أنت هنا

سوريا وإيران: نقاط الاتفاق وحدود الافتراق
10 ذو القعدة 1426


الود المتصل بين دمشق وطهران يمكن تلمسه من خلال مئات التصريحات المتبادلة الصادرة عن العاصمتين لمدة طويلة, حتى قبل أن يدشن الرئيس حافظ الأسد ومرشد الثورة الإيرانية علي الخوميني تحالفهما الاستراتيجي المتين ضد الرئيس العراقي الأسير صدام حسين قبل أكثر من عقدين. ولكن أين تلك التصريحات الودودة من ذاك التصريح اللافت برغم ديبلوماسيته لأبي بكر الساعدي القيادي في "المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" بزعامة عبد العزيز الحكيم عن علاقة سوريا بعمليات المقاومة, والذي لفت فيه إلى أن "مشكلة السوريين هي أنهم ما زالوا يؤمنون بأن مستنقعاً دموياً للأمريكيين في العراق, فيه مصلحة استراتيجية لهم", مبدياً لهم النصح بـ"تغيير استراتيجيتهم على قاعدة أن استقرار العراق هو خير كثير لسوريا وللمنطقة", فالخير الكثير لسوريا هو بنظر الساعدي هو مزيد من السيطرة الإيرانية على مقدرات الحكم العراقية, أو هكذا بمقدورنا أن نفهم, إذ الساعدي هو ناطق باسم المجلس وطهران في آن معاً !! وحيث يصدر هذا التصريح من مسؤول وثيق الصلة بإيران فهو يعني أن طهران ممتعضة من سلوك سوري تراه بعدستها المفرقة, زد على ذلك حزمة من التصريحات الصادرة من مسؤولين عراقيين ينضوون تحت حكومة يرأسها زعيم حزب الوحدة الموالي لطهران أيضاًً, إبراهيم الجعفري, لعل أبرزها ذاك الصادر عن سعدون الدليمي وزير الدفاع العراقي المؤقت والذي تحدث فيه عن 615 مشكلة بين العراق وسوريا بنفس عدد كيلو مترات الحدود الفاصلة بين الجارين العربيين.. وهو أيضاً صادر عن حكومة إيرانية الهوى..

هل من تغير طرأ على العلاقة المتميزة والحلف الاستراتيجي بين بلدين قد صيرتهما الظروف الإقليمية أكثر حاجة لبعضهما البعض من أي وقت مضى؟ الواقع أن خللاً دائماً ما يعتري القراءة الصحيحة لأجندة العلاقات المشتركة بين البلدين ويحيد بها عن مطالعة الصفحات الباهتة في تلك الأجندة, ربما لأن الحليفين دائماً ما كانا يساهمان في ستر هذه الصفحات أو ربما لأنها كانت من قبيل الفتنة النائمة التي حضرت واشنطن إلى المنطقة بقوة فأيقظتها.

والحاصل أن الولايات المتحدة الأمريكية هي بالفعل قد ساهمت بقدر كبير في تكدير تلك العلاقات المتميزة حين طرحت مطالبها لكلا الدولتين فارتأتا ما يلي:
· أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد من طهران: تأجيل الملف النووي برمته وعدم استخدام إيران حقها في تنضيب اليورانيوم لأسباب سلمية ـ أو هكذا تعلن طهران ـ لاسيما وأن طهران قد وقعت ـ خلافاً لـ"إسرائيل" والهند وباكستان ـ على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية, وتريد منها التخلي عن دعم "حزب الله" الذي يدار بواسطة الحرس الثوري الإيراني, وتريد منها مزيداً من العلمانية في نظام الحكم الإيراني, وتريد منها حد غلواء نشاطها الاستخباري والعسكري والسياسي في العراق بعدما طفح الكيل الإيراني ونفذ صبر واشنطن من تقلص نفوذها داخل المنظومة الحاكمة التي من المفترض أنها خاضعة لها بالأساس, إذ كانت واشنطن راغبة من طهران ملء فراغ أحدثه غياب صدام لكنه أبدت الآن انزعاجها من التمدد الإيراني الكاسح في العراق.
· وأن الولايات المتحدة الأمريكية تريد كذلك من سوريا: أن تمنع تسلل مقاتلين عرب افتراضيين من سوريا إلى العراق, تريد كذلك منع الدعم اللوجيستي الذي بات في حكم المؤكد أن سوريا تقدمه لبعض فصائل المقاومة بخاصة فيما يتناول الدعم الاستخباري وكشف الظهر الأمريكي والعراقي الموالي لها للمقاومة عن طريق تسريب معلومات هامة عن تحركهما, مطلوب على الجبهة الصهيونية فك التجميد السياسي في قضية الجولان لصالح الكيان الصهيوني بعدما جُمد الموقف عسكرياً منذ عقود ومن ثَم التفاوض مع "إسرائيل" في هذه الشأن, مطلوب إغلاق مكاتب الفصائل الفلسطينية لاسيما حماس والجهاد الإسلامي في دمشق وتصفية وجودها المقاوم سياسياً في سوريا, وأخيراً التخلي ـ كما المطلوب من إيران ـ عن حزب الله أو نزع سلاحه ودمجه في العملية السياسية المقننة في لبنان. وفوق تلك المطالب مظلة التحقيق في قضية اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري.

وقد بدا للعيان من خلال قراءة سريعة للمطالب الأمريكية لكلا البلدين أن بساط التوافق الإيراني/السوري قد انكمش إلى أهداف مشتركة ظلت تحكم العلاقة بين البلدين منذ فترة طويلة, وهي الإبقاء على نظام نصيري (علوي) في دمشق, والدعم المشترك لحزب الله ومنظمة أمل في لبنان, ومقاومة المشروع الأمريكي في جانبه السياسي على الأقل.. وهذه الأهداف المشتركة حتى في حدها الأدنى باتت محل خلاف في كيفية التعاطي معها, ما يرشح معه بالتدريج مياه باردة في العلاقات توشك أن تستحيل جبل جليد يذهب بدفء العلاقة العميق.
فمثلاً, ليس ثمة ما نستطيع بموجبه الجزم هل تعمدت واشنطن دق إسفين بين البلدين أم أن تعاطيها مع الملفين العراقي واللبناني قد أسهم دونما قصد أمريكي في ذلك, غير أنه من الثابت الآن أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تهدد سوريا في كل غدوة وروحة بسبب ما تقول عن تسلل مقاتلين عرب عبر الأراضي السورية, تغض الطرف دوماً عن متسللين بعشرات الآلاف ـ إن لم يكونوا بمئات الآلاف ـ من إيران بما يحكم القبضة الإيرانية على البلد العربي السابق (العراق), وينجز عملياً تحضير الدويلة الشيعية في الجنوب العراقي بامتدادها الملالي الإيراني.

وكما تبدو الأهداف المشتركة غائمة المعالم في تلك اللحظة, تبدو في المقابل أماكن التصدع واضحة في بنى هذه العلاقة التي تربط بين البلدين, فالهجوم السياسي العراقي اليوم على سوريا هو هجوم فارسي مترجم باللغة العربية, والهجوم العسكري الذي شنته قوى الاحتلال الأمريكية في تلعفر (قريبة من الحدود السورية/العراقية/التركية) والقائم (أبرز نقاط الالتقاء الحدودي بين العراق وسوريا) بمساندة عراقية موالية لا تخطئ العين السورية فيها رؤية الرايات الفارسية وصور "آيات الله العظمى", وليس سراً أن عشائر شمر والجبور وطي والبو دولة والبومتيوت والجميش العراقية ممتدة داخل العمق السوري حيث حدود سايكس بيكو لا تطفئ الغضب العشائري من حمم الجو والبر الأمريكية والفارسية تسّاقط على الأهل في الجانب الآخر من الحدود؛ فهذا الهجوم الفارسي لابد وأن رجع صداه العشائري يلامس مسامع بشار الأسد وإدارة نظامه.
ولا يبدو الغضب من الجانب السوري فحسب بل نستطيع سماع زفيره أيضاً في طهران التي تجد في المشروع القومي العربي السوري حجر عثرة في طريق امتدادها الذي تراه طبيعياً من طهران وحتى بيروت, وإذا كان الجنوب العراقي قد بات يتحدث بالفارسية كلغة أولى "رسمية" أو يكاد يكون؛ فإن إيران لم تعد مستريحة إلى عروبة الحركة الشيعية في لبنان على الأقل في لغتها أو في حركة أمل على وجه التحديد, فضلاً عن مسلمة لا تحتاج إلى بيان, وهي تعاكس المشروعين القوميين العربي والفارسي في العراق وتبني كلا الحليفين موقفاً مغايراً لحليفه فيه..

إلا أن النقطة الأبرز في النقاط التي قد تؤذن بانهدام هذا الحلف هو مدى تماسك دمشق إزاء الضغوط الغربية ـ الأمريكية خصوصاً ـ عليها, والذي يضع نظام بشار الأسد على محك الحظوة بدعم لا محدود من طهران التي تحتاجه هي الأخرى في الحقيقة ـ كما تقدم ـ أكثر من أي وقت مضى؛ فإيران لابد وأنها تدرس الآن خيارات بشار الأسد ومدى تجاوبه مع الإملاءات الأمريكية, حيث الحلف السوري/الإيراني هو أغلى حقيقة لدى إيران من نظام بشار الأسد, وثمة ما يمكن تفهمه في رغبة إيران في أن يظل النظام السوري نصيرياً من دون أن يعني ذلك قبولها لتراجع سوريا عن التزاماتها نحو حزب الله ونحو نظام صدام (الذي كان أهم أسباب تحالف البلدين) الذي بدأ من خلال بعض فصائل المقاومة البعثية يطل من جديد مدعوماً من سوريا..

بعبارة أخرى, تظل إيران حريصة على وجود نظام نصيري في دمشق لكنها غير مأخوذة بضرورة الإبقاء على نظام الأسد ذاته الذي يمكن أن يهدد مصالح الحلف للخطر, وإذا كان نظام الأسد استجاب لبعض الضغوط فأسلم قياد لبنان لغيره, وانسحب من لبنان وبطريقه للتخلي عن حزب الله, ويعوق المشروع الإيراني في العراق, فإن الرغبة الإيرانية قد تسير باتجاه تقوية عناصر أخرى في النظام السوري موالية لها على حساب الأسد, وهو ما بدا غير بعيد عن الرؤية الأمريكية ذاتها التي ركزت بدورها بشكل معاكس على "رجالات إيران في سوريا" وفي مقدمهم ماهر الأسد وآصف شوكت في طلب إطاحتهم, ومن ثَم يبدو الرئيس السوري بشار الأسد بين مطرقة أمريكا وسندان إيران؛ فإذا ما استجاب لطموحات إيران قيضت أمريكا سلطته, وإن انصاع أمام الضغوط الغربية طوقته إيران..