المرء يكتب تاريخه
7 جمادى الأول 1426

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ربما رأى أحدنا نوعاً من النظرات التي لا يرتضيها يرمق بها من قبل الناس، وربما تساءل لماذا ينظرون إلي هذه النظرة؟
ثم يبحث عن مجيب فلا يرى أحداً فيظل متسائلاً مغتماً!
ومن العجيب أن هذا السؤال قل أن يتوجه عند من يضعه الناس موضع عناية ومحل تقدير، فلا يتأزم ولا يبحث عن جواب لسؤال مفاده: لماذا ينظرون إلي هكذا؟
وإن طرأ هذا السؤال يوماً جاء الجواب مباشرة بقول القائل:
نفس عصام سودت عصاما ...

وفي الحقيقة مثل هذا يصح جواباً على النظرتين المتباينتين الآنفتين جميعاً، على اختلافٍ في معنى التسويد! ولكن النفس تأبى أن تعترف به –وهو الحقيقة- جواباً عن النظرات الأولى فتظل في همها تتساءل وتتردد!
والسبب هو أن نسبة الخطأ إلى النفس والاعتراف بالجرم أمر عسير لايجرؤ عليه كل أحد.

والحق أن المرء يكتب تاريخه والناس –ولاسيما العقلاء الحكماء- تنظر وتقيم وفقاً لذلك التاريخ وتتعامل في الحاضر والمستقبل دون إغفال لتلك الخلفية، فمهما وجدت ما لا يرضيك من نظراتهم –وأخص العقلاء والفضلاء منهم- فراجع ماضيك وحاضرك.

لقد قص الله _تعالى_ علينا في القرآن خبر إخوة يوسف يوم منع منهم الكيل، فقال _سبحانه_: "فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (يوسف:63) مع أنهم بينوا منعهم الكيل، وأكدوا أنهم سيحفظونه، وهم صادقون في ذلك، ولكن كيف كان الجواب؟
على نفسها جنت براقش: "قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ" (يوسف:64) لن أعطيكم إياه، أمنتكم على يوسف من قبل فلم تكونوا أمناء، وقد قلتم لي في السابق سنحفظه ولما قلت لكم أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون قلتم: "لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ"، وما يدريني أن تأكيدكم هنا ليس كتأكيدكم هناك؟

إن خطأهم السابق مع أبيهم ومع أخيهم أصبح يلاحقهم مع أنهم هذه المرة صادقون، لا يبيتون أمراً لأخيهم، وإنما طلبوه من أبيهم استجابة لطلب عزيز مصر الذي هو يوسف ومع ذلك لم يستجب لهم.

ثم لما أعطوه العهود والمواثيق، ورأى ما يدل على صدقهم، وبعث معهم بنيامين، ووقع ما كان يحاذر، ومكث كبيرهم في مصر متأسفاً ينتظر الإذن عازم على مفارقة أهله وبنيه إن لم يأذن له أبيه يعقوب في العودة، ومع أن كل الناس شهود على صدقهم حتى عبر عن أهل القرية بالقرية وعن رجال القافلة بلفظ العير، وذلك مشعر بشهادة كل شيء على صدقهم.
مع هذا كله قال لهم: "قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ".

لقد تيقن كذبهم في شأن يوسف أولاً، ثم لما أعطوه موثقهم في شأن بنيامين ما وفوا وهذه الثانية، فكيف له أن يصدقهم ثالثة؟ هكذا الأمور أمام عينيه.
ولهذا قال هنا: "بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ" فذكر هذا الكلام بعينه في هذه الواقعة كما ذكره في الواقعة الأولى؛ عندما زعموا أكل الذئب ليوسف، إلا أنه قال في واقعة يوسف _عليه السلام_: "(وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلى مَا تَصِفُونَ" [يوسف: 18) وقال ههنا: "عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا" تأسفاً على كبيرهم الذي فقده وتلك شفقة الوالد.

لقد "ظنّ بهم سوءاً فصدق ظنّه في زعمهم في يوسف ـ عليه السلام ـ ولم يتحقق ما ظنّه في أمر بنيامين، أي أخطأ في ظنه بهم في قضية (بنيامين)، ومستنده في هذا الظن علمه أن ابنه لا يسرق، فعلم أن في دعوى السرقة مكيدة، فظنه صادق على الجملة لا على التفصيل، وأما تهمته أبناءه بأن يكونوا تمالؤوا على أخيهم بنيامين فهو ظن مستند إلى القياس على ما سبق من أمرهم في قضية يوسف _عليه السلام_" ومما يدل عنده على أن في الأمر شيئاً التساؤل من أين يدري الملك أن السارق يُؤخذ في السرقة، إذ ليست بشريعته؟

والشاهد في ها الموضع أن يعقوب _عليه السلام_ اجتمعت عنده قرائن متباينة وشهادات مختلفة فمال إلى ما يحكم به تاريخ الأبناء.
فهل يلام أحد إن حصل له ما ورد على الأنبياء؟
أرأيتم كيف تجر بعض التصرفات الخاطئة على صاحبها الويلات؟

فتأمل أخي الكريم وتأكد من تصرفاتك وإياك أن تتصور أن تصرفك ينتهي بانتهاء هذا التصرف، بل قد يبقى تاريخاً شاهداً عليك في حياتك يقرأ الناس به أفعالك وتصرفاتك، بل قد يكون شاهداً عليك بعد وفاتك.
فكل امرئ يكتب تاريخه، يوسف كتب تاريخه وإخوانه _عليهم السلام_ كتبوا تاريخهم، يوسف _عليه السلام_ كتب تاريخه في هذه الصفحات المشرقة الناصعة في كل هذه المراحل وإخوانه لما وقعوا في الخطأ الأول لاحقهم حتى نهاية القصة، وإلى أن جاء قوله: "لاتثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم".

فما أحوجنا إلى أن نعرف كيف نتصرف كيف أن نضع أقدامنا في المواضع الصحيحة وفي المواطن الصحيحة حتى نصل إلى بر النجاة وتحقق لنا السلامة فلا لا يدنس المرء تاريخه وسيرته بتصرف خاطئ، قد يعف الناس عنه وقد يسامحه الناس فيه، ولكن يبقى ذلك التصرف جزءاً من تاريخه يُقرأ بين مدة وأخرى، وهؤلاء قد سامحهم أخوهم، وسامحهم أبوهم _عليهما السلام، وغفر الله لهم_ لكن بقي صنيعهم تاريخاً يُقرأ إلى يوم القيامة، فلننتبه لهذه الأمور من أجل أن نحافظ على حياتنا وعلى تاريخنا وعلى سيرتنا من أن ندنسها بخطأ مقصود، أما الأخطاء غير المقصودة فلسنا معصومين، أسأل الله أن يتجاوز عنا وأن يغفر لنا وأن يرحمنا، وصلى الله وسلم على نبينا وعلى آله وصحابته ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.