دعوتنا والحوار والمطلوب
15 جمادى الأول 1426

كثيراً ما كان الفضيل بن عياض _رحمه الله تعالى_ يردد: "أخلصه وأصوبه"، قيل: ما أخلصه وأصوبه يا أبا علي؟ قال: "إن الله لا يقبل العمل حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة" وهذا أمر يتجاوزه كثير من الدعاة في ممارستهم العملية تحت مسميات المصلحة والعقلنة والخبرة والإتقان.. متجاوزين في ذلك أصولاً يجب أن نراعيها، ومبادئ ينبغي أن لا تغيب عنا، وهي أن المصلحة لا تبرر تجاوز السنة، والعقلنة لا تعني الخروج على النصوص، والخبرة لا تبرِّر أبداً إلغاء الآخر.

كما أن الإتقان ليس اعتماداً للمنهجية الواحدة وطريقة التفكير الواحدة وأسلوب العمل الواحد، إذ إن الإتقان في قيادة العمل الإسلامي يقتضي _أخذاً بتوجيه النبي _عليه الصلاة والسلام_: "إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه" _ النزول عند مقتضى الثلاثيات النورانية التالية: فهم للواقع عميق، ومعرفة بالحكم الشرعي واعية، وقدرة على إنزال الحكم على الواقع مبدعة.. فضلاً عن ضرورة أن يكون القائد ذا قلب كبير وفكر مستنير وقدرة على الحوار عالية.. مع تقبُّل للآخر والتزام بالشورى وعدم تمسك بالرياسة.. إضافة إلى مَلَكَة في تبليغ الدعوة واضحة؛ ومنهجية في العرض ناصعة؛ وسلاسة في التعبير صافية.. هذا مع حاجته إلى الروحانية الآسرة والعزيمة الثابتة والحركة الدائبة.. فالدعوة إلى الله _تعالى_ أبعد من الارتجال وأعمق من الخيال والأوهام، فهي فكر وعمل وحركة، وتبليغ وتعبُّد والتزام، وتلك هي رسالة الإسلام العظيم؛ رسالة الله _تعالى_ إلى العالمين.

ولذلك كان أول ما ينبغي أن يهتم به العاملون على تشييد صرح الدعوة السامق ليكون قوياً صلباً متيناً هو تعميق مفهوم الشورى وممارستها، وتشجيع الرأي الآخر وإبدائه، لتغنى الفكرة ويعمق الفهم ويسدد أكثر وأكثر القرار، فضلاً عن أهمية وضوح الهدف والغاية من كل خطوة وحركة، فوضوح الهدف يحقق رؤية واضحة ويوجه العمل وجهة صحيحة.. ماذا نريد؟ هذا ما ينبغي أن نسأل عنه أنفسنا بشكل دائم ومتكرر ومستمر.. إلى أين نريد الوصول؟ وما الفكرة التي نسعى إلى تأكيدها؟ وهل يحقق العمل الذي نقوم به والهدف الذي نعلنه ونسعى إليه المصلحة الشرعية؟

ليس كل شيخ حكيماً عاقلاً ولا كل شاب متسرعاً طائشاً، وليس أحدٌ أكبر من أن يأخذ ولا أحد أصغر من أن يعطي، والحكمة ضالة المؤمن أنَّـى وجدها كان أولى الناس بها، هذه حقيقة على المتصدرين للدعوة أن يعوها ويمارسوها، فكم يظلمون الدعوة والمجتمع عندما يصبغون العمل بصبغتهم، ويوجهون القرار برأيهم، ويقمعون الآخر بحجة احتكار الفهم والحكمة والتفكير؛ وتقدير المصلحة والترجيح بين المقاربات عملاً بفقه الموازنات!! لقد كان نبينا _صلى الله عليه وسلم_، وهو أحكم الناس وأعقلهم، مؤيداً بوحي السماء عندما كان يردد: "أشيروا عليَّ أيها الناس، أشيروا عليَّ أيها الناس"، وقد أخذ برأي الحباب بن المنذر _رضي الله عنه_ عندما أمر الجيش بالنـزول أمام الماء يوم بدر، ورأي شباب الصحابة يوم خرج لقتال العدو يوم أُحُـد، ورأي سلمان الفارسي حين حفر الخندق يوم الأحزاب، ولم يحاول بأي شكل من الأشكال أن يوجِّه الموقف أو يصادر الرأي أو يحتكر القرار..

إنه نوع من التجرد للدعوة علينا أن نمارسه، وخروج من الذاتيَّة علينا أن نعيشه، وشكل من أشكال العبادة التي لا يتقنها إلا الكبار الكبار.. ومن قال إننا نتعبد الله _سبحانه_ بالخير الذي نحققه والدين الذي ننشره والنتائج التي ننجح في الوصول إليها بين الناس فحسب؟! إن كل النصوص القرآنية تدعونا إلى العمل وتحثنا على بذل الجهد،دون التفات إلى النتائج أو حصر للأجر بما يمكن أن نصل إليه من فوائد، فنحن مأمورون بتوخي المصلحة والسعي لترسيخ الحق والخير، وبذل الجهد في اتخاذ الأصوب والأخلص من القرارت والتوجهات التي تخدم الدعوة وترسخ لقيم الدين. وهل يكون الأخلص والأصوب إلا بالخروج من الذات والتنكر لها بترسيخ الشورى والعمل بمقتضاها والنـزول عند ما تفرزه وإن خالف آراءنا وقناعاتنا وتوجهاتنا؟!!

لقد نظرت كثيراً فلم أجد تشجيعاً للحوار وتأصيلاً لمبادئه وتعميقاً لآدابه كما وجدته في القرآن الكريم الذي اعتبر أن العلاقة بالآخر هي علاقة حوار، علاقة عقل ترتقي بالإنسانية: "قال له صاحبه وهو يحاوره: أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم سوَّاك رجلاً"، فالعلاقة به كان حواراً خالصاً؛ بعيداً عن العنف والعنت والشدة، أو مصادرة الرأي وقمعه وصدِّه رغم أنه يكفر بالله ولا يعترف بوجود الخالق العظيم _سبحانه_!! بل جاء القرآن الكريم ليوجه المسلمين خلال حواراتهم مع غيرهم إلى أرقى درجات الاحترام لعقولهم وأفكارهم وآرائهم، حين أمرنا بأن نتأدب في حوارهم فنقول لهم: "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين"، ولعمري ليس بعد هذا تجرد واحترام وتأكيد على الحوار؟!!

هذه هي مفاهيم الحوار التي نقيمها تجاه الآخرين الذين نختلف معهم في أصول العقيدة ومبادئ التفكير، أما داخل الصف الإسلامي فرحم الله الإمام الأعظم أبا حنيفة الذي روي عنه قوله: "ما جادلت مسلماً إلا وأحببت أن يكون الحق معه".. ذلك أن الحوار الإسلامي الذي نشجعه وندعو إليه داخل بيوتنا ومجتمعاتنا، فضلاً عن حياتنا وحركة دعوتنا إنما هو حوار قائم على العلم لا على ردود الأفعال، باعتماد الدليل لا بالتعصب للأشخاص، وحبيب عندها إلى القلب أن ننـزل عند توجيهات العلم ومقتضيات النصوص، لأننا قوم نحترم الأشخاص ولا نقدسهم، ونخضع للنص والدليل لا للرأي والهوى.

والبركة والتوفيق بالتزام الجماعة الصادر عن شورى واحترام، إذ الحق لا يحتكره إنسان بعلمه أو تجربته وسابقته، ولا عصمة إلا لصاحب الشرع وحامل الرسالة _صلى الله عليه وسلم_، و"كلكم يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذه الروضة _صلى الله عليه وسلم_" كما قال الإمام مالك _رضي الله عنه_، فهل نعيد النظر في مسيرة دعوتنا وطرائق عملنا وإخلاص عملنا وصوابية إدارتنا لحواراتنا والتزامنا بسنة نبينا _صلى الله عليه وسلم_؟!!