أنت هنا

إعصار كاترينا: هل تستحق أمريكا المساعدة الإنسانية؟!
8 شعبان 1426


التعاطف مع ضحايا الكوارث " الطبيعية" سمة مركوزة في النفس الإنسانية، لا تتغير بتغير العصور ولا تتبدل بتبدل الأحوال. ويكون التعاطف أشد عندما تمس الكارثة الشعوب، ويكون أشد وأشد عندما تكون هذه الشعوب فقيرة وضعيفة. فهذا، إذن، أمر طبيعي وعادي جدا.
وعندما تحل الكوارث لا يلتفت الناس إلى إيديولوجية أو هوية أو ثقافة " الضحية"؛ سواء كانت هذه الضحية دولة أم شعبا. وكأن الكارثة أو الشدة توجد ـ بمنطقها الداخلي الخاص ـ أرضية مشتركة للتعاون بين المختلفين، عكس " العافية" التي تبعد الشقة بينهم؛ فأثناء الكارثة يترك بنو البشر " العقل" جانبا ويحكمون بدله " العاطفة" الإنسانية و" الإحساس" الإنساني. وهي عناصر يستحيل فهمها في إطار العقل الديكارتي الصارم؛ إنها تستعصي على الكم والإحاطة والتفسير المادي.

وجرت العادة أيضا، بين الدول، أن تنسى الخلافات السياسية والانتماءات الإيديولوجية في حمأة الكوارث الساحقة والزلازل المدمرة والفيضانات الماحقة، وأن تعرض دول مساعداتها على دول تكون في مصاف خصومها، وأعدائها أيضا؛ محاولة الظهور بمظهر من يتعالى على الخلافات السياسية والإيديولوجية في سبيل قضية إنسانية أعمق من تلكم الخلافات؛ بل قد يصل الأمر إلى عرض " إنساني" تتقدم به دول فقيرة لمساعدة دول تنتمي لشريط الرفاه الغارقة في الثراء!
أمام هذا السلوك، الذي يبدو في ظاهره سلوكا إنسانيا بريئا ومتساميا، يطفو إلى السطح التساؤل عن الأسباب الحقيقية التي تقف خلفه. هل سببه عائد إلى ذلك الجوهر الإنساني المشترك الذي يتعالى عن الاختلافات والخلافات؟ أم هو من قبيل النفاق السياسي وسياسة النفاق؟ أم هي المصالح المشتركة البعيدة؟ أم ماذا؟ أم أن تلك الأموال والمساعدات ملك للدول الغنية تسترجعه من الدول الفقيرة أثناء الأزمات؟ أم أن هذا السلوك " الإنساني" تفسره كل هذه العوامل مجتمعة؟!

اعتقادنا الأولي أن السلوك الذي يطلق عليه عنوان: " المساعدة الإنسانية"، قد يفسره عامل من تلك العوامل أو أكثر من عامل، لكن من الصعب جدا أن يفسر بكل هذه العومل مجتمعة.
إن قيامة الشكوك تكون قائمة عندما يلجأ البعض إلى تفسير هذا السلوك في بعده الإنساني فقط؛ لأنه من المؤكد أنه قلما يكون الاحتكام إلى الجوهر الإنساني سببا راجحا لتفسير " خلق" المساعدات " الإنسانية" عندما يتعلق الأمر بالدول. فالأخلاق لا تحكم العلاقات الدولية في طبعتها الحالية.
طبعا قد يكون هذا صحيحا عندما يتعلق الأمر بالشعوب التي لم تفسد السياسة فطرتها الإنسانية السوية، لكن الدول إنما يهمها بالأساس مصالحها الاستراتيجية؛ خاصة إذا كانت هذه الدول من تلك التي تتحكم في مصير العالم ومصائر شعوب الأرض.

أنظروا مثلا، إلى الولايات المتحدة التي عرضت، بل وقدمت في فترة مضت مساعدات إنسانية لإيران، ولغيرها من الدول، رغم عدائها الصارخ لها. لكن أنظروا أيضا كم قتلت أمريكا من أطفال العراق عندما أحكمت الحصار عليهم لسنوات عديدة! وهل السلوك الإنساني يتجزأ؟!
حسنا. لما قدم إعصار كاترينا وحل " ضيفا" على الولايات المتحدة وأحدث كارثة حقيقية، هبت دول لعرض مساعداتها على أمريكا؛ ومنها دول معدمة، تعيش شعوبها فقرا مدقعا.. كبنغلادش على سبيل المثال، ومنها دول غنية " نخبها" فقيرة " رعيتها".

وهذا أمر قد يبدو ـ لأول وهلةـ أنه تعاطف إنساني محض، لكن الواقع والحقيقة غير ذلك. فلو كان كذلك لكانت شعوب الدول المانحة أولى بتلك الهبات المالية. ثم لو كانت أمريكا " تجوز" في حقها " الزكاة" الدولية لاستخرجنا أكثر من مبرر لهذه المساعدات. وهذا أمر ينسحب، أيضا، على تلك الدول العربية الغنية التي جعلت كرمها يغمر أقوى دولة في العالم، حتى أخجل لطفها الزائد وجه أمريكا الأبيض لا الأسود! بل قد يكون من تلك الدول العربية من ترمي اليمين على أمريكا أن تقبل كرمها! وهي التي تكون مع شعوبها أبخل من كلب في فمه عظمة، ولم تترك لها إلا السراب الذي هو توق الظامئين إلى الماء، وكأن شعوبها تعيش في بحابيح العيش وتتمتع بأنواع اللذائذ، وهي التي تتوق في لظوة حرمانها إلى ما تسد به رمقها( لا داعي لذكر الأرقام الخيالية التي تبرعت بها بعض الدول العربية).
قرأت في الأيام الأخيرة مقالا مركزا للكاتب الأرجنتيني Alejandro Teitelbaum (موقع:www. Redvoltaire.net، 04 سبتمبر 2005) تناول فيه خمسة أسباب تدعو، في نظره، إلى عدم مساعدة أمريكا. حيث يرى أنه في الوقت الذي تخصص فيه الولايات المتحدة كل مواردها لتمويل حربها غير الشرعية في العراق( دون موافقة الأمم المتحدة)، فإن المساعدات الإنسانية لمواطنيها، ضحايا الإعصار، ستقل أو ينبغي أن تقل.
صحيح أنه لا يجب التعامل مع الكوارث بمنطق الحسابات السياسية الضيقة، لكن أعتقد أن الأمر جد مختلف عندما يتعلق بدولة كالولايات المتحدة. وأدعو القارئ الكريم لتأمل هذه الأسباب الخمسة التي جعلت الكاتب لا يعتقد في أي جدوائية لمساعدة تقدم للدولة القوية.

الأول: يشير الكاتب في البداية إلى أن الولايات المتحدة لها من الموارد المادية والبشرية الضرورية لمواجهة الكارثة. فالولايات المتحدة، على سبيل المثال، كانت قادرة، في وقت قصير، على نقل 500.000 من الجنود، وكل المعدات اللوجستيكية المتطورة، أثناء حرب الخليج الأولى. وشركة Halliburton المرتبطة ب" شيني" نائب الرئيس، أقامت في وقت قصير منشآت وتجهيزات عملاقة للجنود في منطقتي الخليج وكوسوفو. ويصل الكاتب إلى نتيجة تقول: إذا كانت هذه الموارد ليست جاهزة حالا بكمية وكافية، فلأن جزء منها تم تخصيصه لحرب واحتلال العراق.

الثاني: يلفت الكاتب انتباهنا إلى أن الإهمال الذي طال الضحايا، فقراء وسود في غالبيتهم العظمى، ليس سببه النقص في الموارد إنما راجع إلى النقص المطلق في الإحساس الإنساني لفريق بوش، الذي لا يفكر في أي شيء سوى في الحروب العدوانية وفي الصفقات الجيدة للشركات الكبرى.

الثالث: يعتقد الكاتب أنه من أجل تمويل مساعدة الضحايا وإعادة بناء ما دمره إعصار كاترينا، يكفي هذا بجزء صغير من الأرباح الكبيرة التي حققتها الشركات الأمريكية، المرتبطة بإدارة بوش، في حرب العراق، وبفرض ضريبة استثنائية على الشركات الأمريكية. ومن تلك الشركات التي ذكرها الكاتب: عائلةWalton المالكة ل Wal- Hart، و Bill Gates ( Microsoft)، الذين يجمعون في حوزتهم 125 ألف مليون دولار.

الرابع: بصراحة واضحة يرى الكاتب أنه ليس هناك ما يدعو لمساعدة الولايات المتحدة التي تنهب بمختلف الطرق( المالية، الاقتصادية،... إلخ)، منذ عقود من السنين، باقي البشرية. إنه من غير المعقول أن تقدم دول فقيرة، ضحايا النهب الأمريكي، مساعدة لأمريكا. وإنه لمما أثار صدمة الكاتب، بشكل خاص، أن تعرض كوبا مساعدة على أمريكا، وهي ـ أي كوباـ عانت من الحصار الاقتصادي الذي ضربته عليها الولايات المتحدة منذ نصف قرن تقريبا. والعرض الكوبي يشمل، ضد كل منطق، 24 طن من الأدوية التي يجب الا تغادر كوبا بسبب الحصار الى بلد أين يوجد مقرـ تقريباـ كل الشركات الصيدلية الكبرى المتعددة الجنسيات في العالم.

الخامس: أي مساعدة تقدم للولايات المتحدة هي مساهمة غير مباشرة في احتلال العراق: إذا كانت الدول الأخرى تقدم مساعدات للولايات المتحدة فإنها لن تكون مجبرة على مغادرة العراق.
قد يتفق المرء كما قد يختلف مع مؤلف كتاب: " دور الشركات المتعددة الجنسية في العالم المعاصر" في خماسيته، لكن مما لا يجب الخلاف حوله هو أن دولة كالولايات المتحدة مدعوة لتغيير سياستها تجاه العالم، وأن تسخر مواردها في تنمية أجزاء كبيرة من أراضيها التي أثبت الإعصار الأخير مدى المأساة الحقيقية التي تعيشها.
و" حرام" أن يفهم من هذا الكلام الوقوف ضد القيادة الأمريكية للعالم وللإنسانية، إنما الاحتجاج يكون على الطريقة التي " تنظم" و" تسير" و" تدير" بها أمريكا شؤون العالم. وإن كل مساعدة لأمريكا في ما يحل بها من كوارث ومآسي قد يكون لها انعكاس مزدوج: أولا، سيجعل أمريكا تتمادى في غيها السياسي والعسكري والأمني، وسيشجعها أكثر إلى أن تخصص ميزانيتها لنهب العالم والسيطرة على النفط ومواجهة الصين وكوريا الشمالية والهند... وهذا ليس من مصلحة العالم والبشرية؛ فمسار العالم الحالي وصالح البشرية يقتضيان تراجعا أمريكياـ وليس انهياراـ وبروز عالم متعدد الأقطاب، أو ثنائي القطبية على الأقل. ثانيا، حرمان الشعوب الفقيرة من الاستفادة من تلك الأموال الطائلة والخيالية التي تقدم الآن للولايات المتحدة، رغم أنها تملك أقوى اقتصاد في العالم.

من جهة أخرى، نعتقد أنه آن الأوان كي ينتفض الشعب الأمريكي التي سحقته الإدارة الأمريكية الحالية، خاصة السود والفقراء الذين اجتاحهم إعصار كاترينا، وأن يتسلم مشعل الزعامة كي يعيد الابتسامة للشعوب المقهورة بعد عبوس.
فرغم الأصوات التي تنادي بتغيير السياسة الأمريكية إلا أن هذا الأمر لم ينسرب بعد إلى شعور الإدارة الأمريكية. ورغم الشعارات البراقة التي تنادي بها الإدارة الأمريكية من إصلاح وديمقراطية وتنمية وحقوق إنسان، فإن مصداقيتها تتراجع يوما بعد يوم، لما تبين للعالم كذب تلك الشعارات التي تخفي داخلها رغبة في الهيمنة وسحق الشعوب الضعيفة، حتى لو كان هذا الشعب من صلبها، كشعب لوزيانا... إن هذه المصداقية تهتز أكثر بسلوك الإغضاء عن إسرائيل التي استشاطت - ولا تزال- عدوانيتها وتضرت وحشيتها. وربما فات أمريكا إدراكها أن الشعوب العظيمة، كيفما كانت شاكلتها الثقافية وتوجهها العقدي واتجاهها اللسني وانتماؤها العرقي، ليست فراشات يجتذبها ضوء قنديل. مادامت شعارات أمريكا ضوء قنديل فيها سلق ومغالطة وتضليل. معذرة ربما هي أقل من ضوء قنديل!!