د. محمد الدوري: اللعبة انتهت! من الأمم المتحدة إلى العراق محتلا رؤية أهل الدار

الدكتور محمد الدوري - آخر مندوب للعراق في الأمم المتحدة في ظل نظام صدام- شخصية أكاديمية تحظى باحترام على المستوى القومي العراقي مارس تدريس القانون وكان عميدا لكلية الحقوق في جامعة بغداد وهو وطني مهموم بالعراق، ويعد نموذجا لتكنوقراطي حافظ – بقدر ما - على استقلاليته لفترة طويلة في ظل حكم ديكتاتوري، وكان شاغله العراق كوطن أكثر من نظامه السياسي ، ولعل ذلك هو ما يعطي أهمية خاصة لشهادته حيث تمثل في جوهرهاشهادة واحد من أهل الدار على سقوط بغداد وهي شهادة للتاريخ تقييما لماضي التجربة العراقية في عهد صدام و استشرافا لمستقبل العراق بعد الاحتلال الأمريكي له .
انتهت اللعبة The Game is Over بهذه الكلمة اختزل محمد الدوري التجربة، وبها عبر عن مسلسل الأحداث الدرامية التي أدت إلى سقوط العراق, وانتهي ذلك الفصل الذي كانت منظمة الأمم المتحدة مسرحا له في إطار اللعبة الكبرى التي لعبت وتلعب إدارة أمريكية متطرفة بحياة جنودها وحياة شعب وبمصير بلد مهدد في هويته وكيانه .
انتهت اللعبة .. كلمة قالها الدوري يوم 9 أبريل 2003 عندما سقطت بغداد عسكريا أمام القوات الأمريكية, وقصد باللعبة انتهاء "المسرحية" التي استمر عرضها سنوات طويلة علي مسرح الأمم المتحدة (مجلس الأمن والجمعية العمومية) وشارك في تمثيلها : لاعبون كبار هم: الولايات المتحدة وبريطانيا وعدد من أعضاء مجلس الأمن, منهم أعضاء دائمين وأعضاء غير دائمين و " كومبارس " كبير من الدول , ومن خلف "الكواليس" دول أخرى لها مصلحة مباشرة في تدمير العراق , ولكن لم يكن النظام العراقي ضمن اللاعبين بل إنه ظل فترة طويلة يعتقد أنه يمكنه فضح اللعبة سياسيا ودبلوماسيا باستجابته السريعة لمطالب الأمم المتحدة وبعد ذلك من خلال الصمود والمقاومة كي لا يسمح للجيوش الأمريكية والبريطانية بتحقيق انتصار سهل وان كانت أحوال القوات العراقية (و الشعب) ما كانت لتشجع علي القول بأنها تستطيع الوقوف لفترة طويلة بوجه القوات المعتدية
وكما يري الدوري فاللعبة التي فرضت علي النظام العراقي كانت أكبر منه وعادة ما يدفع اللاعبون الصغار الثمن، فاللعبة بدأت قبل عام 1991 حيث فكر اللاعبون الكبار (أمريكا وبريطانيا والصهيونية) في كيفية تدمير قدرة العراق العسكرية وتغيير النظام السياسي فيه واستخدمت الأمم المتحدة كأداة يمكنها أن تقدم غطاءا شرعيا لأي تحرك عملي.
ثم كانت الأمم المتحدة المسرح الذي جرت عليه أحداث أو فصول اللعبة

يقول الدوري : بنيت اللعبة في الأساس علي وهم أحد الأطراف يكذب ويعرف أنه يكذب ويحاول أن يستمر في الكذب علي أمل أن يصدقه الآخرون و الآخر مستمر في اللعبة من أجل أن يثبت أمام شعبه أو أمام العالم انه يستطيع مقاومة هؤلاء الكبار (أمريكا وبريطانيا) أما الأمم المتحدة : المسرح الذي يتم عرض المسرحية عليه فهي ليست لاعبا أساسيا بل إنها أداة بأيدي اللاعبين الكبار يستخدمونها متي أرادوا.
لقد حاول العراق أن ينقذ ما يمكن إنقاذه بعد الفشل المروع الذي حدث عام 1991 حتى اخرج بالقوة من الكويت ومني بهزيمة كان يجب أن توقظه من وهمه وتعرفه علي حقيقة حجمه لكنه تصور أن حجمه قد كبر بعد ذلك لمجرد انه ظهر أمام الرأي العام العالمي انه يستطيع مقاومة اللاعبين الكبار.
المسرحية التي ألفها و أخرجها أمريكيون وبريطانيون (وآخرون خلف الستار) لإقناع العالم بأن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل أصبحت معروفة المعالم واضحة الأهداف للجميع – عدا عراق صدام –
ومنذ وقت مبكر - وبعد أحداث 11 سبتمبر - واليمين الأمريكي الجديد يبحث عن كبش فداء وكان العراق وبعد جولة علي مسرح الأمم المتحدة انطلق اللاعبون إلى مسرح مجلس الأمن لمواصلة اللعبة وأيا كان المسرح فإن الحوار والسيناريو وسائر عناصر اللعبة توضع كلها في البنتاجون والبيت الأبيض ووزارة الخارجية .

أما العراق فمنذ حرب الخليج الثانية لم يكن اكثر من لاعب سلبي فرضت عليه اللعبة دون أن يعرف أبعادها و أهوالها وحتى وان عرف بعضها فهو غير مهيأ تماما لمواجهتها ولذلك كان يلعبها في إطار دفاعي محدود وبوسائل وأساليب قائمة علي حسابات خاطئة .
وعلى مسرح الأمم المتحدة التي مثلت تلك الخشبة التي جرت عليها وقائع اللعبة عقدت الجلسات التي دعا لها مجلس الأمن حيث أعلن كولن باول أنه سيأتي إلى الجلسة ومعه الأدلة الدامغة بأن العراق يمتلك أسلحة الدمار الشامل وحضرت تلك الجلسة باعتباري أمثل البلد محل النقاش , وحضر كولن باول ومعه تينت مدير CIA وكان الهدف أن تحصل الولايات المتحدة علي الترخيص باستخدام القوة وكانت تلك الجلسة معدة لتكون الطريق للحجة الدافعة، طريق الإجماع لاستخدام القوة العسكرية ضد العراق فإذا بها ترتد عليهم وتصبح الدليل القاطع علي نظافة العراق .
ثم بدأت الحرب وظلت الاتصالات تأتينا من بغداد – يقول الدوري – أن "الوضع تحت السيطرة" بدأت الحرب و انقطعت الاتصالات المباشرة و اصبحت أتلقى معلوماتي من الفضائيات حتى اتصل بي رئيس دائرة المنظمات الدولية العراقي يوم 8 إبريل أي قبل يوم واحد من سقوط بغداد يطمئنني علي الوضع في العراق وأن الأمور جيدة!!
ثم فجأة شاهدت علي شاشة CNN أن المطار قد سقط ولا أحد يعرف الحقيقة بل ذهبت مع العراق أسرار المعركة التي كان يعول عليها في حماية بغداد من الوقوع في الأسر , وفي اليوم التالي ذهبت إلى الممثلية وحين قابلت الصحفيين قلت تلك المقولة التي اشتهرت عني: انتهت اللعبة، ويجب أن يعرف الخاسرون كيف يخرجون من الحلبة بأقل قدر من الضجيج وقررت مغادرة نيويورك وجمعت الموظفين وأطلعتهم الأوضاع علي وذهبت إلى دمشق ثم إلى الإمارات .
وقد جاءت الحرب علي العراق
لتعطي الدليل القاطع علي فقدان المرجعية العالمية التي يمكن العودة إليها أو وساطتها لحل المنازعات الدولية و السبب هو سيطرة الولايات المتحدة علي سلطة اتخاذ القرار في مجلس الأمن فهي دولة المقر لهذه المنظمة وتتمتع بحق الفيتو ولا تتردد في استعماله ، بالإضافة إلى مساهمتها الكلية في ميزانية المنظمة والتي تجاوزت 25 % وهي أعلي نسبة مساهمة ، ثم دورها في اختيار الأمين وتعينيه والسبب الأخير في سيطرة الولايات المتحدة علي المنظمة هو كون أمريكا اكبر قوة عسكرية واقتصادية في العالم .
اتخذ مجلس الأمن قراره الشهير رقم 1441 في 8 نوفمبر 2002 بعودة المفتشين وقبل العراق ذلك في اليوم نفسه بتوقيت نيويورك وكان من يجب ـ والكلام للدوري ـ أن يوافق العراق علي عودة المفتشين منذ عام 1999 فعندما جاءت الموافقة العراقية كانت الاستعدادات العسكرية الأمريكية علي قدم وساق و القرارات السياسية باحتلال العراق قد اتخذت بالفعل.

من أهم عناصر شهادة الدوري هي شهادته على الإعلام الأمريكي حيث يرى الدوري أن الحرب على العراق كانت حربين: حرب عسكرية على أرض العراق وحرب إعلامية علي طول الكرة الأرضية و عرضها
كان الدوري قبل أن يذهب إلى نيويورك يظن أن الصحافة الأمريكية حرة تماما وليس عليها أي قيود ولكن حين بدأ يقترب من وسائل الإعلام ويتعاطى معها اخذ الشك يتسلل إلى نفسه، لا يمكن لأحد إلا أن يعترف بوجود حرية إعلام في أمريكا ولكن ليس بالقدر الذي يروج له.
كان الدوري يتصور أنها حرية كاملة فوجدها مقيدة وموجهة ضد العرب والمسلمين, كان يظهر لمرات قليلة ولدقائق في وسائل الإعلام الأمريكية ولكن ضمن لعبة مسيطر عليها تماما، فما قيمة وأهمية موقف في دقائق أمام طوفان من الإعلام المعادي يستمر سنين عديدة و علي امتداد الليل والنهار .
وفي شهادته يتطرق الدوري للعلاقات العراقية الكويتية ويلخص رؤيته للغزو العراقي للكويت بقوله : كان خطأ استراتيجيا وعملا لا يمكن الدفاع عنه ، وأنه – كما يعرف إخواننا الكويتيون – لم يؤخذ رأي أحد من العراقيين فيه مطلقا ، فمن اتخذ القرار شخص واحد هو :صدام حسين ، لكن الكويت تصرف على أن العراق عدو: شعبا وأرضا وحكومة ، ماء وجوا ، وهذا غلط .
وحين تم احتلال الكويت قدمت الكويت مساعدة ومشاركة كبيرة انتقاما منه ، ويلخص تجربته: علينا أن نتوقف عن اجترار مآسي الماضي وأن نتوجه نحو المستقبل مستفيدين جميعا من أخطائنا
ويرى الدوري أن أهم ما قدمه للعراق هو تحمله للمسؤولية – كاختصاصي وقانوني – بشأن الخلاف العراقي الكويتي في مؤتمر القمة العربية الذي عقد في بيروت قبل انهيار نظام صدام حيث أقنع رئيس الوفد العراقي أن تلك الصيغة المقدمة لا تشكل عبئا إضافيا على العراق خاصة إذا قورنت بالالتزامات المتزايدة المترتبة على العراق بموجب قرارات مجلس الأمن ذات الصلة
وعن عراق ما بعد الحرب يرى الدوري أن الفيدرالية مشروع للتقسيم حيث يحدد الهدف الأمريكي من الحرب على العراق بأنه : السيطرة على العراق كمنطقة استراتيجية وتحويله إلى منطقة نفوذ أمريكي وذلك لتحقيق ثلاثة أهداف تمثل نقاط ارتكاز هي:
أولا : القضاء على النظام الذي كان يشكل مصدر تهديد مباشر أو غير مباشر أو حتى يمكن اعتباره مصدر تهديد احتمالي للمصالح الأمريكية في المنطقة
ثانيا : السيطرة على النفط
ثالثا : ضمان أمن "إسرائيل"
ويرى الدوري: أن الاتحاد الفيدرالي هو طريق للانفصال وليس طريق التوحد ، ذلك أن دولة مركزية تتحول إلى دولة فدرالية يعني أن أجزاء من هذه الدولة تضع في أجندتها أنها ترغب في أن تكون مستقلة وتتصرف على هذا الأساس ، كما أن احترام مصالح وخصوصيات الاقليات يوفرها نظام دستوري ديمقراطي ليبرالي يقوم على أساس التعددية والانتخابات الحرة واحترام حقوق الإنسان فنحن – كما يقول الدوري – لسنا بحاجة إلى فيدرالية بل بحاجة إلى لامركزية إدارية تقوم على احترام للقانون والتطبيق السليم له على يد حكومة منتخبة ، والأقليات وكل المجموعات التي يتألف منها الشعب العراقي ستكون ممثلة في البرلمان وفي الحكومة وفي كل أنشطة المجتمع وفعالياته ، وهذا هو طريق تأمين مصالح الأقليات وخصوصياتها وليس طريق الفيدرالية .
ويحمل الدوري أمريكا وبريطانيا مسؤولية الفوضى التي يمر بها العراق ، ويرى أن تلك الفوضى مقصودة حتى لا يجد العراقيون أمامهم إلا الأمريكان فليجئون إليهم ، كما رفضت أمريكا أن تحدد لنفسها فترة زمنية لمغادرة العراق ، كما أن ما تقوم به الآن الولايات المتحدة هو تدخل في صميم وتركيب الدولة العراقية ، وهي لا يحق لها أن تصدر قوانين تحدد فيها هوية الدولة العراقية ، فدور دولة الاحتلال هو الحفاظ على استمرارية البلد وليس لها أن تسمي الحكومة أو أن تجري انتخابات .

ويلخص الدوري تصوره لمستقبل العراق في :
- وضع دستور عراقي يصوت عليه العراقيون ، يؤسس لدولة عصرية تتفاعل مع المجتمع الدولي بشكل إيجابي
- ثم تأتي "المصالحة الوطنية" أو (المجتمعية) حيث تقوم الحكومة القادمة بواجب أساسي في عملية المصالحة بالاعتراف بجميع التجاوزات التي حدثت في العهد السابق وأن يتم ذلك طبقا للقانون وبواسطة القضاء - ويرى الدوري أن خطوة المصالحة تتم قبل وضع الدستور أي مصالحة مجتمعية شعبية ثم مصالحة سياسية في إطار الدستور .
ويظل أهم نقد يوجه لشهادة الدوري هو نمط حديثه كقانوني ودبلوماسي ، فالشهادة تعتمد في كثير من أجزائها على أسلوب التحليل من الخارج ، كما لو أنه مراقب أو محلل سياسي خارج دولاب الحكم العراقي – وهو ما يبدو من نمط الشهادة أنه كذلك بالفعل حيث يسرد كثيرا مما هو معروف بالفعل من وقائع ويقدم تحليلات للأوضاع العراقية أشبه ما يكون بتحليلات القنوات الفضائية والدوريات السيارة ، فهو يصرح الدوري أنه عندما أراد الخروج من الأمم المتحدة أثناء الحرب على العراق قابله بعض المسؤولين الأمريكيين" إلا انه لم يكن يملك أية معلومات إلا بحكم اختصاصه كسفير في الأمم المتحدة " ويقول أيضا :" أنه لم تكن له علاقة بسلطة اتخاذ القرار في بغداد"
ولعل من الشائع المعروف عن النظام العراقي في عهد صدام حسين "أنه نظام شمولي مركزي تمارس في السلطة على أضيق نطاق فالنخبة العراقية هي " نخبة الشخص الواحد" صدام حسين ودائرة ضيقة من المقربين ويبدو أن الدكتور محمد الدوري كان بعيدا نوعا ما عن تلك الدائرة ، وبقدر ما كانت شهادته شيقة ومثيرة بقدر ما خلت في كثير من جوانبها من تلك المعلومات والتحليلات خاصة ما كان يتم منها داخل الكواليس ، تلك الأماكن التي توزع فيها الأدوار ويحرك فيها مخرج المسرحية أدواته حتى وإن كان بعض ما يبدو للمشاهد أنهم أبطال لا تعدو أدوارهم في اللعبة الحقيقية عن دور الكومبارس .