المرجعية العلمية ومحددات الإطار الحركي في العمل الإسلامي

في الظروف الآنية التي تمر بها الأمة الإسلامية يرى المراقب اختلافاً بيناً بين مناهج العمل الحركي الإسلامي في مختلف الأرجاء، وقد ينحى ذلك الاختلاف بالبعض لتبني أساليب حركية مثيرة للجدل من جهة تأثيرها الإيجابي أو السلبي على العمل الإسلامي ككل، الأمر الذي يحدو بكثير من شباب الأمة في لحظات الحماس أو لحظات الضغط إلى تبني مناهج حركية تحتاج قبل تطبيقها إلى دراسة متأنية على المستوى الشرعي و العملي والخبروي.

ومن أجل توضيح محاور تلك القضية نتوقف عند عدة مفاهيم لازمة:
أولاً: تقوم المنظومة العملية الإسلامية عامة على العلم الشرعي الثابت من الكتاب والسنة الصحيحة، ويمثل العلماء في العمل الإسلامي الإطار المرجعي لتلك الخطوات العملية بشكل عام، يقول النبي _صلى الله عليه وسلم_: " العلماء ورثة الأنبياء " رواه أحمد وأبو داود والترمذي، فهم الذين ورثوا ميراث النبوة من العلم الذي تهتدي به الأمم وتستنير به طريقها وتستوضح به منهجها السوي المستقيم.

فالعلماء هم الذين يناط بهم الفهم الصحيح والتام لنصوص الشريعة من الكتاب والسنة، وهم القادرون على توصيل تلك المفاهيم إلى الناس، فمن أخذ منهم العلم فقد أخذ بحظ وافر، ومن أهمل الأخذ بالعلم ظل متخبطاً في تيهه مهما جمع من علوم الثقافات المختلفة أو ألم بخبرات عملية متكاثرة في مناحي الحياة.

ومن ثم لزم الاتجاهات الإسلامية أن تجعل لها منهجاً علمياً واضحاً بيناً متكاملاً يتربى أبناؤها من خلاله على مقدار من العلم يكفيهم في طريق دعوتهم، وأن يقوم بتعليم هذا المنهج وتدريسه والإشراف عليه أهل علم أثبات وعلماء ربانيون.
كذلك ينبغي للدعوات أن يكون لها مراجعها العلمية من أولئك العلماء الربانيين من أهل السنة والجماعة، والذين عرفتهم الأمة بعلمهم، وفضلهم، وصلاحهم، وبذلهم، وثباتهم، وحرصهم على خير أمتهم.

ثانياً: يرتبط المنهج الحركي في العمل الإسلامي بالمنهج العلمي والمرجعية العلمية ارتباطاً وثيقاً، ويعود إلى العلماء تحديد صحة الوسائل المستخدمة في الدعوة أو فسادها، وكذلك تقييم ضررها ونفعها وما يترتب عليها من مصلحة للأمة أو مفسدة (والعلماء في ذلك يحكمون على تلك الوسائل بطرق شرعية معتمدة وبعد استشارة ذوي الخبرة والفهم الواقعي وأهل الرأي والفهم في الشؤون المختلفة، ومن ثم يبنون حكمهم وفتاواهم).
ومن ثم صار الطريق الصائب في الحركة بالمنهج الشرعي هو الطريق الذي يتلقاه علماء الأمة بالقبول ويدلون على نفعه وصوابه.

وصارت الوسائل الحركية التي نقدها العلماء أو كرهوها أو بينوا خطأها أو حكموا بضررها على الأمة أو على الأفراد هي ما يجب اجتنابه أثناء التحرك بالدعوة لهذا الدين أو جلب نفع له أو دفع ضر عنه.
ومن ثم كانت قاعدة اعتبار المصالح والمفاسد في الفتاوى والأحكام الشرعية وغيرها من المسائل العملية في الشريعة قاعدة هامة للغاية في الحركة واتخاذ الوسائل الدعوية ومواقف الدفاع والمبادرة بشكل عام.

وقد قعد النبي _صلى الله عليه وسلم_ معنى هذه القاعدة بقوله لعائشة _رضي الله عنها_: " لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية لهدمت الكعبة وجعلتها على قواعد إبراهيم " رواه البخاري، فبين _صلى الله عليه وسلم_ اعتبار المفسدة التي قد تحصل من قريش والقبائل المختلفة عند هدم الكعبة رغم وجود المصلحة الكبيرة التي يمكن أن تحصل عند هدمها وجعلها على قواعد إبراهيم وجعل لها بابان.

كذلك بنهيه _صلى الله عليه وسلم_ عن قتل المنافقين رغم ما في ذلك من مصلحة كبيرة متوقعة من تميز الصف وردع الناس عن النفاق، مخافة أن يشيع بين الناس أن محمداً _صلى الله عليه وسلم_ يقتل أصحابه فيخشى الناس من الإسلام ويتهربون منه وتكون مفسدة كبيرة من الإعراض عن الدين... إلى غير ذلك من الأدلة المتكاثرة على اعتبار تلك القاعدة.

ثالثاً: ينبغي أن تحرص الحركات الإسلامية على توقير علمائها وأن تبث فيهم ضرورة الرؤية الشرعية في جميع الأعمال التي يقوم بها المسلم الصالح، وأن تحسن الظن بهم، وتطمئن إلى فتواهم وتوجيههم وحكمهم، خصوصاً إذا اتفقوا أو اتفق غالبهم على قول واحد أو على حكم واحد أو وجهة نظر واحدة، كما ينبغي ألا يتجرأ شباب حركة ما على علمائهم بتجريح أو تخطيء أو اتهام، مع اعتبار الآداب الشرعية التي ينبغي أن يعامل بها العلماء ويختلف معهم (والعلماء في ذلك يجب أن يكونوا قدوة صالحة ثابتة راسخة، وأن يبينوا للأمة ما خفي عنها، وأن يجلوا الحقائق، ويبينوا الصواب غير عابئين بمصالح شخصية وغير خائفين من تخويف الناس؛ لأن الأمة تقوم عن قولهم، وتستضيء بأقوالهم فيجب أن يكونوا أهلاً لتلك المكانة العالية).

ومن أغرب ما يراه المراقب لبعض الشباب المتحمس أنهم قد يستفيدون من عالم ما استفادة كبيرة فيجلونه ويعظمون شأنه، ويرفعون قدر فتاواه على غيرها ، ويأتمرون بأمره ويذكرون من فضائله الكثير والكثير، ثم إذا بهم يقلبون ذلك رأساً على عقب إذا قضى بغير مراداتهم أو رأى غير رؤيتهم للوسائل المختلفة، أو حكم بغير ما تهواه نفوسهم، فيصير توقيره سخرية وتصير فتاواه أضعف الفتاوى من وجهة نظرهم، محتجين في ذلك برؤياهم الخاصة أو بقول طالب علم مبتدئ، أو عالم متفرد؛ لأنه وافق ميولهم، وكأن أهل العلم ينبغي أن يتخذوا فتاواهم من رغبات الشباب من حولهم أو أن يبنوا أحكامهم من خلال هوى المحيطين بهم.

وإنما وجب أن يظل توقير أهل العلم سلوكاً ثابتاً، وأن يظل احترام أقوالهم ورؤياهم باقياً، حتى لو اختلف أهل العلم أنفسهم فيما بينهم على قصية ما، فما بالك في قضايا قد تجد فيها عشرات العلماء متفقين على رأي واحد وقول واحد.

ذكر ابن عبد البر في (جامع بيان العلم وفضله) عن أبي وائل أن ابن مسعود رأى رجلاً قد أسبل إزاره، فقال له: ارفع إزارك، فقال: وأنت يا ابن مسعود فارفع إزارك، فقال: إن بساقي حموشة، وأنا أؤم الناس، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فجعل يضرب الرجل، ويقول له: أترد على ابن مسعود؟!
وقال الشافعي _رحمه الله_: " الحر من راعى وداد لحظه أو انتمى لمكن علمه لفظة " .

فعلينا أن نعلم أبناء أمتنا هذا المعنى الهام من الوفاء والأدب مع العلماء، وأن يحفظوا لهم قدرهم، وأن يلتفوا حولهم، ويسترشدوا بعلمهم، وأن يستروا خطأهم، وأن ينصحوا لهم إذا زلوا، وأن يدعوا لهم بالثبات والتوفيق والسداد.