حكم الملك دينه
19 جمادى الثانية 1426

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، لا زالت الوقفات متصلة مع آيات سورة يوسف، نستلهم منها المعاني، ونأخذ منه الدروس والعبر، وأقف اليوم مع قول الحق _سبحانه وتعالى_: "كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ" والذي يظهر أن دين الملك هو أن يؤخذ المسروق فيرجع إلى صاحبه، ويعاقب السارق، ولو أخذ يوسف _عليه السلام_ بسياسة الملك وشريعته لما تم له المراد، الذي هو أخذ بنيامين وضمه إليه، فلحكمة يعلمها الله، ولعلم يوسف بشريعة يعقوب _عليه السلام_، أرجع الأمر إليهم "قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ"، فقالوا: إن السارق عندنا يؤخذ هو ويدفع إلى المسروق منه، "قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ"، ولهذا قال الله _تعالى_: "مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ".

وفي هذه الآية لفتة مهمة جداً قال: "مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ"، والمقصود بدين الملك في حكم الملك، فسمى الحكم ديناً.
وعندما تكلم يوسف مع السجناء، فقال لهم: "إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ"، وصف عبادة الله وحده؛ والتي منها تحكيم أمره فيما شجر، بقوله معقباً: "ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ"، فسمى الحكم ديناً.

وهذا يوصلنا إلى حقيقة واضحة وهي أن تحكيم شريعة الله _جل وعلا_ دين، كما أن الصلاة دين، بل كما أن التوحيد والأمر بعبادة الله وحده دين، فتحكيم شريعة الله دين، وانظر إلى هذا الاقتران "إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ".

إن الذين يريدون أن يفصلوا ويفرقوا بين تحكيم شريعة الله _جل وعلا_، وبين العبادات ويقولون: هذا شيء وذاك شيء، فدع ما لله لله وما لقيصر لقيصر قد جانبوا الصواب فإن قيصر وماله لله والحكم يجب أن يكون لله "إن الحكم إلاّ لله أمر ألا تعبدوا إلاّ إياه".

وكما جاءت النصوص بأن تارك الصلاة يكفر، فقد جاء قول الله _تعالى_: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ"، "فلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً".

وأما قوله _تعالى_: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ"، وفي الآية الأخرى: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ"، فلا تعارض بينه وبين ما قد سبق فالمشرك ظالم والكافر ظالم، "يا بني إن الشرك لظلم عظيم"، وكذلك المشرك فاسق، والكافر كفراً أكبراً فاسق فسوقاً أكبراً "ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلاّ الفاسقون".

ولعله يحسن التنبيه هنا إلى أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً أكبراً وفسقاً مخرجاً من الملة وظلم عظيم، وقد يكون دون ذلك، وليس المراد هنا تحرير ذلك، وإنما الإشارة إلى أن تحكيم شريعة الله دين فمن لم يحكم بشريعة الله فقد عارض الدين، كما أن من لم يحقق إخلاص العبادة له _سبحانه وتعالى_ وحده قد عارض الدين، وكما أن من ترك صلاة أو صلوات أو الصلاة كلها فقد عارض الدين.

وهذا كلام فيه شيء من الإجمال تفصيله في مظانه ومواقعه وما كتبه العلماء، وفيما يتعلق بتحكيم شريعة الله _جل وعلا_ فمن أفضل ما اطلعت عليه من الرسائل المختصرة في موضوع تحكيم الشريعة، رسالة للشيخ الإمام/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ – رحمه الله – (مفتي الديار السعودية سابقاً)، له رسالة طبعت باسم (الرسالة الذهبية في تحكيم القوانين الوضعية) وهي صفحات مختصرة مفيدة بيَّن فيها متى يكون الحكم بغير ما أنزل الله كفراً، ومتى لا يكون كفراً وهذه المسألة ضل فيها ناس بين إفراط وتفريط، فهناك المرجئة الذين ضيّعوا هذا الحكم العظيم، حتى زعموا أن التشريع وتبديل حكم الدين بالقانون الأثيم ليس كفراً.

وهناك الخوارج الذين أنزلوا قول الله _تعالى_: "إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ"، على من لم يغير حكم الله أصلاً، بل لم يخالفه، ولهذا حجهم ابن عباس _رضي الله عنه_ في تكفيرهم بمسألة التحكيم بأن ذلك من حكم الله وقد كان في مثل قوله _تعالى_: "فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها". ولم يتعن إثبات أن الحكم بغير ما أنزل الله أقسام، فعلي _رضي الله تعالى_ عنه لم يقع في كفر أصغر ولا أكبر وحاشاه.

والناس اليوم بين إفراط وتفريط بين مرجئة وبين خوارج وأهل الحق وسط بينهما، أسأل الله أن يرزقني وإياكم ديناً وسطاً لا ذاهباً شطوطاً، ولا هابطاً هبوطاً، والحمد لله أولاً وأخيراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان وترضى عنهم إلى يوم الدين.