الخلوة خطر يجب اتقاؤه
25 رمضان 1425

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
في سياق وقفاتنا مع سورة يوسف _عليه السلام_ نقف مع كيد النساء -إن أغواهن الشيطان- وكيف يجب أن نتعامل معه، لنصون المرأة ونحفظ المجتمع، فالعزيز لما لم يحسن التعامل مع المنكر الذي اقترفته امرأته عمدت إلى تكراره على نحو آخر.

يقص القرآن الكريم علينا خبر افترائها على يوسف _عليه السلام_ بعد أرادت أن تغويه وكتب الله له العصمة؛ لأنه من المخلصين، حاولت أن تخلع عليه ثوب التهمة وتظهر بمظهر البريء المعتدى عليه، يقول _تعالى_: "وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" (يوسف:25). انظروا إلى هذا الكيد العظيم، حيث بهتته بالدعوى مفاجأة مع أنها هي التي راودته، وهي التي قالت: هيت لك، وهي التي لحقته، وهي التي قدت قميصه من دبر، ومع ذلك في لحظات سريعة وتصرف سريع وبديهة سريعة تفاجئه بهذا البهتان "مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" فما كان من يوسف _عليه السلام_ إلا أن رد بقوله: "هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي" (يوسف: من الآية26)، لكنه في الحقيقة كان أمام مشكلة؛ لأن المرأة هنا هي التي تصدق، والرجل في موقع التهمة، فكان في حرج شديد، ومع أنه رد الدعوى، ومع صدق يوسف، لكن يحتاج الأمر إلى دليل حاسم فينقذه الله _جل وعلا_ ، ويأتي الشاهد فيقول: "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا" (يوسف: من الآية26). ذكر المفسرون أقوالاً في هذا الشاهد، قيل: إنه صغير، وقيل: إنه في المهد، وقيل: رضيع، ولكن يبدو أنه ليس كذلك؛ لأن الذين قالوا: إنه في المهد بناء على أنه رأى، بينما شهادة الشاهد تدل على أنه لم ير القضية، وإنما ذكر دليلاً عقلياً يبين مَن المتهم ومَن البريء، ثم ثبت عن النبي _صلى الله عليه وسلم_ كما في صحيح مسلم أنه قال: "لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة" ولم يذكره منهم، فيدل على أن هذا الشاهد كان رجلاً كبيراً يؤخذ بقوله، وهو القول الأقوى، وبخاصة _كما قلت_ مع عدم الدليل على القول الآخر، ويبدو أن الشاهد كان مصاحباً لزوجها، أو جاء بعد ذلك ورأى المشكلة.

"وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا" (يوسف: من الآية26)، كان هذا من أعظم الفرج؛ لأننا إذا تصورنا المحنة التي كان فيها يوسف في هذه اللحظة وسرعة البهتان، ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن أو عذاب أليم؟ فجاء هذا الشاهد وأنقذ الله _جل وعلا_ يوسف من هذا البلاء. أولاً: عندما وجدا زوجها عند الباب. وثانياً: هذه الشهادة التي أنقذته من هذه المحنة العظيمة.

ومن الفوائد هنا أهمية الأخذ بالقرائن، وهذا فصل فيه الفقهاء، متى تعد القرينة مؤثرة ومتى لا تعد، وليس هذا مكان البيان هنا؛ لأننا نعيش في هذه الأجواء القرآنية، ولكنها إشارات تمر علينا أحياناً ومن أراد المزيد فعليه أن يرجع إلى كتب التفسير، وبخاصة كتب أحكام القرآن، فقد فصلوا في هذه المسألة، كيف حكم هذا الشاهد؟ أولاً نجد أنه قال: "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا". أي: أنه بعيد عن التهمة في أن يكون في صف يوسف، ففي هذه الحالة إذا شهد ليوسف من خلال القرينة التي ذكرها والدليل الذي ذكره، فشهادته صادقة، وحجته قوية دامغة. كيف فعل هذا الشاهد؟ ماذا قال هذا الشاهد؟ قال: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، نلحظ هنا أنه بدأ بالشهادة لصالح المرأة من أجل أن يبعد أي تهمة عليه، وهذا يؤكد أنه لم يكن حاضراً للواقعة، أي: لم يكن صغيراً، وبخاصة أن في القصة، أنها أغلقت الأبواب، فليس هناك أحد، فقال: إن كان قميصه قد من قبل فصدقت؛ لأنه إن كان هو الذي لحقها فالطبيعي أن يقد قميصه من قبل، أما إن كانت هي التي لحقته وهو الذي هرب منها، فيكون قطع القميص أو شق القميص من دبر، فماذا رأى العزيز رأى قميصه قد من دبر، فعلم في هذه الحالة أن المرأة قد كذبت وأن يوسف _عليه السلام_ قد صدق، "فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ" (يوسف:28). إي والله إن كيدهن عظيم.

وهنا وقفة مهمة كيف نجمع بين قوله _تعالى_: "إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ" (يوسف: من الآية28) وبين قوله _تعالى_:"إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً" (النساء: من الآية76) هنالك من قال بناء على هاتين الآيتين، أن كيد النسوة أعظم من كيد الشيطان، وهذا غير صحيح. فكيد الشيطان عندما وصفه الله _تعالى_ بأن كيد الشيطان كان ضعيفا، وصفه في سياق معين، وكيد المرأة وصف في سياق معين، والدليل أن كيد الشيطان أعظم من كيد النسوة، أن كيد المرأة هنا جزء من كيد الشيطان، فالذي جعل المرأة تفعل هذا الفعل هو من كيد الشيطان، ومن تسويل الشيطان، ومن حيل الشيطان، وهو الذي تابع مسلسل الإخراج من أوله إلى آخره، لكن هنا ملحظ مهم، وهو: أن العزيز كان يصف الكيد الذي أمامه، "إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ" (يوسف: من الآية28)، فلم يكن المقام مقام مقابلة بين كيد الشيطان وبين كيد المرأة ، فحتى نقول: إن كيد المرأة أو كيد النساء أعظم من كيد الشيطان. إنما هو الآن يصف المشهد الذي أمامه ولا شك أنه كيد عظيم، من إغلاقها الباب، ومن مراودتها ليوسف، ومن محاولتها ولحقها إياه وقدّ القميص، ثم لما قلبت الدعوى عليه، بعد كل ما فعلت، وهذا كيد عظيم ولا شك، أما هناك فالله _جل وعلا_ يبين للمؤمنين ألا يتأثروا بالشيطان وألا ينخدعوا بمحاولاته؛ لأن كيده ضعيف. "مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ" (إبراهيم: من الآية22)، كما يقول يوم القيامة، "فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ" (إبراهيم: من الآية22)، ولذلك قال النبي _صلى الله عليه وسلم_ وهو يصف كيد الشيطان: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة". فإذن ليست المقارنة بين كيد المرأة وكيد الشيطان حتى نقول: إن كيد المرأة أعظم من كيد الشيطان. الصحيح أن كيد الشيطان أعظم من كيد النساء؛ لأن هذا الكيد من المرأة هو جزء من كيد الشيطان، ومن إيحاء الشيطان، ومن تأثير الشيطان، فاستجابت له وأصبحت صدى له، هذا الذي يظهر لي من هذه الآيات، ومع ذلك أقول: إن الشيطان يكيد عن طريق الوسوسة، بينما المرأة تكيد مباشرة. هنا الفرق في المسألتين، ولذلك يكون تأثير الشيطان بالنسبة للمؤمن الصادق تأثير قليل وضعيف إذا تحصن بالأوراد، إذا تحصن بالأدعية، إذا تحصن بكل وسائل مقاومة الشيطان، فإن كيد الشيطان ضعيف، أما مخالطة النساء والخلوة مع المرأة فهنا كيد النساء عظيم.

ومن هنا أنبه إلى خطورة الخلوة بالنساء، فهناك من تساهل في ذلك وبخاصة مع بعض الأقارب أو مع الخدم والسائقين، حتى أصبح السائق في كثير من البيوت وكأنه من أهل البيت، وهذا خلل تساهل فيه أولياء الأمور وأرباب البيوت، ووقعت مصائب عدة لا تخفى على العاقل. إذا كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ لما سئل عن الحمو، (وهو: أخ الزوج أو قريب الزوج)، قال: "الحمو الموت". مع أن قريب الزوج يكون عنده من العوامل والأسباب ما يردعه ويمنعه أعظم مما لدى الرجل الغريب الأجنبي، فالخلوة بالنساء أمرها عظيم، والشيطان قد يزين للمرأة أو الرجل، أو لكليهما فيقع المحذور، وقد قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما"، أي: ما خلا بامرأة لا تحل له وليست محرماً له وليس محرماً لها، ولذلك بين النبي _صلى الله عليه وسلم_ أن الرجل لا يخلو مع المرأة إلا ومعه محرم، سداً للذريعة، وإبعاداً للتهمة.

وهنا يرد سؤال: ماذا فعل العزيز لما ثبت له أن يوسف بريء وزوجته مذنبة؟ قال: "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ" (يوسف:29). فقال له: أعرض عن هذا، لا تتكلم بهذا الموضوع من أجل ألا ينتشر ويفشو هذا السر وهذا الخطأ، ثم بين أن المرأة هي التي وقعت في الذنب، فقال لها: "وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ..." (يوسف:29)، أكد هذا، "كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ" (يوسف: من الآية29). وبهذا نرد على الذين قالوا: إن يوسف _عليه السلام هم بها هماً لا يليق به_، فالدليل على أن المرأة هي التي أخطأت، ويوسف _عليه السلام_ لم يخطئ أبداً.

و ذكر بعض المفسرين كشيخ الإسلام وغيره أن العزيز تهاون وتساهل مع امرأته، وكان ينتظر منه أن يعاقبها عقاباً شديداً، وأن يتخذ قراراً وهو عزيز مصر بأن يفصل يوسف عن زوجته، لكنه اكتفى بهذه العبارات "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ" (يوسف:29)، وهذا لا يكفي، ولذلك تكررت المأساة بصورة أخرى _كما سيأتي_، ومن هنا نقول: إنه يجب على المسلم ابتداء ألا يكون هناك مجال للريبة أو الخلوة، ولكن لو وقع شيء من ذلك ووقع أحد في الخطأ، أن نتخذ القرار الحاسم، بأن لا يعود الأمر مرة أخرى ، سواء في مثل هذه القضية أو في غيرها. لأنه كما قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين﴾ً، وهذا الذي وقع فيه عزيز مصر، وتساهل واكتفى بهذه النصيحة، "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ" أخطأ في اتخاذ القرار المناسب.

نسأل الله تعالى أن يحفظ المسلمين، وأن يرفع عنهم بلاء الخلوة والاختلاط الذي عم كثيراً من ديار الإسلام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.