أنت هنا

معركة الفكر
16 ذو الحجه 1426

لعل الناظر إلى الإيقاع السريع الذي تتحرك به عجلة العولمة، يلمس التأثير الكبير الذي بدأت تحدثه على مستوى الأفكار والتصورات وأنماط العلاقات والسلوكيات السائدة في العالم. لقد أصبح هذا التوجه الزاحف يمضي بخطوات متسارعة نحو القطع مع كل ما هو ثابت ومطلق في التفكير والمعتقد، ليحل محله النسبي، الذي يخضع بدوره لعمليات التغير والتبدل. منطق العولمة ومنطق الصراع الفكري في العالم يتخذ أشكالاً قهرية وتحكمية لتصفية الخصوصيات، وسحب كل الثوابت المجتمعية من دائرة التداول الفكري والسياسي، فثوابت الفكر وأسس المعتقد في منظور الفكر العولمي الزاحف ما هي إلا مطلقات تجثو على العقول، وتفرض منطقها المنغلق على الشعوب، في حين أن العالم يتجه نحو تحكيم النسبي حتى في أكثر المجالات حساسية: مجال التفكير الديني والمعتقد.

ومن عجيب الموافقات أن تتسرب إلى فضائنا الثقافي دعوات إلى تجاوز كل الآليات الأصولية والمنهجية التي قعدها علماؤنا، باعتبارها تشكل أداة لإنتاج الفكر غير المنفتح، ولأنها لا تسمح بإمكانية الاختلاف، وباعتبارها أيضاً تضع شروطا قسرية تصادر بها عن الناس حق النظر والاجتهاد في النص الشرعي، ومضت في المقابل، تعد النص الشرعي كخطاب لغوي مفتوح على كل الدلالات، وأنه يحتمل كل قراءة، ما دامت القاعدة تقر بأن الخطاب ما أن يصدر عن مرسله حتى يحتمل كل أشكال التأويل من المتلقي. إنها جرعة كبيرة من النسبية أريد لها أن تحقن داخل البناء الأصولي، لتتسع رحابه حتى لا يضيق بقراءات عديدة للنص الديني احتملها السياق اللغوي أو لم يحتملها، والقصد الظاهر من الاستمساك بمفهوم النسبية، ومفهوم الانفتاح والاختلاف، هو تدمير البناء الأصولي الإسلامي وعدم الاكتراث بصرامته المنهجية، وفتح الباب واسعاً لتأويل نصوص الشريعة من غير استحضار لأصولها وضوابطها ومقتضياتها المنهجية.

واضح إذن، أن مفهوم النسبية الذي صارت تزكيه فلسفة ما بعد الحداثة، يحاول علمانيونا أن ينقلوه إلى مجال تداولنا، وأن يسحبوه على مفاهيمنا وثوابتنا، خاصة منها المعتقد والمنهجية الأصولية، ومنتهى تفكيرهم وغاية قصودهم، ألا يبقى في التفكير الإسلامي مسلمة أو ثابت أو قاعدة أصيلة يلجأ لها الناس لتقويم آلة الفكر عند الاختلاف، وهكذا فكل قواعد التفكير عندنا، سواء التي تلك التي صرحت بها النصوص، أوتلك التي قعدها العلماء استدلالاً واستقراء من المظان الشرعية، فهي ليست مقدسات، وما هي إلا اجتهادات محكومة أولا بثقافة مبدعها، ثم هي ثانياً محكومة بسياقها التاريخي والسياسي، وحيث إن العالم قد طرأت فيه من التحولات العميقة ما يجعل القول إن ثقافتنا صارت تختلف بنحو كبير مع ثقافة علمائنا من المجتهدين، وحيث إن علماءنا كانوا ينظرون ويجتهدون ضمن سياق تاريخي وسياسي يزكي الفقه السلطاني ويدعم مقتضياته القهرية التحكمية، فقد صار من باب الجائز، بل الواجب تجاوز هذه الاجتهادات وهذه الاعتبارات الأصولية، والانفتاح على ما أبدعه العقل الإنساني سواء تعلق الأمر بعالم الثوابت العقدية أو عالم القيم، أو الأسس والقواعد المنهجية من حيث هي أدوات لإنتاج المعرفة.

هكذا يؤصل العلمانيون لمداخلهم الفكرية لتصفية ثوابت الفكر والمنهج عندنا في ثقافتنا الإسلامية، وهم إذ يفعلون ذلك تحت مسمى دعم مواقع النسبي، ودعم الحق في الاختلاف، لا يترددون في الدفع بمطلقاتهم التي لا يرون سبيلاً لمناقشتها والطعن فيها، ما دامت قد اكتسبت بعداً عالمياً وكونياً. إنهم يدفعون بالعالمية والكونية كقداسة جديدة يعطون بها الشرعية لثوابتهم الجديدة ومطلقاتهم التي يحاولون أن يزيحوا بها ثوابتنا الأصيلة.
لن يجرؤ أحد أن ينازع أو يراجع مطلقاتهم، فسيل التهم لن يتوقف، فكل من يجرؤ على ذلك أقل ما يتهم به أنه لا يقبل الانفتاح، ولا يعرف للتسامح معنى، وأنه يرفض ما انتهى إليه الإبداع الإنساني "الكوني" ويستمسك بأفكار رجعية ماضوية منغلقة متطرفة.

هي نفس اللغة الاقصائية التي تدعي انطلاقها من الإيمان بالنسبي، غير أنها مغرقة في الإطلاقية، مؤمنة بالإقصاء إلى أبعد الحدود، متسلحة بالمنطق القسري التحكمي. هي لا تتبنى النسبية إلا إذا تعلق الأمر بتصفية مطلقات الآخر وثوابته، حتى إذا نجحت في مهمتها، حينها تنصرف لتأكيد مطلقها وثوابتها الجديدة، مستعملة لغتها المقدسة التي يتعدى منطق تحكمها منطق الدين نفسه. فإذا كان الدين يسوق ثوابته للناس، فيسمدون بذلك قوة عقائدهم وأفكارهم من منطلق قداسة المصدر، فهؤلاء يزيدون إلى قداسة المصدر قداسة الإجماع والإبداع تحت مسمى الكونية. وأي قداسة أكبر من هذه ما دامت ترفض كل خصوصية وتدمر كل ثابت لا يساير منطقها.

مطلوب إذن أن نحسن عرض قناعاتنا، وأن نستمسك بثوابتنا، وأن نعرج على منتوجنا الأصولي نمحصه، ونعيد النظر في بنائه وننتقد مسلماته ونراجع كل القواعد التي قعدها العلماء، فنرى منها ما يكون أقرب إلى الاستصحاب في معركة التدافع الفكري، فمعكرة الثوابت الفكرية، ومعركة المنهجية الأصولية، ومعركة التجديد الديني ستكون من أشد المعارك ضراوة في المستقبل القريب. منطق التدافع الفكري ماض في تقرير صراع المنطلقات والثوابت، وسينال النص الديني حظه الوافر من النقاش، فيجدر بمن يتتبع ساحة الفكر والثقافة أن يهيئ نفسه لهذه المعركة، وأن يتسلخ بأدوات المعرفة والمنهج، ليكون أقدر على المواجهة والصمود. هي معركة فكرية لا يكون لنا فيها من عناصر القوة سوى التسلح بالمعرفة، ويكون لهم فيها أسلحة أخرى تفرضها موازين القوى السائدة، فقد يشحذون وسائل السياسة، وقد يستعينون بكل الأجهزة والقنوات التي تتحكم في صناعة الفكر والاختيار والذوق، غير أن المعركة الفكرية لا يحسمها سوى التسلح بالمعرقة، فهل نقوى على تحصين الجبهات، وهل نستطيع أن نثبت في هذا المعترك الصعب في الوقت الذي تراجع فيه التكوين المعرفي ليحل محله الاشتغال بالسياسة؟

حري بالحركة الإسلامية أن ترتب لهذه المعركة الفكرية المنهجية بإعداد الكوادر والطاقات الفكرية القادرة على إدراة الصراع، وهي لا شك كاسبة لجميع جولاته إن هي وضعت المهمة الفكرية والمنهجية في قلب اهتماماتها.