يا حجر! اتباع لا ابتداع
8 ذو الحجه 1426

الحمد لله الذي أتم النعمة، وأكمل دين الأمة، ورضي الإسلام ملة، والصلاة والسلام على من سن سنن الهدى، وعلى آله وصحبه ومن لآثارهم وسنتهم اقتفى، ثم أما بعد:
فهذه وقفة مع تقبيل عمر –رضي الله عنه- الحجر الأسود، وبيان لما في صنيعه من الاتساء والاتباع، لا الإحداث أو الابتداع، وإلى هذا نبه فقال كما في الصحيح عندما قبل الحجر: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي _صلى الله عليه وسلم_ يقبلك ما قبلتك"، وقد علم أن الحجر لا ينتفع بهذا الخطاب، ولكن كما قال القائل: إياكِ أعني واسمعي يا جارة!

فقال عمر _رضي الله عنه_ قولته المشهورة تنبيهاً للعباد إلى أن العبادات المحضة ليس للرأي فيها مجال، بل هي توقيفية، لا تدرك بقياس، ولذلك أنكر ابن عباس على معاوية _رضي الله عنهما_ استلامه بقية أركان البيت، فقد صح أن ابن عباس طاف مع معاوية فجعل معاوية يستلم الأركان كلها. فقال له بن عباس: لم تستلم هذين الركنين، ولم يكن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، يستلمهما؟
فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجوراً!
فقال ابن عباس: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة"، فقال معاوية: صدقت. [والزيادة الأخيرة من تصديق معاوية عند أحمد]، ولهذا قال بعض أهل العلم: "وهذا الخلاف قد ارتفع وأجمع من بعدهم على أنه لا يستلم إلا اليمانيين".

ولاشك أن من جملة التوحيد الذي أهل به النبي _صلى الله عليه وسلم_ توحيد العبادة، المعلن في التلبية، ومنه أن لا يعبد الله بغير ما شرع:



هَذَا وَثَانِي نَوعَي التَّوحِيدِ تَو   حِيدُ العِبَادَةِ مِنكَ لِلرَّحمَنِ
أن لاَ تَكُونَ لِغَيرِهِ عَبداً وَ لاَ   تَعبُد بِغَيرِ شَرِيعَةِ الإِيمَانِ

وفي هذا تأكيد على بعض مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، بالحض على المتابعة للنبي _صلى الله عليه وسلم_، فيفعل ما فعله من قربة، ويترك ما ترك، وإن ظنها قربة لشبهها بغيرها، اعتماداً على النص، فالعبادات توقيفية، فيلزم ترك القياس في العبادات التي لا يعقل معناها.

فإذا أدركت أيها القارئ الكريم هذا المعنى، وجدت البون الواسع والفرق الشاسع بين هؤلاء وبين من يأتون بعبادات محدثة ما أنزل الله بها من سلطان، وما أقبحها يوم تصرف على حساب غيرها مما شرعه الله، في أشرف البقاع، عند المناسك والمشاعر، والمواقيت والمناحر، وقد مررت ببعض المخيمات وقت غروب شمس عرفة، فوجدتها تهتز وأهلها يقولون بصوت رجل واحد (هو هو هو) وبينما وقف الموفقون يدعون ويتضرعون ولسان حالهم:



أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً   فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ
ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلاّ الرَجا   وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ
إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلاّ مُحسِنٌ   فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ!

فلله ما أعظم الحرمان. وآخرون مغبونون بنوع آخر فتراهم قد أرهقهم الإعياء جراء الازدحام على صعود الجبل، الذي يسمونه جبل الرحمة، على حساب الذكر والتضرع والدعاء.
وطائفة شغلها الإنشاد الذي أحسن أحواله الإباحة عن الذكر والقرآن.
هذا مع أن نبينا _صلى الله عليه وسلم_ قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وأوصانا في ذلك المقام، فقال: "خذوا عني مناسككم"، "لتأخذوا عني مناسككم".

فالموفق من وفقه الله لتعلم حج النبي _صلى الله عليه وسلم_، ثم رزقه الله بعد ذلك الاتباع والعمل بما شرع الله للناس وبينه لهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، والمحروم من ترك ذلك الذي أمر به أو بعضه واستعاضه بأمور حادثات، لا تقرب من رب الأرض والسماوات إن لم تبعد.

وخير الأمور السالفات على الهدى   وشر الأمور المحدثات فبعد

رزقني الله وإياكم لموافقة السنة، واتباع صابحها _عليه أفضل الصلاة والسلام_، ورزقنا من حبه ما يحرك في قلبونا بغض مخالفة نهجه، أو سلوك غير سبيله. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.