الترف وأثره في الدعاة والصالحين
3 جمادى الأول 1425

اسم الكتاب: الترف وأثره في الدعاة والصالحين.
المؤلف: د. محمد موسى الشريف.
الطبعة: الأولى، 1421هـ.
تصدر عن دار الأندلس الخضراء ضمن سلسلة "معالم على طريق الصحوة" برقم (31).

الترف داء عضال، ومرض مهلك إن استشرى في أمة ذهب بعزمها، وأورثها تباطؤاً وخمولاً وكسلاً ودعة، وعلقها بالحياة الدنيا وحببها إليها، والترف إن التصق بشخص ما حتى صار يوصف به كان ذلك إيذاناً بضعفه، وإعلاماً بوهنه، ودليلاً على تراخي شأنه، وعدم ضبطه أمره، وأنه أكثر لذائذ الحياة على الجد والاجتهاد، هذا هو الترف وما يجره على العامة، لكن كيف هو إن صار علامة على عدد من الصالحين وشارة لبعض الدعاة والمتصدرين؟ هنا يعظم الخطب ويستشري الفساد.
تلك بعض الكلمات التي ذكرها المؤلف – وفقه الله – في مقدمة هذه الرسالة التي يقول إنه كتبها تذكيراً للمبتدي وتبصيراً للمنتهي، وتحذيراً للسادر في شهواته الغوي، وعبرة وعظة للمقتدي المؤتسي، وقد جعلها في خمسة مباحث سنتعرض لها إجمالاً لنُعرِّف بهذه الرسالة المفيدة.
تحدث المؤلف في المبحث الأول عن معنى الترف فخلص إلى أنه يدور على التنعم وسعة العيش والتوسع في ملاذ الدنيا وشهواتها، وقد يؤدي إلى الطغيان وعدم شكر النعم، وأما عن العلاقة بين الترف والغنى، فقد بين أن الغنى ليس متعلقاً بالترف ضرورة، فالغنى قد يؤدي إلى الترف ويسوق إليه، لكن ليس ذلك حتماً فكم من غني شاكر بعيد عن الترف مترفع عنه، وقد أوضح أن العلاقة بين الترف والإسراف علاقة وثيقة مترابطة فالترف هو أول علامة على الإسراف.
المبحث الثاني ذكر فيه المؤلف بعض ما جاء عن الترف في الكتاب والسنة والآثار، ثم انتقل إلى المبحث الثالث، وبين فيه أثر الترف في ضعف الدول والشعوب قديماً وحديثاً، وقد أوضح أن للترف أثراً بالغ السوء في الدول والشعوب، بل هو معول هدم لطاقاتها وقدراتها، حيث يُغري بالإخلاد إلى الأرض، والإكثار من المباذل والشهوات والخوض في سفاسف الأمور ودناياها، والتعلق بالمناصب والجاه والمال، وقد ذكر المؤلف أمثلة لأثر الترف في الدول والشعوب القديمة فتحدث عن الرومان والفرس وعن اليونان وعن الأندلس وعن دولة بني العباس، وبيّن المؤلف مظاهر الترف وكثرتها في هذه الدول مما كان له دور كبير في سقوط هذه الدول وفنائها، ثم انتقل المؤلف إلى موضوع الترف في الدول والشعوب في العصر الحديث، فمثل على ذلك بفرنسا وحالها في الحرب العالمية الثانية، ومثل أيضاً بواقع وحال الدول العربية وما أثره الترف فيها، ثم بين المؤلف حال أهل المدن وانغماسهم في الترف وأثر ذلك عليهم.
بعد هذا كله وصل المؤلف إلى أهم المباحث في كتابه؛ لأنه المقصود في بيان أثر هذا الداء "الترف" على العاملين من الدعاة وطلبة العلم والعلماء وسائر الصالحين مبيناً أن الخطر كل الخطر أن يهاجم الترف أولئك وهم صفوة الأمة وخلاصتها ووجهها المضيء ومتعلق آمالها ومكمن قوتها، وقد بين المؤلف – وفقه الله – أن آثار الترف كثيرة متنوعة، وأنه سيذكر أبرزها وأهمها، ومن ذلك:

الأثر الأول: الغفلة عن درجات الآخرة العالية:
وهذا مرض عظيم، وذلك أن المترف لا يعود يرى إلا لذائذه وشهواته، قال ابن القيم – رحمه الله تعالى-: "قال لي شيخ الإسلام – قدس الله روحه – في شيء من المباح: هذا ينافي المراتب العالية، وإن لم يكن تركه شرطاً في النجاة، فالعارف يترك كثيراً من المباح برزخاً بين الحلال والحرام".

الأثر الثاني: التعلق بمباهج الحياة ونسيان الهدف منها:
وذلك أن المرء إن تقلب في المباهج وذاقها تعلق بها أيما تعلق وملكت عليه حياته، وللتعلق بمباهج الحياة صور، منها:

أولاً: التوسع في المآكل والمشارب:
وقد أوضح المؤلف أن من أسباب الترف التوسع في المآكل والمشارب، ثم انتقل إلى بيان أن حال عظماء الأمة خلاف ذلك فتحدث عن حال النبي - صلى الله عله وسلم - مع الطعام وصحابته - رضي الله عنهم - وعلماء الأمة؛ كالشافعي، وسفيان الثوري، وإبراهيم الحربي، وكيف أن هؤلاء العظام قد ملكوا أنفسهم وتغلبوا على شهوة تناول الطيب من الطعام والحسن من الشراب والإكثار منهما، فاستطاعوا أن يرتقوا ارتقاءً عجيباً في العلم، ويرتفعوا إلى أعظم منازله، وقد بين المؤلف محاذير أخرى في التوسع في المآكل والمشارب، منها:
- التعود على نظام الوجبات الثلاث.
- عدم القدرة على صيام التطوع أو التهاون في شأنه.
- ضعف الورع.
- تضييع بعض المواعيد أو التأخر عنها.

ثانياً: التوسع في النوم:
وهذا الأمر من أكثر ما يصد الدعاة والصالحين عن المعالي، وهناك جوانب مهمة في قضية النوم إن أُسيء فهمها أو تجاوز المرء فيها ضيعت عليه جانباً مهماً من حياته، فمن ذلك:
1- الاعتقاد بوجوب النوم ثماني ساعات لا تنقص.
وهذا منقوض باختلاف حال الأشخاص واختلاف البيئات، واختلاف الأعمار، واختلاف الأعمال، ويناقضه كذلك المشاهدة والتجربة.
2- عدم فهم قضية البركة في الأوقات.
3- عدم مغالبة النعاس الخفيف إن وجد والاستجابة لدواعيه.
4- الإكثار من جوالب النعاس.
والأمثلة على الترف وأثره في قضية النوم وتوسع الدعاة والصالحين في الأخذ به كثيرة متعددة، ومن ذلك التأخر عن المواعيد بسبب النوم، وكذلك عدم قبول المواعيد المبكرة من أجل النوم خاصة مواعيد ما بعد صلاة الفجر.
ثم ذكر المؤلف أمثلة رائعة على سهر الصالحين ومغالبتهم النوم، ومن ذلك ما كان من الفضيل بن غزوان – رحمه الله تعالى – في قوله: "كنا نجلس أنا ومغيرة – وعدَّد ناساً – نتذاكر الفقه فربما لم نقم حتى نسمع النداء بصلاة الفجر" وكذا ما كان من الإمام مالك - رحمه الله - في أنه دوام خمسين سنة يصلي الفجر بوضوء العشاء.

ثالثاً: حب التكثر من المال:
وهذا الجانب الثالث من صور التعلق بمباهج الحياة الدنيا، فعلى من ابتلي بالمال الوافر أن يحذر من أن يجره إلى الترف والتوسع في الطيبات، فإن ذلك مقعد له عن الدرجات العاليات، سالك له في سلك أهل الترف والبطالات.

رابعاً: التوسع في المركوب.
خامساً: التوسع في المسكن.
سادساً: التوسع في الملبس:

وهناك بعض الدعاة ونفر من الصالحين قد توسعوا توسعاً عظيماً في الأخذ بهذه النعم، حتى أشبهوا أهل الترف والبطر والثراء العريض، ومعاذ الله أن نقول: إن هذا التوسع حرام! ولكن ألم يقل النبي - صلى الله عليه وسلم-: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" ولعل من مظاهر التوسع في الأخذ بزينة الحياة الدنيا المغالاة في هذه الأمور الثلاثة المركوب والمسكن والملبس".

سابعاً: التوسع في النكاح:
وقد تحدث المؤلف هنا عن صور من الترف في النكاح – تراجع لمن أراد التفصيل – ونجملها بما يلي:
- مؤونة النكاح.
- طاعة الزوج في مطالبها الدنيوية والتوسع في ذلك.
- التعدد بلا حاجة.

الأثر الثالث: التباطؤ في قضاء الأمور:
الترف والانغماس فيه واعتياده والميل إليه جالب للتباطؤ في قضاء الأمور، والقعود عن إتمامها على وجهها الذي ينبغي لها؛ إذ المترف غالباً يميل إلى التسويف في الشؤون التي يراها صعبة أو ستجر عليه شيئاً من التعب والمعاناة، ويخشى من ملابستها والتعرض لها، فتراه يقضي الأمر – الذي يتم في يوم – في شهر، ويستغرق الأمر اليسير من حياته زمناً طويلاً، هذا إن فرغ منه أصلاً!! وهكذا تراه دوماً وأبداً يتخبط في شؤونه ويسوف في قضائها، فتنقضي حياته وهو لم يقدم شيئاً ذا بال، ولم يرتق في سلم المجد الدرجات التي كان ينتظر من مثله أن يرتقيها.
ولله در عمر - رضي الله عنه - حيث قال: "القوة في ألا تؤخر عمل اليوم لغد".

الأثر الرابع: الدعة والكسل:
إن من أعظم ما يجره الترف على صاحبه هو أن يعوده الدعة والكسل والإخلاد إلى الأرض، وهذا مرض عُضال وداء خطير، يقعد بصاحبه عن طلب المعالي، ويصعب عليه أموره كلها، ويجعله أقرب إلى المُقعد منه إلى الإنسان النشيط العامل، ولقد كان سلفنا - رضي الله عنهم - على غاية من النشاط والحيوية؛ وذلك لبعدهم عن الترف ومقدماته ومسبباته.
لذلك كله ذم الشارع الكسل، وعده نقصاً، ففي كتاب الله - تعالى - المجيد جاء قوله في معرض الذم للمنافقين: "وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى" (التوبة: من الآية54).
وكان - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من الكسل، فعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل".

الأثر الخامس: ضعف الجسد وخَوَر العزيمة:
وهذه قضية خطيرة؛ إذ لا يعود المترف يحتمل المشاق، ولا يصبر على اللأواء، ويصبح أشبه بالنساء منه بالرجال، فخطرات النسيم تجرح خديه، ولمس الحرير يدمي بنانه، "والمترف مريض بالنعمة، لا يستطيع أن يقابل الحياة بما هي عليه من شدة ورخاء، وسعة وقسوة، ومنافع وشرور، وظِل وحَرور، والمال وحده لا يدفع ضرراً ولا يجلب سعادة، والحياة صبر، ولم يتعوده المترف، والحياة تغلب على المصاعب والمترف لا يعرفها، فأقل شيء يصيبه يعده صدمة، ورجل الحياة لا بد أن يلابس الحياة كما هي في جميع أوضاعها، وبجميع تقلباتها".
ثم ذكر المؤلف شيئاً من قصص العلماء والصالحين في هذا الباب.

الأثر السادس: تعاطي بعض المعاصي والإصرار عليها:
إن من آثار الترف الواضحة تعاطي بعض المعاصي والإصرار عليها، وربما جرت متعاطيها إلى شيء من الكبائر - والعياذ بالله تعالى-؛ وذلك لأن المترف غالباً كثير السفر والانتقال، وقد يجره هذا إلى ما لا يحمد عقباه، ومن أوضح الأمثلة على ما كرته من تعاطي بعض الصغائر والإصرار عليها هو تكرار النظر المحرم والتلذذ به، وطلبه، والاسترواح إليه، وهذا الأمر إن تمكن من شخص ما فهو على خطر كبير، والخوف أن يجره هذا الأمر إلى شيء من الكبائر - والعياذ بالله تعالى-.

الأثر السابع: حب الحياة وكراهية الموت:
لقد عُرف المسلمون الأوائل - رضي الله عنهم - أنهم يحرصون على الموت في سبيل الله - تعالى - حِرْص أعدائهم على الحياة، فكان هذا الحرص دافعاً لهم إلى تسطير أعظم صفحات التاريخ نصاعة وعظمة وجلالاً، وصار لهم بهذا المكانة العالية بين الأمم، وأنشؤوا لهم هيبة في قلوب أعدائهم مكنتهم بها من رقابهم، ودفعت عنهم شرور المفاسد طويلاً، فلما أخلد كثير من المسلمين إلى الأرض وارتضوا الحياة الدنيا وأحبوها غلب عليهم كراهية الموت وكراهية ترك ما هم فيه من متع وترف، وهذا هو عين ما نشاهده اليوم عند أكثر المسلمين، لكن دعني من الحديث عن عامة المسلمين، ولنتحدث عن خاصتهم، فإن أخشى ما أخشاه على خاصة المسلمين أن يكونوا – بسبب ترفهم – قد تمسكوا من الدنيا بأسباب، وارتضوا ما فيها من المتع والشهوات، وأوغلوا فيها، لكن ليس برفق، وأحبوها حُبَّ من لا يستطيع فراقها، ويكره الانتقال عنها.

الأثر الثامن: ضعف في الجانب الإيماني:
والترف قد يؤدي إلى جملة من أمراض القلوب والجوارح، فإذا اجتمعت على المرء ذهبت بقوته، وأضعفت إيمانه، وربما أهلكته - والعياذ بالله-، فأصبح كآحاد الناس وعوامهم، ومثال ما يصيب القلب من أمراض بسبب الترف:
1- ضعف الخشوع أو انعدامه.
2- قلة الورع أو انعدامه.
3- ضعف التلذذ بالعبادات والطاعات واستثقالها.
4- قسوة القلب، وقلة تأثره بما يلقى عليه من المواعظ والتذكير.
5- ضعف أو انعدام عبادة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
6- حسد الآخرين على ما وهبهم الله من نعم مادية ومعنوية.
إلى آخر ما هناك من أمراض قلبية يطول الحديث عنها.
ومثال القسم الآخر؛ وهو الأمراض التي تصيب الجوارح بسبب الترف:
1- الكسل والدعة والفتور.
2- عدم الحرص على الانتظام في أداء الصلوات في جماعة، خاصة أوقات البرد الشديد أو الحر الشديد.
3- عدم استطاعة تأدية صلاة الفجر.
4- قلة الاهتمام بصلاة الليل عامة، والوتر خاصة.
5- قلة أو ندرة ختم القرآن.
6- قلة الحرص على أذكار الصباح والمساء.
7- قلة صيام التطوع.
8- عدم المبادرة إلى فعل الخيرات ذوات النفع المتعدي، مثل: الدعوة إلى الله – تعالى-، وبذل النصح، وإغاثة الملهوف، والوقوف على مشكلات الناس... إلخ.
وهي قائمة طويلة تشمل عبادات مضيَّعة، وحقوقاً مُفَرَّطاً فيها، وإخلاداً إلى الأرض، أسأل الله أن يحمينا مما هنالك، ويقينا شر تلك المهالك.

الأثر التاسع: ضعف في الجانب التربوي:
قد يورث الترف ألواناً من الضعف في التربية، والانغماس في أمور تنافي الجدية والانضباط، ومن ذلك:
1- عدم الاكتراث بالدعوة إلى الله – تعالى-، وبذل المجهود فيها، وضعف المداومة عليها.
2- قلة الاهتمام بأحوال المسلمين، والوقوف على أخبارهم ومشكلاتهم.
3- ضعف الارتباط بتكاليف العمل الدعوي.
4- ضعف القناعة بالسمت التربوي، وإبداء الضيق منه بدعوى التشدد والغلو.
5- قلة الالتفات إلى السنن النبوية، ضعف الأخذ بها وتطبيقها على النفس والأهل.
6- ضعف التمسك بالسنة في الهدي الظاهر.
7- كثرة النقد غير المبرر غالباً.
8- إثارة البلبلة في مجالات الأنشطة الإسلامية المختلفة؛ بسبب عدم قدرته على مجاراتها.
9- الجري وراء رخص العلماء وزلل الأقوال والأعمال.
10- التساهل في النظر إلى العورات في وسائل الإعلام المختلفة من مقروء ومرئي.
ثم انتقل المؤلف بعد هذا إلى المبحث الخامس، وذكر فيه أنواعاً من الترف لها تعلق بموضوع الكتاب، وهي: الترف الفكري، والترف الثقافي، والترف العلمي، ثم ختم المؤلف – وفقه الله – كتابه العظيم الفائدة في بابه باقتراحات تزيد وتكمل الاستفادة القصوى من الكتاب، ولمن أراد الاستزادة الرجوع إلى أصل الكتاب، جزى الله المؤلف خير الجزاء، ونفعنا وإياكم بما قرأنا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.