أنت هنا

ما الذي يدعو أمريكا لضرب سوريا... وما الذي يؤخرها؟
10 ذو القعدة 1426

إنّ كل ما سيحدث من تطورات في المرحلة اللاحقة يعتمد اعتمادا اساسيا على الموقف الأمريكي والنوايا الأمريكية وليس على الموقف السوري كما يعتقد البعض خطأ. فقد تقوم سوريا بكل ما يتوجب عليها من التزامات تجاه المطالب الدولية, ولكن قد لا يكون ذلك كافيا بالنسبة للنوايا الأمريكية وقد يدفع ذلك الى ان يجر تنفيذ المطالب الحالية مطالب اخرى وان يسحب التنازل الآن معه تنازلات اخرى وهكذا دواليك حتى نصل الى ما وصل اليه العراق.
لكن ما استطيع قوله ومن خلال المطالعات في هذا الموضوع ومن خلال الحكم المنطقي انّ هناك شبه اجماع على فكرة عدم تغيير النظام السوري في الوقت الحاضر على الأقل وبالتالي عدم توجيه ضربة كبيرة لسوريا قد يكون من آثارها انهيار النظام او تغيّره, لذلك نرى في هذا الصدد انّ هناك تردّد في هذه المسألة, وهذا التردد يعود الى اسباب عديدة من بينها:

1- استمرار الغرق الامريكي في المستنقع العراقي والخسائر الماديّة والبشرية الكبيرة التي تمنى بها, لذلك فانّ خوض مغامرة عسكرية اخرى في أي مكان وضمنه سوريا قد يشكّل كارثة للجيش الامريكي اذا لم يتم انهاء المسألة العراقية وتخفيف الضغط على الجيش الامريكي في العراق من خلال تسليم المهام الأمنية الى أتباعهم من العراقيين.
2- هناك تخوّف من انّه في حال شن ضربة كبيرة على سوريا, فانّه سيكون هناك غضب شعبي عربي شامل غير مسبوق وأنّ سوريا ستفقد عقلانيتها وستستخدم كل اوراقها التي سيكون من ضمنها اشعال الجبهة اللبنانية-الاسرائيلية عبر حزب الله, اشعال الجبهة الفلسطينية من خلال الدعم الكامل للفصائل الفلسطينية, فتح الحدود السورية-العراقية على مصراعيها للسماح بتدفق المقاتلين الذين تلقي القبض عليهم الى حد الآن.
3- التردد ايضا في توجيه ضربة شاملة للنظام السوري يعود الى التخوف الاسرائيلي من انهيار هذا النظام في الوقت الحاضر, ممّا قد يشكل مدخلا ممتازا لمن يوصفون بالجماعات "الارهابية" وعليه فلن تكون اسرائيل بقادرة على مواجهة هذا المد "الارهابي" وغير قادرة على ضبطه او هزيمته او اجباره على أي شيء من خلال الضغوط السياسية او العسكرية التي لن يكون لها أي تأثير. ففي هذا السياق أكد مصدر'إسرائيلي' رفيع المستوي لمعاريف الصادرة بتاريخ 21 -10-2005 أنه إذا ما حدث أي شئ لسوريا في هذا الوقت فسوف يحدث خراب ودمار في المنطقة وربما قام شخص متطرف بالصعود للحكم ويكون دينياً ومتطرفا أكثر من 'بشار'. كما تتخوف الاستخبارات من أن تصبح سوريا المعقل الأول والأكبر للحركات الجهادية العالمية التي ستتقاطر من كل مكان لمهاجمة اسرائيل, وسيكون من شان ذلك ان تتهدد انظمة حكم تعتبر حليفة لاسرائيل او على الأقل انظمة حكم تشكل خطّا مانعا لهؤلاء الجهاديين من الوصول الى اسرائيل كالأردن ومصر, وبالتالي من الممكن جدا لاسرائيل ن تتهاوى بسبب عدم قدرتها على فرض شروط سياسية على خصمها فضلا عن تحديد موقعه وضربه او هزيمته.
4- التردد يعود أيضا الى عدم اقتناع بعض الدول المجاورة لسوريا (تركيا) او الصديقة والحليفة لأمريكا (السعودية,مصر) بهذا الخيار, فتركيا رافضة الى الآن جميع التهديدات الامريكية, وكانت مصادر تركية كشفت مؤخرا عن أن مستشار الأمن القومي الأميركي ستيفن هادلي ومساعدة وزيرة الخارجية الأميركية للدبلوماسية العامة كارين هيوز، نقلا إلى أنقرة طلباً أميركياً يتعلق بسيناريو لتغيير نظام الحكم في سوريا. ولكن تركيا -حسبما نقلت شبكة أن تي في الإخبارية التركية- رغم تشجيعها للتحول الديمقراطي في سوريا، حذرت من أن اللعب في الموضوع السوري ستكون له مخاطر كبيرة، أكثر من المخاطر الناجمة عن الموضوع العراقي.
5- تخوف الأمريكيين من أنّ الاطاحة بالنظام السوري قد يؤدي الى انتقال السلطة للاخوان المسلمين في سوريا على اعتبار أنّهم الأقوى والأقدر كما تقول التقارير الأمريكية نفسها خاصّة بعد الاستياء الامريكي من التطورات الحاصلة في مصر لمصلحتهم, ولذلك فالأفضل الاستمرار نظام علماني على حد قولها على ان يأتي هؤلاء الاسلاميين الى الحكم لأنّها ترى فيهم تهديدا خطيرا لمصالحها.
6- صعوبة ايجاد مبرر شرعي قوي يمكن تسويقه للمجتمع الدولي او فرضه عليه كذريعة لضرب واجتياح سوريا فلا يوجد "سيستاني" يشرعن الاحتلال دينيا ولا يوجد "الجلبي" يشرعن الاحتلال سياسيا, كما انّ أمريكا ليس لها أي تيّار داخل سوريا موالي لها ولتحركاتها.

هذه هي معظم المبررات (بالاضافة الى غيرها مما سيستجد) التي تحول دون ضرب وتغيير النظام السوري من قبل أمريكا. ولكن ذلك لا يعني انّه لا توجد خطط مسبقة واستعدادات وسيناريوهات لضرب سوريا وتغيير النظام.
و قد تمّ تحضير اوّل وثيقة تتحدّث عن هذا الموضوع في عام 1996, وهي وثيقة ريتشارد بيرل (أمير الظلام) التي تمّ تحضيرها برعاية معهد الدراسات الاستراتيجية والسياسية العليا في واشنطن وهي بعنوان: "تحوّل واضح: استراتيجية جديدة" وشارك في اعدادها دوغلاس فايث, دايفيد وورمسير, ميراف وورمسير, وجون بولتن وتمّ تسليم مسودّة عنها لبنيمين ناتنياهو آنذاك.
امّا حديثا, فقد نقلت صحيفة فاينانشال تايمز في 10 أكتوبر 2005 عن فلينت ليفريت أن الإدارة الأميركية تدرس شن عمليات عسكرية عبر الحدود داخل سوريا لتضغط على نظام الحكم.
ولا تستبعد الإدارة الأميركية توجيه ضربة عسكرية ضد سوريا من حساباتها الإستراتيجية، وقد تحدثت مجلة نيوزويك في عددها الصادر في 4 أكتوبر 2005 بأن هناك "حركة يقوم بها الجنرالات والأدميرالات في البنتاغون من أجل تجديد الخطط المحتملة لضربة أميركية لسوريا".
و أوردت صحيفة الـ "واشنطن بوست" مؤخرا في تقرير لمراسلها وليام اركين ان ادارة الرئيس جورج بوش كانت قد اعدت خططها لامكانية القيام بعمل عسكري ضد سوريا حتى قبل صدور القرار 1636. واشار اركين الى ان وثائق الاستخبارات الداخلية والمناقشات مع القادة العسكريين ذوي الصلة بهذا التخطيط اظهرت ان القيادة المركزية الاميركية كانت موجهة العام الماضي الى اعداد "مفهوم استراتيجي لسوريا كخطوة اولى نحو بناء خطة حرب كاملة".
و من هذا المنطلق, واذا استثنينا التحليل المنطقي, فقد يقوم المحافظون الجدد بحماقات كثيرة من بينها ضرب سوريا ومحاولة تغيير النظام, فقد قاموا بحماقات كثيرة من قبل ولا شيء يمنعهم من تكرارا ذلك اذا فقدوا احساسهم بالمسؤولية وعدم قدرة أي احد او جهة داخلية أو دولية على مساءلتهم او محاسبتهم فضلا عن منعهم. لكن مع ذلك فانّ ضرب سوريا بمكن ان يكون جزئيا, بمعنى "عمليات جراحية" طالما انّ الهدف الاساسي والرئيسي هو اضعاف النظام السوري لكن دون الوصول الى نقطة الانهيار, التي سيتم تحديدها في مرحلة لاحقة. ففي العادة يتم اضعاف النظام الخصم الى اقصى درجة ثمّ بعد التاكد من انه على شفير الانهيار تكون الضربة الكبيرة والتغيير. امّا فيما يتعلّق بسوريا الآن فالمرحلة هي مرحلة اضعاف وعليه قد يتم اللجوء الى ضربات عسكرية محدودة وذلك لعدد من الأسباب منها:

1- امكانية اختلاق ذريعة مناسبة لمثل هذه العمليات المحدودة, وهي القول بوجود مقاتلين في مناطق معيّنة من سوريا يتلقون تدريبهم هناك وثم ارسالهم الى العراق, ممّا يعني امكانية شن ضربات محدودة على مناطقهم بدعوى دفاع امريكا عن نفسها في العراق.
2- انّ مثل هذه الضربات تهز ثقة النظام بنفسه وتشعره انّه معزول وان لا سند له.
3- انّ مثل هذه الضربات محدودة التكاليف ولا تتضمن عادة خسائر أميركية تذكر في الأرواح خصوصاً مع استخدام السلاح الجوي والصواريخ.
4- أنّ مثل هذه العمليات لن تحظى باستنكار دولي او عالمي، باعتبار ان العالم يدرك حجم العمليات التي تنفذ ضد القوات الاميركية في العراق، وان اميركا دأبت في الطلب من سوريا منع تسلل المقاتلين من اراضيها الى العراق ومنع التدريبات التي تجرى فيها، لكن الاخيرة لم تستجب.
5- تكون هذه العمليات بمثابة رسالة واضحة لا لبس فيها الى سوريا مفادها ان الادارة الاميركية لن تتهاون في التعاطي مع النظام السوري اذا لم يتعاون جديا، ووفقا للاجندة الاميركية، مع متطلبات المصلحة الاميركية-الاسرائيلية في المنطقة.
6- أنّ انعكاسات مثل هذه العمليات على السياسة الاميركية هي الاقل ارباكا من سياسة الحصار والعزل، وان نتائجها اسرع واضمن. ذلك ان قدرة النظام في سوريا على تحمل نتائج مثل هذه العملية ستكون على المحك، ولاسيما ان المعارضة السورية ستتأكد ان الادارة الاميركية جادة في التعاطي مع النظام في سوريا على النحو الذي يكفل التغيير، سواء في القرار السياسي او في بنية النظام.

وبين هذا الخيار وذاك, على سوريا ان تقرر باكرا امّا دخولها المواجهة او الاستسلام للشروط الامريكية, وعليها ان تعرف انّ أي صفقة مع امريكا لن تنقذها وانما ستطول من عمر النظام بضع سنوات معدودة وستعود أمريكا من جديد. وعلى سوريا ان تعرف انّ بيدها اوراقا قد ترقى ايضا الى مستوى الانتحار اذا ما ارادت المواجهة ولكنها ستطيح بامريكا معها في حال استخدامها, وعليه فعلى السوريين ان يحسموا امرهم ووموقفهم وفي جميع الاحوال فنحن مع الشعب وضدّ امريكا والمسألة معروفة وواضحة.