أنت هنا

أفغانستان وخطوة على طريق العراق
20 جمادى الثانية 1426

حرب أم مناوشات؟ حركة مسلحة أم فلول؟ مساحة حربية واسعة أم محدودة؟ هذه أبرز الأسئلة التي تعتمل في عقول المتابعين لما يجري في بلاد الأفغان، وهي لا شك مؤثرة لفهم هذه العمليات التي تخوضها قوى المقاومة الأفغانية للاحتلال المتعدد الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وثمة ما هو آكد منها بالأساس إذا ما طرحنا أسئلة ناسخة أو تالية أخرى: هل تمثل القوات الأمريكية في أفغانستان أكبر من حامية عسكرية؟ ماذا لو عدمت الولايات المتحدة قواتها الجوية في أفغانستان أو حُيدت طائراتها، أستقوى على البقاء أكثر من أيام في أفغانستان؟ من "العبقري" الذي يخطط للولايات المتحدة استراتيجيتها الاحتلالية بما يجعلها تفتح ملفاً دون أن تطوي سابقه؟! وأي شعبية تتمتع بها الحركة الإسلامية الباشتونية؟ لماذا خاضت الولايات المتحدة الحرب وأي من الأهداف قد تحقق لها؟...


 


الأسئلة الهامة في أفغانستان لا تنتهي، وقد نحظى بإجابات لها أو لا، وتلكم الأخيرة تسدي لنا الأحداث القادمة معروفاً في الإجابة عليها من دون حاجة إلى هذه الصفحات.. أفغانستان بلد لم يذق طعم الراحة منذ عقود، عشق الحروب وعشقته، مضى القدر أن يكون منطقة جذب للامبراطوريات المتعاقبة والطامعة دوماً فيما تحويه جيوب الأغنياء، وهي بعد فقيرة، ضنت جيوش بريطانيا العظمى والاتحاد السوفيتي الأقوى والولايات المتحدة القطب الأوحد أن تجد سبيلها إلى الأمن والاستقرار من دون أن يحشر ثلاثتهم أنوفهم فيه. والأخيرة (أمريكا) سرها أن تتراجع أمامها قوات حركة طالبان القهقرى قبل أقل من أربع سنوات، وذاك انتصار من دون شك لكن معياره الحقيقي في مدى ما تمكنت الدولة المنتصرة من تحقيقه سواء في أجندتها المعلنة أو تلك السرية، وفي الأجندة المعلنة كانت الأهداف تجملها في إطاحة نظام طالبان الذي اتهمته بإيواء زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن ومن ثم إلقاء القبض عليه، وتشكيل حكومة ديمقراطية تحل محل طالبان تتمتع بغالبية شعبية وتنفتح على كل القوى والفعاليات السياسية الممثلة لحالة قبلية وإثنية لها طبيعتها الخاصة في أفغانستان، وفي الأجندة السرية اتخاذ موقع تقدمي بالقرب من بحر قزوين الغزير الاحتياط من النفط، وإنشاء قواعد عسكرية على تخوم روسيا والصين، والبدء بوضع طرف الكماشة الأول قبل أن تعقبه بالثاني في العراق لتطويق إيران، وتأمين خط الأنابيب من بحر قزوين حتى أوروبا الغربية، ومنع "عدوى طالبان" من أن تنتشر إلى الجوار الأسيوي للجمهوريات الإسلامية التي عادت إلى الخريطة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لاسيما بعد التواصل الذي تم بين طالبان وحركات التحرر الإسلامية ف آسيا الوسطى وكشمير أيضاً، وأخيراً تأمين زراعة الأفيون من جديد بعد أن انحدر إنتاجها إبان حكم طالبان. والولايات المتحدة وإن نجحت في إطاحة طالبان فهي لم تتمكن من تفكيكها والحؤول دون عودتها كحركة مقاومة شرسة من جديد، ولئن نجحت في إقامة بعض القواعد في خارج أفغانستان وفي داخلها أيضاً فهي لم تستطع تجاوز مرحلتها الحالية الانكماشية داخل القواعد فرقاً من الهجمات الصاروخية المتعددة على القواعد والكمائن المضروبة دوماً على طرقها، وإذا كانت قد أمنت زراعة وتجارة الأفيون فهي لم تؤمن خط النفط، ومهما أوهمت العالم بإقامتها لنظام ديمقراطي في أفغانستان فهي لن تخدع الأفغان بهذا النظام الذي قام على حكم الأقلية وقطاع الطرق ومرتزقة الحروب واستبعد بشكل لافت الأغلبية الباشتونية والقوى الإصلاحية وفشل في تحقيق أبجديات الأمن في البلاد. وباقتراب أكثر لأفغانستان تحت حكم الأمريكان بعد أربعة أعوام من احتلالها، تبدو هي على هذا النحو: حكومة ضعيفة مفككة، ليس كل ولائها للولايات المتحدة؛ فمعظم القوى الفاعلة فيها أكثر ارتباطاً بروسيا وإيران منهم بالولايات المتحدة، وهم يعتبرون الأخيرة حالة مؤقتة لا تشعل حماستهم بالارتماء في أحضانها، فوزير الدفاع الأفغاني على سبيل المثال هو ربيب الاستخبارات الروسية ولديه امتداده الجهوي المتمثل بالجمعية الإسلامية التي كان يتزعم جناحها العسكري الراحل أحمد شاه مسعود، ولهذه الجمعية تواصلاً أكبر مع روسيا والهند وإيران يفوق تواصلها مع أمريكا، وإسماعيل خان حاكم هيرات الغربية فشديد الارتباط بإيران وكذا وزير الزراعة الأفغاني الممثل لحزب الوحدة الشيعي الموالي لإيران، أما حكام الجنوب والشرق الأفغانيين فمن تحت كراسيهم تمور الثورة الباشتونية على الأوضاع المهمشة لهم، والكثير من مواطنيهم مرتبطون إما بحركة طالبان أو الحزب الإسلامي الذي يتزعمه قلب الدين حكمتيار الذي دخل ضمن تحالفها المقاوم. وهؤلاء وإن شكلوا بضعة عشرات من آلاف العسكريين بمن فيهم الأمريكيون، فإن السواد الأعظم بات حانقاً على حكم حامد قرضاي الموالي لأمريكا لاسيما بعد أن أخفق في توفير الأمن للأفغان؛ فمعلوم أنه في معظم الطرق السريعة بين القرى والمدن الأفغانية لا يستطيع أحد أن يخرج بعد صلاة العصر خوفاً من قطاع الطرق الذين ينتمون في معظم الأحيان لفصائل الحكومة الأفغانية الائتلافية!! وإذن فإجمالاً في أفغانستان ثلاث فئات عسكرية: الولايات المتحدة وأذنابها من الحلفاء ومجموعة قرضاي المحدودة، مجموعة روسيا وإيران المتمثلة في وزارة الدفاع الأفغانية وحاكم هيرات وغيرها، وحركة طالبان والحزب الإسلامي المناوئين للاحتلال والمجموعة الثانية. وبالعودة إلى الأسئلة الأولى؛ فإن صحيفة واشنطن بوست الأمريكية القريبة من دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة ذكرت في افتتاحيتها يوم 7 يوليو الحالي بأن "الولايات المتحدة الأمريكية تخوض حربين في العراق وأفغانستان في آن معا" واصفة المعارك التي تدور رحاها هناك بأنها "يومية وبعضها تقوم به عناصر جيدة التدريب والتسليح" وهو ما يعني أن المستور أكبر من الظاهر في الحرب الأفغانية الحالية. ولاشك أن ذلك يدعونا لأن نصدق ما قاله المتحدث باسم حركة طالبان مفتي لطيف الله عن أن مقاتلي الحركة قتلوا أكثر من 1200 من قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة المتمركزة في أفغانستان خلال 228 هجوما دمروا خلالها أيضا 243 سيارة عسكرية بينها 46 دبابة وعربة مصفحة شنوها العام الماضي 2004. فالـ 228 هجوماً آنفو الذكر هم بالتأكيد يتوافقون عدداً مع الافتتاحية المشار إليها، وعدد السيارات أيضاً كذلك هو متناسب مع عداد تلك الهجمات، ويبقى معه أن ننتقل إلى نقطة تالية وهي هل هذه الحرب الذي يعترف بها الطرفان الآن هي كفيلة بحلحلة الأمور باتجاه تحرير أفغانستان من الاحتلال؟ في الحقيقة، ليس من شأن هذه الحرب أن تحرر أفغانستان على المدى القريب من الاحتلال الأمريكي، لكن هل هذا هو المطلوب منها في هذه المرحلة؟ كما تقدم؛ فإن معيار النجاح والانتصار هو بمدى اقتراب النتائج المترتبة على الفعل العسكري مع الأهداف التي من أجلها قام هذا الفعل. وبالتأكيد هناك قدر كبير من النجاح قد تحقق من خلال الفعل العسكري المقاوم للاحتلال في أفغانستان، فحركة طالبان قد نجحت في الاحتفاظ بتماسكها أمام كل محاولات شقها، وهي نجحت كذلك في إعادة بناء هياكلها العسكرية والسياسية والإعلامية التي كانت فقدت جزءاً كبيراً منها بعد الحرب، وهي استطاعت تطوير هجماتها والانتقال من مرحلة إلى أخرى بهدف العمل على إحداث قدر عال من التوازن العسكري بينها وبين الخصم بل والتفوق عليه مؤخراً، ومن أبرز ما يمكن اعتباره في هذا التفوق هو المتجسد في توقف القدرة العسكرية الأمريكية عند حد معين وتنامي القدرة العسكرية نوعاً ما لدى خصومها من طالبان والمتعاطفين معها. ولست أعنى بطبيعة الحال أن طالبان تتقدم تكنولوجيا على الولايات المتحدة فهذا أمر مثير للضحك فضلاً عن إثارته للدهشة، وإنما ما أعنيه هو أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تخوض حرباً ضروساً في العراق وطبقت كل فنونها العسكرية في أفغانستان والعراق على حد سواء هي غير قادرة في المدى المنظور على إحداث نقلة وطفرة في أدائها العسكري عما قبل، وبعبارة أسهل: ما الذي بقى في جعبة الأمريكان ليفعلونه في أفغانستان كما العراق؟! فمع كل هجوم شرس يتوقع المقاومون قصفاً بطائرات بي 52 على سبيل المثال، وهم قد ألفوها وأدركوا سبل اتقائها ولم يعودوا منبهرين بمفخرة التكنولوجيا الأمريكية الحربية، لكن من جانب آخر ثمة من يتحدث الآن من طالبان ومن غيرها عن تطوير صواريخ يمكنها اصطياد طائرات أمريكا الحوامة كما سبق وشهدنا قبل أسابيع قليلة إسقاط طائرة شينوك الأمريكية العملاقة وهما ما رشح من البيانات الأمريكية الحربية فقط ناهيك عما تحجبه تلك البيانات. وهذا من شأنه أن يعزز الحديث عن تطوير الطالبان قدرتهم الصاروخية، وهو ما لا يستبعد تماماً اتساقاً مع قدرة المقاومة العراقية على إحداث ذلك واحتمال تأثر الأولى بالأخيرة. وإذا كانت المقاومة العراقية شقيقة أختها الفلسطينية، فإن الأفغانية هي رأس المثلث المقاوم إذن، فلا يمكن إهمال الآصرة القوية التي تربط بين القضيتين اللتين تقاوم نفس المحتل في العراق وأفغانستان، ولا يمكن إهمال وجود فريق من العرب يقاتل في أفغانستان كما العراق لا فرق وله رغبته الشديدة في كسر أنف الاحتلال الأمريكي، وإذا كانت حركة أفواج النهضة الأحوازية الشيعية في إيران قد أعلنت أنها تنسق عسكرياً مع المقاومة العراقية فما المانع أن يجري التنسيق على قدم وساق بين المقاومتين العراقية والأفغانية؟! وثمة ما قد يعزز ذلك من التشابه العسكري بين المقاومتين من حيث تطوير الصواريخ واستهداف القواعد العسكرية بها، والعمليات الفدائية، وعلميات الاختطاف، وقتل المسؤولين المهمين في البلدين، وتصوير العمليات وعرضها للإعلام. هناك أيضاً التآخي في المحنة؛ فكلا المقاومتان تستندان إلى شعبية عريضة تذكيهما عملية تهميش متعمدة للأغلبية إن هي السنية في الحالة العراقية أو الباشتونية في الحالة الأفغانية، وللغرابة أيضاً؛ فكلتاهما تنطلقان من مثلث تتركز فيه معظم ـ لا كل ـ عملياتهم؟، فالمثلث السني في العراق بحسب تسمية الإعلام الغربي هو صنو المثلث الأسود (ولايات قندهار ـ أروزغان ـ زابل) في أفغانستان بحسب الإعلام عينه. وكلا المقاومتين تضغطان بقوة على المحتل وتمنعانه من التفرد بإحداهما عن الأخرى، وتلك من رعونة الإستراتيجية الأمريكية التي فتحت ملفاً دون أن تغلق الآخر، ومعهما نلحظ التشابه بينهما لكننا نلحظ أيضاً تفوقاً عسكرياً هائلاً للعراقية على نظيرتها الأفغانية في مقابل عوامل قوة مُنحت لطالبان مكنتها أن تكون في موقع أفضل من العراقية من الناحية السياسية، هذه العوامل تتمثل في أن حركة طالبان قد مارست السلطة بالفعل ولها خبرة في ذلك لا يستهان بها مع الشعب الأفغاني، وهي تنطلق من شرعية مقاومة الاحتلال من جهة ومن أخرى من شرعية توفير الأمن للمواطنين الأفغان في عهدها والذي أخفقت القوة العظمى وأذنابها في توفيرها لهم، وتنطلق من قيمها الأخلاقية التي جعلتها المقاوم الأول للمخدرات في البلاد التي لم تتحل القوة المحتلة بهذه القيمة على الأقل، وأهم من ذلك كله تمايزها وظهورها بغطاء سياسي وقادة أسماؤهم معروفة لبني وطنهم (لا تتمتع المقاومة العراقية بذلك حتى الآن) لا يجعلها في موضع التشويه الذي يناله غيرها. وهذه السالفة يمكنها أن تضمن للمقاومة الأفغانية صعوداً في عملياتها، وأهم منه تنامياً في شعبيتها، وتهديداً كبيراً للولايات المتحدة المثقلة بعدة أعباء أبرزها معجزة القرن الحالي هذه المسماة "المقاومة العراقية".