المقاومة أخلاق (1/2)
16 رجب 1426

لا يمكن للمسلمين أن يسيروا خطوةً واحدةً باتجاه تحقيق أهدافهم إلا بشروطٍ بديهيةٍ عليهم أن يعملوا بها، ويسيروا إليها، ويضحوا كثيراً لبلوغها، لذلك نقول بإيجاز :
لا بدّ أن يحقق بناء المسلمين شرطين أساسيين :
الشرط الأول : قوّة لبنات البناء ومتانتها.
الشرط الثاني : قوّة الروابط التي تربط بين هذه اللبنات.
أي أنّ قوة اللبنات، تساوي خمسين بالمئة من شروط صنع القوّة الحقيقية للبناء القويّ، فيما تساوي قوّة الروابط والعلاقات بين اللبنات .. الخمسين بالمئة الباقية من تلك الشروط، فلنتأمّل !
إنّ قوّة اللبنات لا تتحقق إلا بالتربية العملية الجهادية الصحيحة، فيما قوّة الروابط بينها، لا تتحقق إلا بالتنظيم المحكم، فضلاً التربية الجهادية الحقة، وغني عن الذكر أن كل ذلك لا يتحقق إلا بالتخطيط العلميّ السليم المواكب لروح العصر !
قوّة اللبنات وقوّة الروابط بينها تجعل البناء قوياً محكماً منيعاً، كما قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضُهُ بعضاً" (متفق عليه)، وأي خللٍ في أي لبنةٍ أو رابطةٍ بين لبنتين، ستوهن البناء في الموضع الذي تشغله تلك اللبنة أو الرابطة، وكلما اشتدّ الخلل واتسع .. وهن البناء وتداعى، إلى أن ينهار كله دفعةً واحدة، أو يتماسك إلى حدٍ ما بالترقيع، فيكون بحكم البناء المنهار المتداعي، لكنه ينتصب خادعاً مَن ينظر إليه، وفي هذه الحالة هو أخطر على الأمة من البناء المنهار، الذي يستدعي إعادة بنائه من قبل الحريصين المخلصين، في الوقت المناسب !
الإنسان المسلم هو اللبنة في بناء المسلمين .. وبناؤه بناءً جيداً صحياً سليماً .. سيؤدي إلى قطع نصف الشوط لقيام بناءٍ قويٍ متكامل، وعماد بناء الإنسان المسلم هو (الأخلاق) .. فحُسن الخُلُق وَرُقيّه، هو الأساس الذي يؤدي إلى لبنةٍ سليمةٍ قويةٍ متينة .. كما أنه يشكّل الأساس لتحقيق الشرط الثاني من شروط البناء القويّ المتماسك المتراصّ، الذي هو : (قوّة الروابط بين اللبنات)، أي : تحقيق قوّة العلاقات والروابط بين الإنسان المسلم وأخيه المسلم الآخر !
لذلك لا بد لنا أن نذكّر ببعض معالم حُسن الخُلُق، الذي يجب أن يتحلّى به كل فردٍ منا، ليكون عند حسن ظنّ أقرانه به، وعند حسن ظن أمّته به كذلك !
لكن قبل أن ندخل في قضية الخُلُق الحسن أو الأخلاق الحسنة الكريمة، سنكمل رسم لوحتنا هذه، للتأمل والتفكّر، فنقول :
إننا حين نستطيع التغلّب على معضلاتٍ ثلاث .. فإنه يمكننا أن نحل المشكلة التي يعاني منها المسلمون بإسلامهم في العالَم، ويمكننا أن نمتلك المفاتيح الضرورية، لتحقيق النصر والتمكين في أية ساحةٍ يَدفع فيها المجاهدون أذى المشركين والأعداء، وكذلك لتحقيق هدف الإسلام في الأرض، وهو : تحقيق العبودية لله _عز وجل_ وحده، وإقامة منهجه العادل الصالح، وتحقيق سلطانه القويم :
المعضلة الأولى: كيف نبني الإنسان المسلم بشكلٍ صحيّ، لنجعل منه مسلماً فعالاً مجاهداً إيجابياً صحيحاً مُعافى، مع إخوانه أو أقرانه.. بشكلٍ مستمرٍ دؤوبٍ صحيحٍ منظّم ؟!
المعضلة الثانية: كيف نربطه بأخيه أو قرينه، لنشكّل منهما صفاً مجاهداً متماسكاً متعاوناً متشاوراً نشطاً متكاملاً متراصّاً منظّماً ؟!
المعضلة الثالثة: كيف نحرّك هذا الصف في البيئة البعيدة عن الإسلام، وفق خططٍ علميةٍ مدروسةٍ مُحكَمة، واضحة الأهداف والوسائل، تقود الصفَ كله إلى تحقيق الانتصارات اليومية والنجاحات المستمرة، من غير أن يقع في حبائل عدوّه أو ضحية استفزازاته، إلى أن يصل إلى هدفه النهائيّ البعيد، ويستحقه من الله العزيز الجبار الذي لا ناصر سواه : وهو النصر والتمكين ؟!
"وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ" (الحج:78)
وعماد ذلك كله -كما أسلفنا- هو : الخُلُق الراقي الحسن، الملتزم التزاماً تاماً بأخلاق الإسلام!..
حُسْنُ الخُلُق
يقول _سبحانه وتعالى_ في محكم التنـزيل :
"وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ،وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" (فصّلت:34و35).
لنتأمّل في الآيتين السابقتين جيداً، ولنستمتع بعظمتهما وعظمة كلمات الله _عز وجل_ .. فما يُستنتج من قول الله العظيم هو :
1- أمرٌ بالصبر عند الغضب، وبالعفو عند الإساءة (كما يقول ابن عباس _رضي الله عنه_).
2- أحسِن إلى مَن أساء إليك.
3- خالِف نفسك، إن أمَرَتْك بما يتعارض مع حُسن الخلق الذي يجب أن تكون عليه.
مَن يمكن أن يقوم بذلك ؟!
إنهم بلا شك: المتّقون، الذين يتمتّعون بأعلى درجات حُسن الخُلُق .. إنهم المحسِنون كذلك، الذين يعملون بموجب الآية الكريمة :
"... وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ" (آل عمران: من الآية 134)
إنهم الذين يتخلّقون بالإحسان، ويعفون عن الناس الذين يستحقون العفو والمغفرة !..
يقول أنس _رضي الله عنه_ : "كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أحسنَ الناس خُلُقاً" (متفق عليه).
بعد هذا .. هل يمكن لنا أن نُعرّف (الخُلُق) ؟!
الخُلُقُ هو :
(الطبع أو السجيّة، ومجموعة المعاني والصفات المستقرّة في النفس الإنسانية، التي تَصدر عنها الأقوال والأفعال والأعمال).
فبقدر ما يمتلك الإنسان من الطبع الراقي والسجايا العالية والصفات الحميدة .. بقدر ما يقترب من درجات حُسن الخُلُق الجيدة في أقواله وأعماله وأفعاله، وكلما كثرت أقواله وأعماله وأفعاله التي تعبّر عن حُسن الخُلُق.. كلما كان مؤهّلاً ليكون لبنةً صالحةً متينةً في بناء المسلمين، فيتقوّى البناء به، ويتمتّن، ويحقق خطوةً إضافيةً باتجاه الهدف السامي العظيم ! وهذه الحقيقة تبيّن لنا بوضوح، كم هي ثقيلة هذه الأمانة التي يحملها كل منا من أجل إنجاح مشروعات أمّته، وتحقيق أهدافها العظيمة، ودعم صمودها وصمود مجاهديها ومقاوميها، بوجه العدوان والشرّ متعدّد الاتجاهات، سواء أكان هذا الشر عدواناً خارجياً سافراً، أم ظلماً وقمعاً داخلياً آثماً، يُرتَكب من قِبَلِ الحكام وأنظمة الحكم الجائرة .. فلنتأمّل .. نعم فلنتأمّل !..
سنناقش في هذه الحلقة أولى الفقرات الثلاث، ثم نكمل النقاش في الحلقة الثانية _إن شاء الله_ :
أولاً: حُسن الخُلُق .. لماذا؟!
1- لأنه يمثّل الشق العمليّ لفكرنا الإسلاميّ ولعقيدتنا الإسلامية :
فأنت عندما تكون مؤمناً حقاً، ولديك الفكر الإيمانيّ الإسلاميّ الصحيح .. فلا بد أن يكون خُلُقكَ حسناً في علاقاتك العملية مع الناس، وإلا فابحث عن الخلل في نفسك، لتقويمه .. ونوضّح ذلك بالمثال التالي :
يقول إبراهيم _عليه السلام_ - كما جاء في محكم التنـزيل- :
"رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (الممتحنة:5)
أي : لا تجعل فعلي يخالف قولي .. فأكون فتنةً للكافرين .. فيُعرِضوا عن الإيمان بك .. فأكون أنا السبب في ذلك؛ لأنني لا ألتزم (عملياً) بما أبشّر به (نظرياً) !
لذا، فلنجاح دعوة الدعاة إلى الله .. ينبغي أن يكونوا على وعيٍ تامٍ بهذه الحقيقة، فأنت قد تمضي السنين الطويلة لدعوة الناس إلى الإسلام وإلى الالتزام به، لكنّ موقفاً واحداً عملياً من قبلك غير لائق، قد يأتي على كل ما بنيته .. وعلى العكس تماماً، قد يكون لموقفٍ واحدٍ أو سلوكٍ واحد عمليٍ حميدٍ دالٍّ على مطابقة عملك لقولك .. قد يكون له أثره العظيم في بناء صرحٍ ضخمٍ قد لا تتوقّعه، وفي زمنٍ قياسيّ !
2- لأنه لا نجاة يوم الحساب إلا بالخُلُق الحسن :
فأنت عندما تقوم بالعبادات المعروفة من صلاةٍ وصيامٍ وغيره .. فإنما تقوم بها لنفسك ولتمتين علاقتك مع ربك .. لكن الخُلُق، يتعدى تأثيره إلى الآخرين من الناس، وحق هؤلاء عليك، وحقّ دعوتك عليك أيضاً.. أن تعاملهم بالخُلُق الحسن :
(قيل لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ : فلانةٌ تقوم الليلَ وتصوم النهارَ وتؤذي جيرانها، قال : "دَعوها، إنها من أهل النار") (متفق عليه).
3- لأنّ غايات الإسلام وأهداف المسلم شريفة سامية، فلا بد أن تكون وسائل الوصول إليها ساميةً شريفة :
فلا يجوز مطلقاً، بل لا يمكن .. أن يصل المسلم إلى هدفه السامي .. بوسيلةٍ خسيسةٍ أو وضيعة، وعماد ذلك كله .. هو حُسنُ الخُلُق !
4- لأنّ الله _عز وجل_ أمرنا بِحُسن الخُلُق، وكذلك رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أمرنا بذلك:
"لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (البقرة:177).
أي أنّ التوسّع بأعمال الخير والالتزام بأخلاق الإسلام .. هو الأساس والأصل، فلا معنى لإقامة الشعائر والعبادات، من غير تلكم الأمور العملية !..
"إنّ من خِياركم .. أحسنَكم أخلاقاً" (متفق عليه).
"ما من شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسن الخُلُق، وإنّ اللهَ يُبغِضُ الفاحشَ البذيّ".. والبذيّ : هو رديء الكلام .. (الترمذي).
"أكملُ المؤمنين إيماناً .. أحسنُهُم خُلُقاً" (الترمذي).
وفي هذا يقول عبد الله بن المبارك _رحمه الله_ في شرح حُسن الخُلُق :
[ هو طلاقةُ الوجه (أي: أن يبقى وجهك مع الناس متهلّلاً بسّاماً)، وبَذْلُ المعروف، وكَفُّ الأذى (قولاً وفعلاً) ].