الحيلة
5 جمادى الثانية 1426

الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:
يقول الله _جل وعلا_ في قصة يوسف وإخوته: "فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ" لحكمة يريدها الله _جل وعلا_ "كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ" (يوسف:76) هنا وقفات عظيمة.

واحدة منها مع هذه حيلة، والحيل على نوعين: حيل مشروعة، وهي التي يتوصل بها إلى مطلوب صحيح، بطريق لا يتضمن مخالفة شرعية، مثال ذلك أمر يوسف _عليه السلام_ بوضع أمتعة إخوته في رحالهم لعلهم يعرفونها لعلهم يرجعون، فهذه حيلة مشروعة.

وأما الحيل الممنوعة، فهي التي يتوسل بها إلى أمر منعه الشارع، ومثل هذه لا تجوز، وظاهر الحيلة المذكورة في قوله _تعالى_: "ثم استخرجها من وعاء أخيه" أنها حيلة ممنوعة؛ لأن فيها اتهام الناس بالسرقة وفيها ما ترتب على ذلك من أخذ الرجل، ولكنها أصبحت مشروعة لكونها بإذن الله فيوسف _عليه السلام_ نبي يوحى إليه، قال الله _تعالى_: "كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ".

وقد ذكر بعض أهل العلم أن قوله إنكم لسارقون تعريض بسرقته من أبيه، وذكر آخرون أن هذه الكلمة قالها المؤذن لظاهر ما بدا له، ثم إن التهمة ههنا لم يعين صاحبها والعير فيها هؤلاء الإخوة وفيها غيرهم، ولهذا قالوا لأبيهمك "وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ"، فلما عُين المتهم، وكان صاحبها قد أسر إليه يوسف بالأمر لم تضره التهمة وبذلك يكون قد توصل يوسف إلى مراده بطريق لم يظلم فيه أحد ولم يُتهم فيه إلاّ من تواطأ معه برضاه.

وأما الاغتمام الذي أصاب الإخوة لتذكرهم عهد أبيهم ووعدهم له فنستخلص منه فائدة أخرى، وهي أن المفسدة الكبرى تدفع بالمفسدة الصغرى أي أننا قد نرتكب مفسدة صغرى من أجل أن ندفع مفسدة كبرى.

ويطرد هذا الأمر حتى وإن كان الفعل محرم ابتداء لا يجوز فعله، مثال ذلك ما ذكره العلماء من أنه إذا تترس العدو ببعض المسلمين -وقتل المسلم لا يجوز ابتداء إلا بسبب- فإذا تترسوا بالمسلمين ولم يمكن أن نصل إلى العدو إلا بقتل المسلمين المتترس بهم ففي هذه الحالة يسوغ ذلك؛ لأننا لو لم نفعل ذلك فربما هجم العدو وقتل وأفسد، بل قد يقتلون المتترس بهم في النهاية، مع ضياع مصلحة تبليغ الدين التي من أجلها استشهد من المسلمين من استشهد.

وهنا في هذه القصة مفسدة لكن الله أذن بها لحكمة يعلمها _سبحانه وتعالى_، قد نعلم بعضها وقد نجهل أكثرها فقد ختمت الآية بقول الله _تعالى_: "وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ".
وهذه فائدة مهمة في قاعدة تحقيق المصالح والمفاسد وبيان الحيل الممنوعة والحيل المشروعة، والأمر فيها يحتاج إلى تفصيل فليراجعه من يريده في كتاب الإمام ابن القيم (إعلام الموقعين)، فقد أطال النفس في بيان ذلك.
أسأل الله أن يعلمني وإياكم ما ينفعنا وأن يجعله حجة لنا لا حجة علينا، والحمد لله أولاً وآخراً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.