التخلف.. الواقع والأسباب

الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

المقدمة:
فنحن " أمة رسالة" مهمتنا الأولى في هذه الحياة, ليست إعمار الأرض ولا تحقيق الرفاهية أو تحسين الحالة الصحية,أو تأمين عبور القارات فحسب, بل محاولة التحقق والتلبس بالعبودية الكاملة لله تبارك وتعالى وإعلاء كلمته في العالمين.

الواقع:
إذا أجلنا النظر في حال الأمة اليوم ومدى التزامها بدينها, أمكن أن نلحظ الواقع المرير الذي يعيشه المسلمون في عدة نقاط, ومنها:
أولاً: انحرافات في مفاهيم العقيدة الأساسية:
سواء ما يتعلق بالذات الإلهية, أو ما يتعلق بالنبوة والرسالة, أو ما يتعلق باركان الإسلام أو الإيمان, أو ما يتعلق منها بنواقص الإسلام, أو غير ذلك.. وهي تتفاوت بين بلد وآخر, فمثلاً في عقيدة الإيمان بالقضاء والقدر يعتقد المسلم أن الرزق مقسوم, ولكنه في الواقع يأكل الربا ويمارس الغش, ويأخذ الرشوة,ويُذل نفسه وينغمس في الرذيلة ويضيع كثيرا من الفرائض والواجبات طلباً للمال...

ثانياً: الجهل بأحكام الدين:
ومن أعظم أسباب ذلك, تحجيم المواد المدرسة في التربية الإسلامية في السواد الأعظم من البلدان الإسلامية إلى درجة لا تبتعد عن العدم كثيراً, وتشويه كثير من وسائل الإعلام والمنشورات والمطبوعات لحقائق هذا الدين, وتسليط الضوء على جانب من الإسلام وإسدال الستار على جوانب أخرى, بسبب ذلك كله اختلطت أمور الحلال والحرام, وكثر التهاون بالكبائر, وساد إهمال الفرائض...

ثالثاً: غلبة النزعة المادية وسيطرتها على مشاعر المسلمين وهمومهم:
ومن أسباب ذلك, التأثر بالحضارة الغربية المادية, وصار هم كثير من الناس ما زاد في ثروته وما كان في مصلحته, حتى ضعف استعمال الوصف للإنسان ب " الصالح _ التقي _ الصادق " وحل محلها
" الذكي_ الناجح _ البارع "
ناهيك عن الأحوال المعيشية السيئة للسواد الأعظم من المسلمين, حيث أذل الفقر والمرض والجهل المسلم, وضغط على قيمه وأخلاقه, ودفعه إلى الوقوع في كثير من الدروب المظلمة المقفلة...

رابعاً: اختلال الموازين في الأولويات والمنهيات الشرعية:
ففي بعض البلدان الإسلامية, يحرص كثير من المسلمين على الأضحية وغسل الجمعة وهما نافلة أكثر من حرصهم على الصلاة المفروضة, ويهتمون بالصيام أكثر من اهتمامهم بالصلاة,مع أنها آكد وأهم في نظر الشرع وتحرص كثير من النساء على أداء صلاة العيد,ويخرجن وهن متعطرات وفي أبهى حُلة..
وعندما يتكلم إنسان بكلام يفهم منه صدقه وحبه للدين, يُحسن الظن به, مع أن واقع حياته وأعماله هو الصد عن سبيل الله عز وجل والاستهانة بأمره

خامساً: التقصير الكبير في نشر الدعوة الإسلامية:
وذلك خارج المجتمعات الإسلامية, والتقصير في التوعية الإسلامية داخلها, ومنه عزوف أهل العلم والفكر عن مهمتهم التي لا يستطيع أن يقوم بها غيرهم, وهي التوعية والقيام بأمر الدعوة فينخرطوا بين الناس, ويُحسوا بشعورهم, ويتبنوا مشكلاتهم, ويعالجوا قضاياهم ولو لم يكن في شرح الإسلام للعالم سوى تحسين صورة المسلمين التي شوهها الأعلام الصهيوني أمام الآخرين لكان ذاك كبيراً
وما يبذل من جهد في دعوة غير المسلمين في بلاد المسلمين إلى الإسلام يكاد يكون محدوداً أو مخصوصاً, مع أن الجالية غير المسلمة قد سببت الكثير من المتاعب للإسلام والمسلمين.
وهكذا حال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتوعية عامة المسلمين داخل بلدانهم هو أمر يحتاج إلى متابعة ومضاعفة جهد في بعض الأقطار, فليس على المستوى المطلوب..

هذه بعض ملامح الواقع المرير الذي نعيشه مع ما يشوبه من عوامل مادية من فقر ومرض وأمية وقهر, وصار كل منها يُمد في سلطان الآخر حتى وصلنا إلى ما نحن فيه..
وقد أخبر الله _تعالى_ أن هلاك الأمم السابقة وسوء أحوالها, لم يكن بسبب تقصيرها في إعمار الأرض والسيطرة على الطبيعة, وإنما بسبب استدبارها لرسالات السماء وبعدها عن المنهج الذي سنته لهم, فلنحذر من مغبة ذلك الركون...


الأسباب:
نكاد نجزم بأن من الأسباب الرئيسة للتخلف الذي يمر به بعض المسلمين هو أننا جعلنا التفكير ورسم الخطط, مهمة آحاد من الناس, أما البقية فهم يتفرجون لا يتجاوز دورهم تكثير السواد, ومن الأسباب:

أولاً: الاختلاف والانقسام:
فيُلحظ اختلاف في وجهات النظر بين أصحاب الخبرة وأصحاب القرار, مما سبب التمزق والحيرة والقلق, وهكذا أصحاب التخصصات العلمية والفنية بينهم وبين القيادات بون شاسع أدى بهم إلى أن يرسموا في الفراغ
ولهذا وغيره حُرمت الدولة الإسلامية من الخبرات والكفاءات التي تساعد على اتخاذ القرارات الراشدة واستكشاف آفاق المستقبل
وسبب ذلك ضعف تطوير الأنظمة الإدارية المختلفة بما يناسب اتساع رقعة العالم الإسلامي وتغير كثير من أحواله...

ثانيا: ضعف البحوث العلمية والتصنيع:
ففي أيام الدولة العثمانية, كانت الجهود في البحث العلمي والتصنيع متواضعة ضعيفة, إلى أن تم تفجير البلاد من الداخل, بسبب قصور داخلي وتآمر خارجي وانفرط عقد الخلافة ودخلت أكثر الدول الإسلامية الموالية للغرب مرحلة النهب العالمي وبدأ استنزاف كنوز العالم الإسلامي وثرواته وخبراته وعقول أبنائه, بخلاف أوربا في ذلك الوقت فقد بذل كثير من عُلمائها جهوداً مُغنية في البحث العلمي مكنته من سيل من الاختراعات والمصنوعات المدنية والعسكرية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه.

ثالثاً: عدم استثمار الطاقات في العالم الإسلامي:
فكثير من القوى الفاعلة فيه, لا تعرف موقعها الحضاري على خارطة العالم, ولا تعرف حجم الهوُة التي تفصل بيننا وبين العالم المتطور, ذلك لأن المعني بتفعيل هذه الطاقات, أصيب بداء (تمجيد الذات) فهي لا تذكر إلا الإنجازات, وتخفي حجم المشكلات التي تعاني منها الأمة.
وكثير من الصفوة الرواد, غرقوا في تخصصاتهم النظرية والعلمية إلى الآذان, مما أفقدهم الرؤية الصحيحة, والتعرفُ على حجم المشكلات التي نعيشها, يكون عن طريق الحصول على الأرقام الحقيقية للمدخلات والمخرجات الحضارية..

والأرقام والإحصاءات لدينا قليلة وغير دقيقة, وهذا ظاهر في الدول الإسلامية المستدمرة المستعمرة, حيث كانت السياسة الاستدمارية الاستعمارية تقضي بحجب الإحصائيات, أو إعلانها جزئيا, بل وصل الأمر إلى تزويرها, وبعد الاستقلال لم تستطع الدول الإسلامية القيام بإحصاءات دقيقة حول واقعها الاقتصادي والاجتماعي, للنقص في قدراتها المادية والفنية أو لعدم وعي القائمين على السلطة بأهمية هذه الإحصاءات

رابعاً: الاستدمار وويلاته على جميع الصُعُد:
فحين غزت أوربا العالم الإسلامي, لم يكن لديها رسالة حضارية تنقلها, بل ولم تكن حريصة على نقل شيْ من بلادها إلى الخارج, وإنما كان الواقع هو نهب المواد الخام, والآثار والكنوز والمخطوطات, ثم تأمين أسواق لمنتجاتهم الكثيرة والمتنوعة, وقد فعلوا
لقد خنقوا الاقتصاد الوطني للدول المُُستدمرة المستعمرة من خلال ضرب كل الصناعات التي تنافس مصنوعاتهم في بلادهم كما فعلت بريطانيا العظمى في الهند, وفرنسا في لبنان والجزائر
وعلى الصعيد الثقافي والاجتماعي والسياسي لم يخرج المُستدمر المستعمر, حتى ترك وراءه مالا يحصى من المشكلات
وانصبت جهود المُستدمرين على إقناع شعوب العالم الإسلامي بتبني عاداتهم وتقليدهم على جميع الصعد, وأنهم أقرب إلى البداوة والتوحش, وأن الحل الوحيد, هو الاندماج في القيم والعادات التي نقلها المُستدمر إليهم, وكانت النتيجة هي تدمير الشخصية والبنيات الوطنية المحلية, فضلا عن القنابل الموقوتة مما يتعلق برسم الحدود بين الدول حيث رُسمت بطريقة لا منطقية ولا تاريخية, وتولى كِبر ذلك الإنجليز, الذين أظهروا براعة خاصة في هذا الشأن
وإن تعجب فعجب أن الطاقات الحية تُهدر في فض الخلافات التي ولدها رسم الحدود السيء الماكر, في وقت قد نشبت فيه الحروب الطاحنة بين الأشقاء ودول الجوار بسبب ذلك.
وتُنفق عشرات البلايين على شراء الأسلحة وتكاليف الحروب, مما يحتاجه المسلمون أمس الحاجة في بناء دولهم ورفع اقتصاد شعوبهم...

خامساً: سيطرة الإعلام الغربي:
عانى المسلمون طويلاً, ومازالوا يعانون من السيطرة الإعلامية للعالم الغربي, وقد استفاد الغربيون من التطور التقني الضخم, في تنفيذ سياساتهم المختلفة من بسط سلطان ثقافتهم والترويج لمصنوعاتهم وإعادة تشكيل عقول الناس وفق مصالحهم وأهوائهم, فمصادر الأخبار العالمية والإسلامية والعربية تتمثل في وكالات الأنباء العالمية " رويتر _ فرانس برس _ بي بي سي _ منتاكارلو _ يونايتد برس _أسوشيتد برس _ تاس"
وهذه الوكالات هي التي تصنع الخبر والرأي والموقف والتحليل, وعنها تأخذ كل وكالات الأنباء الوطنية موادها, وترسخ قيمها, وعن طريقها أصبحت تتكون لدينا كل المعايير" الحق والباطل, الصواب والخطأ, الجيد والرديء "

وزاد الطين بله, ما تم إنجازه اليوم من البث المباشر, حيث صارت تُنقلُ الصوت والصورة إلى بلاد المسلمين من غير رقيب, فضلاً عن المشاهد والصور الجارحة للحياء, الملهبة للشهوات, والمؤسسات الإعلامية المنافسة في العالم الإسلامي اليوم, كثير منها لا يُرسخ القيم الإسلامية أو حتى الثقافة المحلية الوطنية,وإنما هو امتداد بصورة ملطفة للإعلام الغربي في المضامين والأسس والمنطلقات والوسائل, وقد آثر أكثرها الاستيطان في ديار الغرب ليكون قريبا من مصادر الصناعة الإعلامية وليُفلِتْ من أية مؤاخذة أو رقابة...

سادساً: تحكم الدول الصناعية الكافرة في خيرات الدول المسلمة:
ومن أسباب ذلك, التنوع الهائل للاحتياجات, وقصور المصانع الوطنية عن تصنيع الناتج المحلي, وعدم قدرة الدولة النامية على جعل منتوجاتها تخوض المنافسة الدولية, وعدم وجود سوق إسلامية تؤدي إلى التكامل,وأدى ذلك كله إلى نتيجة وخيمة,هي تراجع أسعار المنتجات الإسلامية, وتحكم الدول الصناعية بتلك الأسعار على حين أنها ترفع أسعار منتوجاتها بطريقة شبه حرة, لا تقيدها إلا المنافسة العالمية بينها

واستفاد العالم الغربي من هيمنته الاستدمارية الاستعمارية في الماضي في تهميش العلاقات الاقتصادية بين الدول الإسلامية, فإذا فاض لدى شعب من الشعوب الإسلامية نوع من منتجاته لم يجد له سوقا إلا في الغرب, وإذا احتاج إلى شي لم يجده إلا هناك
ناهيك عن حجم التجارة بين الدول الإسلامية حيث انه لا يزيد على 4% من مجمل تجارتها الدولية, وهذا كله أدى إلى ضعف إمكانات التكتلات الاقتصادية والصناعية والإنتاجية في العالم الإسلامي....

الخاتمة:
وبعد هذا الاستعراض السريع لواقع أمتنا المرير والأسباب التي أدت إليه, لابد من النزول إلى الساحة, فالساحة فارغة, ولابد من الاهتمام بالأجيال الإسلامية, فالأجيال متعطشة, ولنترك الكسل والترهل والاستنامة إلى الفتن والشهوات, فهي مرتع وبيل, لم تجن منه الأمة الإسلامية إلا السير إلى الوراء, ولنسعَ جميعا في ركاب العلم النافع الذي يبني ولا يهدم...

ودعوتي لكم أيها الدعاة:
دعوة إلى المزيد من المنهجية والتفكير المثمر, وإن على عاتق كل واحد منكم, تحرير العقول من العبودية للأحزاب, ومن الذوبان في أقوال الشيوخ, فإن ذلك مطلب رئيس, للنهوض بالعمل الإسلامي من الرتابة والدوران حول الذات..
ولعل من أبرز مقومات نجاح العمل الإسلامي, أن تستحث تلك الطاقات الكامنة الخاملة, إلى النظر والتأمل, وفق الأسس والموازين الشرعية, فلأن تُفكر الأمة بمئة عقل, خير لها وأنفع, من أن تُفكر بعقل واحد...
والحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين..

_________________
المراجع:
• نحو فهم أعمق للواقع الإسلامي لعبد الكريم بكار صفحة 37 _53
• فصول في التفكير الموضوعي لعبد الكريم بكار صفحة 45
• مجلة البيان عدد 17صفحة 108
• مجلة البيان عدد 82 صفحة 101_102