه المشروعة في حديثنا عن اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم ونضيف هنا: أن معرفة الاختلاف ضرورية للفقيه حتى يتسع صدره وينفسح أفقه.
فقد قال قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه.
وعن هشام بن عبيد الله الرازي: من لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه.
وعن عطاء: لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالمان باختلاف الناس.

وقال يحي بن سلام: لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب أليّ.
إلى غير ذلك من الأقوال يراجع الشاطبي في الموافقات وقد عدَّ معرفة الاختلاف من المزايا التي على المجتهد أن يتصف بها.

إذا تقرر ما تقدم من جواز الاختلاف بين أهل الحق فاعلم أن هذا الاختلاف قد يكون سبباً للتيسير والتسهيل والتيسير مقصد من مقاصد الشريعة بنص الكتاب والسنة كما مر عن الشاطبي وغيره.

القول بالأخف:هذا قد يكون بين المذاهب وقد يكون بين الاحتمالات المتعارضة أماراتها وقد صار إليه بعضهم لقوله تعالى: "يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ "، وقوله: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ" وقوله – صلى الله عليه وسلم-" بُعثْتُ بالحَنِيفِيةِ السَّمْحَةِ ".
وهذا يخالف الأخذ بالأقلِّ فإن هناك يشترط الاتفاق على الأقل ولا يشترط ذلك هاهنا وحاصله يرجع إلى أن الأصل في المضار المنع إذ الأخف منهما هو ذلك.
وقيل: يجب الأخذ بالأشق كما قيل هناك يجب الأخذ بالأكثر.(الزركشي في البحر المحيط 4/340)

قال الطوفي في الترجيح عند تعارض الدليلين:
الثاني: يأخذ بأشد القولين لأن " الحق ثقيل مري والباطل خفيف وبي". كما يروى في الأثر وفي الحكمة: إذا ترددت بين أمرين فاجتنب أقربهما من هواك.
وروى الترمذي من حديث عائشة قالت: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: مَا خُيِّرَ عَمَّارُ بَيْنَ أَمْرَيْنَ إلا اخْتَارَ أَشَدَّهُما. وفي لفظ:" أَرْشَدَهُما".
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ورواه أيضا النسائي وابن ماجه. فثبت بهذين اللفظين للحديث أن الرشد في الأخذ بالأشد.

الثالث: يأخذ بأخف القولين لعموم النصوص الدالة على التخفيف في الشريعة كقوله عز وجل "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر" [البقرة 185].
وقوله "وما جعل عليكم في الدين من حرج" [الحج 78]
وقوله – صلى الله عليه وسلم-:" لا ضرر ولا ضرار ". وقوله – صلى الله عليه وسلم -:" بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ".

قال شيخنا المزني: من قواعد الشريعة أن يستدل بخفة أحد الأمرين المتعارضين على أن الصواب فيه أو كما قال.
قلت: وثبت عن النبي – صلى الله عليه وسلم - أنه ما خُيِّر بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلاّ اخْتَار أَيْسَرَهُما مَا لَمْ يُكنْ إِثْماً".

قلتُ: والفرق بينه وبين عمار فيما حكينا عنه من الأخذ بأشد الأمور: أن عماراً كان مكلفا محتاطاً لنفسه ودينه والنبي – صلى الله عليه وسلم- كان مُشرعا موسعاً على الناس لئلا يحرج أمته. وقال:" يَسُروا ولا تُعَسروا".
وقال لبعض أصحابه في سياق الإنكار عليه إن فيكم منكرين منفرين".(شرح مختصر الروضة 3/669)
وبناء على هذه القاعدة فقد رجحنا في قضايا الخلاف التيسير وسنذكر أمثلته في بحث الحاجة.

ثانياً: قاعدة تغيير الفتوى بتغير الزمان:
كان لعمل أمير المؤمنين عمر نصيب كبير في تأصيل هذه القاعدة فمن ذلك أن عمر لم يعط المؤلفة قلوبهم مع وروده في القرآن ورأى أن عز الإسلام موجب لحرمانهم.

وكذلك إلغاؤه للنفي في حد الزاني البكر خوفاً من فتنة المحدود وإلتحاقه بدار الكفر لأن إيمان الناس يضعف مع الزمن.
وأمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يأمر بالتقاط ضالة الإبل وبيعها وحفظ ثمنها لصاحبها كما رواه مالك رحمه الله تعالى عن ابن شهاب الزهري مع نهيه – صلى الله عليه وسلم - عن التقاط ضالة الإبل وذلك لما رأى من فساد الأخلاق وخراب الذمم وورث تماضر الأسدية لمّا طلقها عبد الرحمن في مرض موته.
وأمير المؤمنين علي رضي الله عنه يضمن الصناع بعد أن كانت يد الصانع أمانة قائلا: لا يصلح الناس إلا ذاك.

ويقول الأستاذ صبحي المحمصاني مسجلا موقف الصحابة في كتابه " تراث الخلفاء": وقد أقروا مبدأ تغير الاجتهاد فتوسع عمر الفاروق بوجه خاص في الاجتهاد وفي تفسير النصوص بما يلائم حكمة التشريع وفلاح العباد ويناسب تطور الزمان والمكان وتقلبات الأحوال. وتعرض في ذلك ل مسائل عديدة منها المؤلفة قلوبهم والطلاق الثلاثي المتسرع وبيع أمهات الأولاد وعدم التغريب في الحدود وإعفاء السارق من القطع عام المجاعة وتطوير عقوبة التعزير تأديباً وزجراً للمذنبين والمجرمين وتحديد عاقلة الدية في القتل والجراح وتفصيل أمور ضريبة الخراج.(تراث الخلفاء الراشدين": 589)

وقد روي عن عمر بن عبد العزيز قوله: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.
وقد قال ابن رشد إن لله أحكاماً لم تكن أسبابها موجودة في الصدر الأول فإذا وجدت أسبابها ترتبت عليها أحكامها.
هذه القاعدة وردت في مجلة الأحكام العدلية بعنوان: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان".
وهي قاعدة ليست على إطلاقها فليست كل الأحكام تتأثر بتغير الزمان فوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج وبر الوالدين والكثير من أحكام المعاملات والأنكحة وكذلك فإن المنهيات القطعية كالاعتداء على النفس والأموال والأعراض وارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن وأكل أموال الناس بالباطل ومنها الغش والخيانة ومحرمات عقود الأنكحة ومحرمات عقود البيوع المشتملة على الربا أو الغرر الفاحش أو الجهالة فكل تلك لا تستباح إلا بالضرورات التي تبيح المحظورات.
وبصفة عامة فمحرمات المقاصد التي تعنى أن العقد يشتمل على المفسدة التي نهى الشارع عنها لا تجيزها الحاجة.

وبالعكس من ذلك فإن محرمات الذرائع التي يتوصل بها إلى المفسدة وواجبات الوسائل التي يتوصل بها إلى مصلحة فإنها تتغير بتغير الزمان لأنها تدور مع المصالح جلباً والمفاسد درءاً فإذا رجحت مصلحة على المفسدة التي من أجلها كان الحظر فإن النهي يستحيل تارة إلى تخيير وتارة إلى طلب.

وقد أشار الشارع إلى ذلك في مسائل كان نهى عنها أو أمر بها فمن قبيل النهي: "كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها".
وقد كان – صلى الله عليه وسلم - نهى عن ادخار لحوم الأضاحي ثم رفع النهي قائلا: إنما نهيتكم من أجل الدافة فكلوا وادخروا.
وإذا غلبت المشقة سقط الأمر:" لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك..

فالذي يتغير هو الأحكام الاجتهادية وأما القطعيات من الأحكام فلا تتغير فلا يمكن أن تتغير المواريث بدعوى أن المرأة أصبح لها شأن ولا يمكن أن يتغير تحريم ربا النسيئة في بلاد الإسلام ولا تحريم أكل الميتة والخنزير.
فأما الثابت فيبقى ثابتا ما دام الإنسان على هذه الأرض له ضروراته التي لا ينفك عنها يتصف بكل صفاته التي تحتاج إلى ضبط من الشرع فهو ضعيف أمام شهواته "وخلق الإنسان ضعيفا" وهو ظلوم جهول لا يقدر مسئولية أمانته وخلافته في هذا الكون.

وكذلك فإن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان أمر معهود نص عليه غير واحد من العلماء كابن القيم والقرافي ولهم سلف من أعمال الصحابة رضوان الله عليهم كما أشرنا وفتاويهم وليس ذلك إلا لترجح مصلحة شرعية لم تكن راجحة في وقت من الأوقات أو لدرء مفسدة حادثة لم تكن قائمة في زمن من الأزمنة والزمن لا يتغير فهو كما قال الشاعر:

ومَا الدَّهْرُ إِلا لَيلَةُ ونَهَارُهَا   وإلا طُلُوعُ الشَمسِ ثُمَ غِيارُهَا

والذي يتغير هو أحوال أهل الزمن والمصالح التي تبنى عليها الأحكام جلباً والمفاسد التي تراعيها الشريعة درء.

ومن رد المحتار: فقد اتفقت النقول عن أئمتنا أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن الاستئجار على الطاعات باطل لكن جاء من بعدهم من المجتهدين الذين هم أهل التخريج والترجيح فافتوا بصحته على التعليم للقرآن للضرورة فإنه كان للمعلمين عطايا من بيت المال وانقطعت فلو لم يصح الاستئجار وأخذ الأجرة لضاع القرآن وفيه ضياع الدين لاحتياج المعلمين إلى الاكتساب وأفتى من بعدهم أيضا من أمثالهم بصحته على الأذان والإمامة لأنهما من شعائر الدين فصححوا الاستئجار عليهما للضرورة أيضا فهذا ما أفتى به المتأخرون عن أبي حنيفة وأصحابه لعلمهم بأن أبا حنيفة وأصحابه لو كانوا في عصرهم لقالوا بذلك ورجعوا عن قولهم الأول.

(والحاصل) أن ما خالف فيه الأصحاب أمامهم الأعظم لا يخرج عن مذهبه إذا رجحه المشايخ المعتبرون وكذا ما بناه المشايخ على العرف الحادث لتغيير الزمان أو للضرورة ونحو ذلك لا يخرج عن مذهبه لأن ما رجحوه لترجح دليله عندهم مأذون به من جهة الأمام وكذا ما بنوه على تغير الزمان والضرورة باعتبار أنه لو كان حياً لقال بما قالوه لأن ما قالوه إنما هو مبني على قواعده أيضا فهو مقتضى مذهبه.