أنت هنا

العولمة 1/2: الظاهرة والتحديات
4 جمادى الثانية 1426

ظاهرة العولمة:
تعد العولمة أهم ظاهرة تشهدها الحضارة الإنسانية والتاريخ العالمي في وقتنا الحاضر، وهي مصب لمجرى التاريخ الذي طالما سارت به سننه ليصل بنا إلى تقدم بشري في مختلف مجالات الحياة بطريقة أصبح الوجود الإنساني شديد التشابك والارتباط.

كما أن العولمة مسار من عملية أوسع ينخرط من خلالها الشعوب والدول عبر القارات والأقاليم في ترابط وعلاقات أوثق، أفرزت نمطا من العلاقات ومجموعة من القيم، وأظهرت للوجود نوعا من المؤسسات المشتركة لم تكن معهودة من قبل.

ولعل الطابع التكنولوجي والاقتصادي والإعلامي للعولمة زاد من أثرها الثقافي والاجتماعي والسياسي، فصارت الأرض كلها تقوم مبادئ السوق والتبادل التجاري والإعلامي والتكنولوجي، وانتهت بموجبه كثير من مفاهيم الاستقلال والصياغات المحلية لمفردات الحياة، وتشكل وعي بالوجود المشترك، الذي يصنعه البعض ويستهلك مفرزاته البعض الآخر.

تحديات العولمة:
إن العولمة تواجهنا بمجموعة من التحديات في مختلف المستويات، وفي مقالنا هذا نحاول أن نتناول أهم ثلاثة مستويات تواجهنا فيها تحديات كبرى في عصر العولمة، هذه المستويات هي: المستوى المعرفي والمستوى الأخلاقي والمستوى الكوني.

1. تحدي النموذج المعرفي:
إن النسق المعرفي الغربي الذي يؤطر المعرفة ويثريها بمقولاته، والرؤية الغربية لله _عز وجل_ والكون وللكون والحياة هي التي تسيطر على توجهات أغلبية شعوب الأرض الآن، وتحاصر ثمرات هذا المنهج وعي الإنسان وفكره وسلوكه ورغباته، حتى تكاد تأسر رؤية الإنسانية للوجود، فأصبحت الحضارة الغربية "قانون العصر" المهيمن(1).

فالغرب أتلف قداسة الوجود في النفوس والضمائر والثقافة، بسبب منشأ ثقافتها التي أطلقت عليها اسم العلمية، والتي أخضعت كل شيء وكل فكرة إلى مقاييس الكم منذ عهد ديكارت. ذلك أن المادية المتمركزة، والكمية التي أشيع عنها أنها هي العلم وهي المنهج العلمي الصحيح، صارت معيارا لقيا مدى صحة أو علمية أي فكرة أو شيء في هذا الوجود.

فالتطور الهائل الذي عرفته العلوم الطبيعية والتكنولوجية وحتى الإنسانية، قائم على الفكر المادي، والفلسفة المادية التي طغت على الحضارة المعاصرة، سواء في أصولها النظرية أو في تطبيقاتها الاجتماعية والسياسية.
فصار المجال العقائدي وفق النظرة المادية الوضعية من قبيل الشأن الشخصي الذي لا يخضع لمنطق البرهان الاستدلالي العقلي، وبالتالي لا يمكن اعتباره علما، وفي هذا يقول أنجلز: "إن أي عقيدة دينية ليست سوى انعكاسة خرافية في ذهن الإنسان للقوات الخارجية التي تسيطر على حياته اليومية، وفي ذلك الانعكاس تكتسي القوات الأرضية شبح قوات لاهوتية"(2).

فالمنهج المعرفي الغربي مادي في أساسه، متمركز على المادة، وبالتالي فهي تنكر الغيب وما يتصل به من إيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وترفض الحضارة الغربية وفق منهجا العلمي أي مصدر آخر للمعرفة خارج عن نطاق الفحص الحسي المادي، الخاضع للتجربة المخبرية أو المشاهدة.

وبما أنها مادية فإنها تخضع كل شيء لقوانين المادة من تحول وتغير، ولا يوجد هناك ما يسمى ثابت مثل القيم والأخلاق، لأنها ليست أشياء يمكن تقديرها بالكم، فالصدق بما انه لا يمكن وزنه ولا قياسه بالكمية أو بالأرقام فهو - في المفهوم الغربي - شيء مفتعل وغير موجود، ولا ثمرة من ورائه.

والعلوم الإنسانية في طابعها العلماني الحديث وزخم الاكتشافات الخارقة والمكتسبات الهائلة التي أحرزت عليها أدت من حيث أبعادها الأخلاقية والروحية والإنسانية إلى متاهات عقائدية. فسلبت الإنسان من مكوناته الأساسية التي ترتفع بها فطرته البشرية، وتعتدل بها نفسيته، وتتزكى بها عقليته ويتسامى بها ضميره وروحه(3).

2. تحدي الأزمة الأخلاقية:
من أهم التحديات التي تواجهنا بها العولمة تحدي الفساد الأخلاقي الذي يكتسح العالم بفعل غياب بعد الأخلاق في الحياة المعاصرة، والقيمة الخلقية أرقى من السلوك التجاري الذي يظهر في تصرفات الكثير، وليس الغاية من ذلك نداء الضمير بقدر ما هو بروتوكولات وإتكيت وبالتعبير الغربي (Ethics)، وهناك فرق بين الخلق الذي هو ألصق بالفطرة ونداء الضمير والتزام التقوى، وبين الإثيكس بالمفهوم الغربي الذي يراعي المظهر الشكلي دون الجوهر.

لقد غدت الأخلاق بالمفهوم الغربي ذات بعد نفعي تجاري، فالرجل لا يكذب لأن سمعته تتأثر، فإذا لم تتأثر فليس في الأمر تثريب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التحلل من القيم صار موضة، وعلامة على الحضارة الغربية التي هتكت الأستار وعرّت الإنسان، وتجاوزت في إباحيتها كل وصف، وهذا الذي دفع كثيراً من الشباب إلى الاستقالة الاجتماعية من الحياة؛ إما عن طريق الانتحار بطرقه المختلفة، وإما بالانغماس في عالم الرذيلة والمخدرات والفجور، مما أصبح يهدد الأسرة بالانهيار والتفكك، ويقضي على قيم التآلف والرحمة والعطف، وكل القيم الروحية التي تفتح أمام الإنسان أبواب الأمل في الحياة الكريمة، وتخفف عنه آلام حضارة البعد الواحد.

وللأخلاق دورها الريادي في تحقيق سعادة البشرية، وفي صياغة وجهة البنيان الاجتماعي، وتزويده بالمبررات الغيبية اللازمة لحفظ التوازن بين مطالب النفس وتطلعات الروح، وبين زخم الحركية الاجتماعية.

يقول مالك بن نبي في موقع الأخلاق من البناء الاجتماعي: "إن القيمة الأخلاقية لها أهميتها في الحفاظ على البناء الاجتماعي والحضاري، إذ تحمي البنيان الاجتماعي من التفكك وتعطيه قيمة فوق أرضية، وتدفع النفَس الحضاري إلى الاستمرار في الإنجاز وتزوده بالمبررات التي هي أسمي من الكسب المادي وحياة الترف. ومن هنا ندرك سر القيمة الأخلاقية التي خص بها محمد _صلى الله عليه وسلم_ الفضائل الخلقية باعتبارها قوة جوهرية في تكوين الحضارات"(4).

3. تحدي الفساد الكوني:
إن المجتمع الغربي والعالم كله يدفع حاليا ثمن الثورة الصناعية... وملاحظة سريعة لبعض الإحصاءات تشير إلى التدهور الخطير الذي أحدثته هذه الثورة في الطاقة الإنتاجية للطبيعة، وفي ازدياد التلوث، لدرجة تهدد الجنس البشري... فالغابات مثلاً بدأت تضمحل بمعدل 16 مليون هكتار سنوياً، ويفقد العالم 24 مليار طن من تربته السطحية، وتختفي العديد من المناطق الرعوية، وانخفض مستوى المسطحات المائية نتيجة للضخ الجائر لمياه الري... وتشير تقديرات الاتحاد العالمي لصون الطبيعة أن 1283000 جنس نباتي وحيواني مهدد بالانقراض، وإلى اختفاء 30 ألف نوع سنويا"(5).

كما أن تكنولوجيا القتل الجديدة تهدد بقتل البشر وغيرهم من الكائنات الحية، وأن الأسلحة الكيميائية، والبكتيرية الفيروسية، والنووية، من أحدث تقنيات هذه التكنولوجيا القاتلة للحياة على كوكب الأرض.

لقد حقق الإنسان الذروة فيما يستطيع به أن يدمر كل الكائنات الحية على الأرض والبحار... إن قنبلتي هيروشيما وناكازاكي وما أحدثتاه من الدمار... وحادثة محطة القوى النووية في تشيرنوبيل، قد أظهرت كيف يمكن حين لا يتم التحكم، في آلية محطة القوى النووية، أن تقتل المواد النووية المتفجرة الشديدة السريعة كل إنسان بالقرب منها، وتسبب دماراً إشعاعياً بالغ الخطورة للناس والكائنات الحية التي تعيش على مسافات بعيدة، بل حتى في القارات البعيدة(6).

و"إذا نظرنا إلى مخزون الولايات المتحدة وروسيا الذي يصل إلى مئة ألف سلاح نووي، تبلغ قوة كثير منها أكبر من القنبلتين اللتين ألقيتا على اليابان آلاف المرات، فإذا انفجر حتى جزء قليل منها فليس هناك احتمال أن يبقى على قيد الحياة أي كائن من الكائنات الثديية، كما سوف تقاسي الكائنات الأخرى من أضرار مرعبة، ولن يصبح العالم قابلاً للحياة بالنسبة للجميع"(7).

__________________
(*) دكتوراه في دراسة الحضارة والفلسفة، رئيس قسم البحوث في متحف الفنون والآثار الإسلامية بماليزيا، رئيس تحرير مجلة (المقدمة).
(1) انظر مقالنا: الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية رؤية معرفية، إسلامية المعرفة، العدد الرابع، ذو القعدة 1416هـ/ أبريل 1996م، ص 211-225.
(2) نقلاً عن أحمد عروة، العلم والدين مناهج ومفاهيم،ط1،دار الفكر، دمشق، 1407هـ/1987م، ص10.
(3) نفس المرجع، ص153. بتصرف.
(4) وجهة العالم الإسلامي، ص30.
(5) منذر سليمان، "مقولة هتنغتون.. صدام للحضارات أم دعوة للتطهير الحضاري؟ "، الحوار، نيسان/ أبريل1997، ص24.
(6) سير روي كالن، عالم يفيض بسكانه، ترجمة: ليلى الجبالي، سلسلة عالم المعرفة (213)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1996م، ص ص147-149، بتصرف.
(7) المرجع نفسه، ص149.