حتى لا يأتي الإعصار...!
17 رمضان 1425

الحمد لله رب العالمين؛ وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً؛ وبعد:
هذا مزارع طاعن في السن وعنده جنة من عمل يده: كثيرة الزروع، وافرة الثمار، وارفة الظلال، ماؤها عذب زلال وهواؤها نسيم عليل معطر بشذى الزهر والورد، منظرها يسحر العين فلا تكاد تنصرف عنه البتة ويأسر النفس فلا تنساه أبداً.

وذات ليلة ظلماء أصاب هذه الجنة إعصار فيه نار فاحترقت، وعادت أرضاً خراباً يباباً: ماتت زروعها وتلفت ثمارها وغار ماؤها وفسد هواءها وأنتنت رائحتها وزال بهاؤها وذهبت نضرتها، فلم تعد منظراً بهيجاً يسر الناظرين . وعندها أسقط في يد صاحبها المسن وأخذ يتفكر! فإذا به أمام جهد عقود من الزمن أضناه أيام شبيبته قد ضاع واندثر ؛ ثم نظر أخرى فإذا أولاده صبية صغار لا يجلبون نفعاً ولا يدفعون ضرراً، بل هم على التحقيق همٌّ آخر، ثم نظر ثالثة إلى نفسه حيث يرزح تحت أثقال ثمانين عاماً أو أزيد، وقد ناوشته الأمراض والعلل من كل جانب وتزاحم عليه الضعف والكبر والمرض من كل حدب وصوب، ثم بلغ منه الألم والحسرة كل مبلغ؛ لأنه لا يستطيع إعادة جنته لضيق الزمان وضعف الحال وقلة المعين.

أفيتمنى أحد أن يكون كهذا الرجل؟ إني أظن أن لا، ولنستمع لقول ربنا _عز وجل_: "أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ" (البقرة:266).

روى البخاري في صحيحه في كتاب التفسير ( حديث رقم 4538 ) أن عمر _رضي الله عنه_ قال يوماً لأصحاب النبي _صلى الله عليه وسلم_: فيم ترون هذه الآية نزلت؟قالوا: الله أعلم، فغضب عمر، فقال: قولوا نعلم أو لا نعلم، فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين! قال عمر: يابن أخي قل ولا تحقر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل، قال عمر: أي عمل؟ قال ابن عباس: لعملٍ، قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله _عز وجل_ ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله، وفي روايات أخرى عند ابن جرير عن عمر: "هذا مثل ضرب للإنسان يعمل صالحاً حتى إذا كان عند آخر عمره أحوج ما يكون إلى العمل الصالح عمل عمل السوء ". وعن ابن عباس: " معناه أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل الخير حتى إذا كان حين فني عمره ختم ذلك بعمل أهل الشقاء فأفسد ذلك؟" (فتح الباري 9 / 62 طبعة الباز).

إذن فللعمل الصالح مبطلات ومحبطات تذهب به كلية أو تذهب بجزء منه؛ ومن هذه المبطلات:
أولاً: الكفر: قال _سبحانه_: "وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة: من الآية217).

ثانياً: الرياء: وهو شوب النية ولا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصاً، والإخلاص مطلب عزيز، وهو أشبه ما يكون بالميزان الدقيق الحساس .

ثالثاً:البدعة: وهي شوب العمل ؛ فمع شرط الإخلاص لا يقبل الله من العمل إلا ما كان صواباً ولا صواب إلا بإتباع النبي _صلى الله عليه وسلم_، والإخلاص والمتابعة هما تفسير بعض السلف لأحسن العمل في قوله _تعالى_: "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً" (الملك: من الآية2). ومن ضرورات قبول العمل إيقاعه دون خلل بأركانه أو تفويت متعمد لواجباته، ومما يؤسف له تساهل الناس في بعض الأعمال كمناسك الحج خاصة مع بعض الفتاوى " العصرية "، مما يذهب بتعظيم الشعيرة وينزع روحها.

رابعاً: السيئات والمعاصي، وقد وردت أحاديث تحذر من محقرات الذنوب ومن الغيبة وظلم الناس ومن انتهاك محارم الله في الخلوات؛ لأنها تذهب بالحسنات وتنقصها.

خامساً:الإتيان بمبطل للعمل من أذى وعجب وإفشاء وإدلال، ومن فعل ذلك كان كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً.

سادساً: دسائس السوء الخفية في النفس التي توقع في سوء الخاتمة كما صح في الخبر ما معناه أن الرجل يعمل بعمل أهل الجنة فيما يرى الناس وهو في كتاب الله من أهل النار.

سابعاً:الإخلاد إلى الدنيا وإتباع الهوى كما ذكر الله عن صالح بني إسرائيل وعالمهم: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ" (الأعراف: 175، 176)

فإذا كان ذلك كذلك فكيف نحافظ على أعمالنا؟
أولاً: أن نموت على الإسلام: قال _سبحانه_: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ" (آل عمران:102). قال بعض العلماء: الموت على الإسلام يكون بالمداومة على الأعمال الصالحة؛ لأن الإنسان يموت على ما كان يكثر منه ويبعث على ما مات عليه، ومن الأدلة الواضحة على ذلك حديث المحرم الذي وقصته دابته فمات محرماً بالحج، فقال النبي _صلى الله عليه وسلم_: " إنه يبعث يوم القيامة ملبياً ".

ثانياً: تعاهد إخلاص العمل لله وتفقد النية عند كل فعل أو ترك حتى لا تكون أعمالنا عادة أو مجاملة أو غير ذلك مما يذهب بأجرها خاصة في العبادات التي يمكن أن تأخذ أبعاداً أخرى تطغى على الجانب التعبدي أو تلغيه تماماً ؛ والله ربنا _سبحانه_ أعنى الشركاء عن الشرك.

ثالثاً: تحري اتباع السنة في أداء العبادة وإيقاعها على الوجه الصحيح الذي يرضي ربنا، ويكون ذلك بالتفقه فيها قبل الإقدام عليها تجنباً لغائلة البدعة وحذراً من نقصان العمل أو الإخلال به، وكم في سؤالات المستفتين عن الحج والعمرة خاصة من جهالات وبدع ماكانت لتكون مع التفقه والعلم.
والإخلاص ومتابعة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ هما ساقا الإسلام كما يقول ابن القيم _رحمه الله_ وبدونهما لا يكمل عمل العامل ولا يقبل.

رابعاً: مبادرة السيئة بالحسنة لمحوها مصداقاً لقوله _سبحانه_: "إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ" (هود: من الآية114). واتباعاً لقول النبي_ صلى الله عليه وسلم_: " واتبع السيئة الحسنة تمحها " الحديث. ويجب على الإنسان تزكية نفسه وتربيتها على العمل الصالح ومحاسبتها وتنقيتها من علائق الدنيا حتى تزكو للمؤمن نفسه ويجد لذة العبادة وأنس الطاعة وروح اليقين بالله _عز وجل_.

خامساً: الدعاء بالثبات حتى الممات، ومن الأدعية الجامعة التي كان النبي_ صلى الله عليه وسلم_ يرددها في سجوده "اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" ومنها أيضاً "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب" وغيرها كثير من الوارد في الكتاب العزيز والسنة الشريفة.

سادساً: الحيطة والحذر من مداخل الشيطان على النفس البشرية، وهذه المداخل كما ذكرها ابن القيم _رحمه الله_، هي: الكفر والبدعة والكبائر والصغائر والمباحات ثم الانشغال بالمفضول عن الفاضل، حيث يحاول عدونا -أعاذنا الله منه- أن يغوي الإنسان بواحدة منها مبتدئاً بالكفر ومنتهياً بحيلته التي يلبس فيها على كثير من الصالحين وهي الانشغال بالعمل المفضول عن العمل الفاضل، وقد يبدأ الشيطان _ نعوذ بالله منه _ بالصغرى متدرجاً حتى يقذف بصاحبه إلى هاوية الكفر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

سابعاً: صح في الحديث أن لكل عمل شرَّة أي اجتهاد فيه وإقبال عليه، ثم لكل شرَّة فترة أي فتور عن العمل وتراخٍ فيه فمن كانت فترته إلى السنة فقد هُدي أي من كان فتوره لا يرده عن الفرائض ولا يقحمه في الكبائر فقد هُدي ونجا_ بفضل الله_، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك أي من كانت فترته إلى ترك الفرائض وفعل الكبائر فقد هلك وباء بسخط الله واستحق عقابه، وليكن حاضراً في خلدنا أن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.

ومن الأمور المعينة على التغلب على الفتور حين وقوعه ما يلي:
1. فعل طاعات غير مجهدة للجسد مثل الذكر والدعاء والصدقة وإماطة الأذى عن الطريق والتبسم في وجه المسلم والتفكر بعظمة الله_ سبحانه_، وهي عبادة جليلة لا تحتاج إلى زمان أو مكان أو نظام معين ؛ وجسم الإنسان وهذا الكون الفسيح ومجرى الأحداث كل ذلك ميدان خصب للمتفكرين.
2. استشعار المعاني التعبدية لكل عمل كالدراسة والطعام والنوم والجماع والترويح عن النفس بالمشروع المباح ؛ إذ الترويح مقصود ليس لذاته، بل لإجمام النفس حتى تنشرح للعمل وتقبل عليه بلا تلكؤ أو تردد.
وللمزيد حول موضوع الفتور أنصح بالرجوع لكتاب فضيلة الشيخ د. ناصر العمر بعنوان (الفتور).

ثامناً: أن يكون للواحد منا خبيئة من عمل بينه وبين الله لا يطلع عليها أحد من الناس، فعمل السر أدعى للإخلاص، وفيه دليل على محبة الله والرغبة فيما عنده، ومن القصص المعبرة حول العمل الخفي قصة النفر الثلاثة ممن قبلنا الذين باتوا في غار ثم حبستهم صخرة عن الخروج منه فدعوا الله بصالح أعمالهم فاختاروا أعمالاً خفية ليس لها من دافع سوى رجاء ما عند الله أو خوف عقابه.

تاسعاً: اتخاذ صحبة صالحة تعين على الخير وتحجز عن الشر ويكون منهم قدوات في التأله والتعبد يقبس منها الإنسان خيراً لنفسه ؛ ومن الصحبة الحاضرة إلى صحبة سلفنا الكرام من خلال مدونات السير نعيش معهم ما يحقر واحدنا معه القليل الذي يفعله، ولله المشتكى.
عاشراً: كن واثقاً بالله لا بعملك متوكلاً عليه_ سبحانه وحده_ وناظراً إلى عملك – مهما كثر- أنه جهد المقل الذي ترجو قبوله من ذي الإحسان الدائم والنعم التي لا تحصى.

فوائد متفرقة:
· قال الحافظ ابن حجر: " وفي الحديث قوة فهم ابن عباس وقرب منزلته من عمر وتقديمه له من صغره، وتحريض العالم تلميذه على القول بحضرة من هو أسن منه إذا عرف فيه الأهلية لما فيه من تنشيطه وبسط نفسه وترغيبه في العلم ".

· تضرب الأمثال في القرآن لتقريب المعاني وتيسير الفهم والتفكر، وقد كان أحد السلف يبكي إذا لم يفهم مثلاً من أمثال القرآن؛ لأن الله يقول: "وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ" (العنكبوت:43)، وقد بين سياق الآية الحكمة من ضرب هذا المثل، وهي التفكر لأخذ العبرة والعظة التي تستلزم أعمالاً صالحة وقربات متنوعة.

· فضل العلم الذي جعل ابن عباس مقدماً عند عمر على كثير من أشياخ المهاجرين والأنصار _ رضي الله عنهم جميعاً _.

· أن كلمة " لعل " في القرآن تأتي بمعنى لأجل؛ لأن الله_ سبحانه وتعالى_ لا يرجو شيئاً.

· الجنة في القرآن هي الحديقة؛ غير أن الجنة تتميز بوجود النخيل والأعناب.

وبالجملة فينبغي للإنسان المسلم – وهو مذنب لا محالة – أ لا يجاهر بمعصيته ولا يصر عليها، ولا يوقع غيره فيها، وألا تكون معصيته من النوع الذي يبقى كمن يكتب الباطل أو يقوله أو يؤسسه أو يبقيه ؛ كما يجب عليه أن يبادر معصيته بالحسنة، وأن يكثر من الصالحات خاصة الأعمال التي ثبت عظم أجرها أو كان نفعها متعدياً أو يبقى أثرها على مر العصور ومضاء الزمان.
هذا والله _تعالى_ أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.