من أوصاف الجاهلية
29 محرم 1427

كانت الجاهلية تحب الحبيب محمداً _صلى الله عليه وسلم_... تحبه وهو لا يعكف على أصنامهم، ولا يشهد مشاهدهم، ولا يستقسم بأزلامهم... تحبه وهو يفيض في الحج من عرفة لا المزدلفة مثلهم(1)، تحبه وهو يتعبد الليالي ذوات العدد في غار حراء، وحين قال لهم: "إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". "قولوا لا إله إلى الله تفلحوا" سَبُّوه وآذوه وفي الشِّعْبِ حاصروه، ثم أخرجوه وقاتلوه.

وصالح _عليه السلام_ يناديه قومُه "قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـذَا" (هود: 62)، ومعلوم أن صالحاً - عليه السلام - لم يكن مرجوا لمشاكلته قومه وإنما لحسن سيرته بينهم... أحبو صدقه وأمانته وحسن فعاله، وحين تكلم بالرسالة راح رجاءهم وجاء تهديدهم وتكذيبهم.

وموسى _عليه السلام_ تربى في قصر فرعون، وبالطبع لم يكن على دين فرعون، وما آذاه فرعون ولا سعي في قتله حتى تكلم بالرسالة فكان ما كان.

وهذا حال الأنبياء جميعهم، فالصحيح عند أهل العلم أن العصمة ثابتة لأنبياء الله قبل وبعد البعثة النبوية(2). ومع ذلك لم تبدأ العداوة بين نبي وقومه إلا بعد أن بدأ يتحرك لتغير واقع الجاهلية.

فالجاهلية ما كانت تعبأ بشخص صالح، وإنما بشخص مُصلح. بل هي تفرح بالصالحين المنشغلين بأنفسهم... تنظر إليهم بعين الاحترام والتوقير... ترجوهم وتخلع عليهم أرفع الألقاب - الصدق والأمانة مثلا - أما حين يتحركون لتغير الأوضاع في المجتمع حينها تشتد الجاهلية وتتنكر لكل معروف عندها قبل غيرها. وتبذل كل جهدها في الحفاظ على مجتمعها.

فرعون ينادي في قومه "وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" (غافر: 26)
والدين هو الحال ُ التي يكون عليها القوم(3)، يقول ابن كثير في تفسير الآية: "يَخْشَى فِرْعَوْنُ أَنْ يُضِلّ مُوسَى النَّاس وَيُغَيِّرَ رُسُومَهُمْ وَعَادَاتهمْ".
فأخشى ما يخشاه فرعون هو أن تتغير عادات القوم وتقاليدهم.

وتدبر هذا الموقف من قوم نبي الله لوط ـ عليه السلام ـ حين أراد أن يغير مجتمعهم القذر أنظر بما أجابوه قال الله _تعالى_: "وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ. أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ" [النمل: 54- 56].

ونبي الله شعيب لم يحمل سلاحا ولم يعلن جهادا على الكفر وأهله، بل أخذ بمبدأ المسالمة والتغيير بالكلمة " وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وطائفة لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ" [ الأعراف: 87 ].

ولكن الجاهلية لا تطيق كل محاولات التغيير حتى التي لا تتبنى مبدأ القتال سبيلا للتغير: " قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا..." [ الأعراف: 88 ].
فمنطق الجاهلية مع كل الحركات الإصلاحية الجادة: " لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا " هذا هو قول جميعهم كما يحكيه ربنا _تبارك وتعالى_ على لسان كل الجاهليات من يوم كانوا إلى حين نزول القرآن: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا...) [ إبراهيم: 13].
هذا هو منطقهم جميعهم - قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم - كما نصت الآية السابقة لهذه الآية... لم تستثن الآية أحدا.

والمقصود هو بيان أن:
- أن الجاهلية مجتمع ذو عادات وسلوك، وهي تحافظ على مجتمعها وسلوكها ضد كل محاولات التغيير. وهي تتنكر لكل الأعراف والقوانين التي سنتها هي لتسير عليها حين ترى في الأفق بشائر التغيير. وفي هذا إشارة واضحة إلى أنه لا بد من المواجهة بين الجاهلية وكل حركات التغيير الجادة، وأن (القنوات الشرعية) ضيقة مسدودة لا يمكن الوصول منها إلى المجتمع الصالح الذي يريده الله ورسوله. فالجاهلية تقف غير بعيد تخاطب السائرين في (القنوات الشرعية) وغير (الشرعية) بما قالته كل الجاهليات من قبل " لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا " وحينها إما أن تسييس حركات (الدعوة السلمية) التي تسيير في قنوات الجاهلية الشرعية وبالتالي تسلك السبل التي تضلها عن الصراط المستقيم فتتبنى خطابا مَدَنِيّا، وتراعي حق (الآخر) الذي لا يرضى أبدا أن يكون مواطنا من (الدرجة الثانية) كما أمر الله ورسوله، والذي يطالب بمساحة واسعة من حرية إقامة الكنائس و(التبشير) بكفره بين أظهر المسلمين. وإما أن تتصادم مع الجاهلية وتقف في وجهها.

- هذا هو ما يقوله تاريخ الصراع بين الحق والباطل منذ تحرك ركب الإيمان... من نوح إلى محمد _عليهما الصلاة والسلام_.

والحال اليوم هو هو بأم عينه، فالصالح في نفسه الذي أغلق عليه باب داره، وترك مال كسرى لكسرى ومال لله لله، تحمله الجاهلية على رأسها. و(المشاكس) الذي لا تتعدى مشاكسته (القنوات الشرعية) تتفهم الجاهلية أحواله ولا تصطدم معه إلا حين يخرج من (القنوات الشرعية)، وفقط يكون صدامها معه من أجل ضبطه وحمله على عدم الخروج من (القنوات الشرعية).

بل أحياناً - وتدبر معي - تكون هذه النوعية من الصالحين في أنفسهم التاركين لغيرهم نوع من الدعامات أو قل من الحُلِي التي تتزين بها الجاهلية، فهي تدعي التسامح والحرية ومراعاة شعور (الآخر) وتستدل على ذلك بوجود هذا النوع من الطيبين بين أظهرها.
فهل يعقل قومنا؟!

_______________
(1) كان الحمس ـ قريش ومن كان أخواله من قريش ـ يقفون يوم عرفة بالمزدلفة ، ويقف باقي العرب بعرفة ، فجاء الإسلام وحرم هذا وأمرهم بأن يقفوا مع الناس بعرفة ، وذلك قول الله تعالى ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) . راجع القرطبي وبن كثير عند تفسير الآية 199 من سورة البقرة ، وكذا حديث أم المؤمنين عائشة رضى الله عنها المتفق عليه ( البخاري كتاب الحج 1665 ومسلم كتاب الحج 2142) .
(2) راجع إن شئت ( رد الشبهات عن عصمة النبي _صلى الله عليه وسلم_ ) لعماد الشربيني ـ التمهيد .
(3) لسان العرب 13/ 170 وأورد في هذا الموطن مستدلا على هذا المعنى قول النضر بن شميل: سأَلت أَعرابـيّاً عن شيء فقال: لو لقـيتنـي علـى دين غير هذه لأَخبرتك . أي على حال غير هذه.