مع بدايات سورة يوسف
24 ربيع الأول 1425

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فمازال الحديث متصلاً عن سورة يوسف، ولعلنا نبدأ الوقوف مع آياتها تفصيلاً، غير أنه يحسن التأكيد على أن هذه السورة، سورة مكية، نزلت بعد سورة هود - عليه السلام - وعدد آياتها إحدى عشرة و مائة آية، وقد ذكر بعض العلماء أن هذه السورة مكية إلا آيتين منها أو ثلاث، ولكن الراجح أن جميع السورة مكية وليس فيها أي آية مدنية، وهذا يبين لنا المدة الحرجة التي نزلت فيها السورة، وبالأخص إذا علمنا أن وقت نزولها كان بين عام الحزن وبين بيعة العقبة الثانية، من تاريخ الدعوة في العهد المكي، وهذا التاريخ تحسن مراعاته لفهم هذه السورة، وملاحظة مرامي آياتها ودلالاتها، فهذه المدة في العهد المكي بين عام الحزن وبين بيعة العقبة الثانية، اشتد فيها أذى قريش، حتى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لأصحابه بالهجرة إلى الحبشة، فقد بلغة الشدة والأذى والابتلاء والتعذيب مبلغها من كفار قريش لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل لمحمد - صلى الله عليه وسلم - فنزلت هذه السورة تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولصحابته، فهي تقول لهم: إن يوسف - عليه السلام - الذي مر بمصائب عظام، وشدائد جسام، ومحن يرقق بعضها بعضاً، قد نجا منها جميعاً، وكانت عاقبته تلك العاقبة الحميدة، فاصبروا كما صبر الرسل، وثقوا بموعود الله لكم، فإنكم بعد هذا البلاء وهذا الأذى ستنتصرون - بإﺫن الله - ولذلك قال الله - تعالى - في آخرها: "حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ" (يوسف: من الآية110).
وهذا أمر معنى ينبغي أن يستحضره قارئ السورة، وبخاصة في أيامنا هذه، فإن أمتنا اليوم قد تداعى عليها الأعداء من كل حدبٍ وصوب، وتسلطت عليها الأمم كما بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبلغ الأمر مبلغه في نفوس كثير من المسلمين، وبدأ التشاؤم واليأس والقنوط، وبدأ الاستعجال، وبدأ التنازل، وكل ذلك لن يكفل حلاً ولن يجد به أصحابه مخرجاً.
والسورة تقول للمؤمنين، الصابرين الصادقين" لا تهنوا ولا تحزنوا فأنتم الأعلون - بإذن الله - يوسف - عليه السلام - مرت به هذه المحن، مرت به وبأبيه وبأهله وتجاوزها جميعاً، مرت به محن الضراء والسراء، فاستطاع أن يتجاوزها، ووصل إلى ما وصل إليه من علو وسؤدد ومجد، فلا يأس ينبغي أن يدب في النفوس، والقارئ يجد النموذج العملي والقدوة الماثلة في يعقوب - عليه السلام - إذ يقول لأبنائه يوم جاؤوا بخبر فقد ابنه الآخر: "يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف:87).
قد يقول قائل: كيف نصل إلى ما وصل إليه يوسف؟ كيف ننجو من هذا البلاء الذي نحن فيه؟ كيف نتخلص من مكايد الأعداء؟ كيف نرتفع بمستوى الأمة نحو السؤدد والعلو والمجد والخلود كما كانت في قرونها المفضلة؟ جواب ذلك كله في قوله صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً كتاب الله وسنتي"(1).
فقراءتنا لهذه السورة، ووقوفنا معها، مما يبين سبيل رفع شأن الأمة. شريطة أن نتعلمها ونعمل بها، فالقرآن ما نزل من أجل التلاوة فقط، بل نزل من أجل العمل والالتزام والتنفيذ، ولذلك كان الصحابة - رضوان الله عليهم - كما في أثر أبي عبد الرحمن السلمي لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل جميعاً.
ولذلك كان الجيل الأول خير جيل مر على وجه البسيطة جمعاء. لم يمر ولن يمر مثله أبداً؛ لأن القرآن كان خلقهم وهاديهم، وإذا أردنا العز والنصر، فلنلتزم بما التزم به أولئك، ولنستمسك بحبل الله المتين "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" (آل عمران: من الآية103)، فالقرآن نزل من أجل أن يتدبر ومن أجل أن يعمل به، أما اليوم فكثير من المسلمين، يتلون القرآن ولكنهم لا يفقهونه، وإن فقهوه فمنهم من لا يعمل به، والله يقول: "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد:24)، "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً" (النساء:82)، ويقول: "فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)" (الزخرف:43)، "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (الأنعام:153)، "قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (يوسف:108).
أيها الأحبة في قول الله - تعالى-: "لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ" (يوسف:7) أجوبة على أسئلة الأمة، حلول للمعضلات التي تمر بها، ولكن بشرط العمل والالتزام بتعاليم القرآن.

لقد بدأت السورة بسرد قصة واقعية لرؤيا رآها يوسف فقصها على أبيه - عليهما السلام - كما أن السورة اشتملت على أخبار شتى من بيت آل يعقوب، وبالأخص ليوسف - عليه السلام - وفي هذا بيان لأهمية القصة وأثرها، وقد عني القرآن بالقصص، وأولاها أهمية خاصة لما لها من أثر في العمل والدعوة والتربية والجهاد، ومن عناية القرآن بالقصص، تسمية سورة كاملة بسورة القصص. هذه السورة العظيمة التي تقع بين سورتي النمل والعنكبوت، التي قص الله - جل وعلا - علينا فيها نبأ موسى وفرعون وهامان وقارون من أولها إلى آخرها، يتجلى فيها هذا المعنى.
وفي سورة الكهف قص الله عدداً من القصص،ومن جملتها قصة موسى مع الخضر التي يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها: "وددنا أن موسى صبر حتى يقص الله علينا من أمرهما"(2) ، وما ذاك إلاّ لفوائد القصص، فالقصة أيها الأحبة مؤثرة، واستخدامها كما استخدمت في القرآن والسنة، يؤدي إلى نتائج باهرة عجيبة يصعب حصرها في هذه العجالة، ولذلك كان محمد - صلى الله عليه وسلم - وهو قدوتنا وأسوتنا يعنى بالقصة مع صحابته، يأتونه يشكون إليه أمراً من الأمور، فيعالج الأمر بقصة، عندما جاؤوا وهو في ظل الكعبة، فقالوا له: يا رسول الله ألا تدع لنا، ألا تستنصر لنا، فإذا به - صلى الله عليه وسلم - يعالج هذا الموقف بداية بذكر قصة من أخبار القرون الماضية "كان الرجل فيمن كان قبلكم يؤتى به فيوضع في الحفرة ويشق مابين لحمه وعظمه..." الحديث(3).
وكتب السنة فيها عشرات القصص، التي تعالج قضايا اجتماعية كما في خبر أم زرع وأبي زرع(4).
ولو أن الدعاة عنوا بهذا الجانب، وبالأخص إذا عني المربون بهذا الجانب عناية خاصة، فسيجدون أثراً عجيباً، على أن يلتزموا بالقصة الصحيحة، فإما أن تكون القصة قد وقعت فعلاً فيسردها كما هي، كما نقرأ في سورة يوسف، أو أن تكون من قبيل ضرب المثل والتشبيه غير المنسوب إلى معين، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم-: "كان فيمن كان قبلكم"، أو "يؤتى بالرجل"، وليس المراد حالة فرد، إنما هي أحوال متعددة.
فأوصي طلاب العلم، أوصي المربين، أوصي الدعاة، أوصي الآباء والأمهات أن يعنوا بهذا الجانب عناية خاصة، على أن يبتعدوا عن القصص التي يلجأ إليها أدعياء الأدب وليست من الأدب في شيء.

ثم لنقف مع قوله - تعالى-: "إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ" (يوسف:2) يخبر الله بأن هذا القرآن عربي واضح بين جلي، لماذا؟ لعلكم تعقلون.
وأقف هنا مع عناية الإسلام بالعقل، الذي يميز الإنسان عن غيره من الحيوانات، فالإنسان بدون عقل يفقد فضله، ويذهب تكليفه.
وقد عني القرآن عناية كبرى بالعقل، ولذلك جاءت آيات كثيرة جداً تحث على العقل، سواء بلفظ العقل أو التدبر أو التفكر، وكلها تشير إلى العقل "لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ" (الحشر:21)، "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا" (محمد:24)، "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً" (النساء:82)، "أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا" (الروم: من الآية9)، "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا" (النمل: من الآية69)، "إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا" (سـبأ: من الآية46). كل هذه الآيات وغيرها دعوة إلى استخدام العقل الذي ميز الله به الإنسان عن غيره، فإذا استخدمه الإنسان الاستخدام الصحيح هدي إلى الحق، أما إذا ركب هواه وعاطفته وألغى عقله فإنه يضل - والعياذ بالله - كما بين الله جل حال الكفار بقوله: "إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ" (الفرقان: من الآية44).
وقد سمي العقل عقلاً؛ لأنه يعقل صاحبه عن التصرفات غير المحمودة، كما أن الحكمة هي ما يلجم الدابة عن التصرف إلاّ عن طريق قائدها أو سائسها، فالحكمة والعقل متقاربان.
وما أحوج الأمة اليوم إلى العقل الذي يمنع من الاستعجال، يمنع من الإقدام على تصرفات لا تناسبه، يدل الأمة أن مكانتها عظيمة، ويرشدها إلى سبيل استثامر طاقاتها الاستثمار الأمثل.
العقل يمنع العاقل من أن يتصرف تصرفاً خاطئاً مع زوجته، وأولئك الذين يستعجلون في كثير من الأحيان، فيطلقون زوجاتهم غالباً ما يكونون في حالة غياب العقل، أو جزء من العقل بعبارة أدق.
وهنا مسألة مهمة جداً تغيب عن أذهان الكثيرين، وهي العلاقة بين العاطفة والعقل، فالعاطفة مهمة، والأمة بدون عاطفة كائن جامد لا يعرف معنى الحياة، فالعاطفة هي التي تحرك المشاعر في الإنسان، ليتفاعل مع إخوانه، بالعاطفة يرحم الأب أبناءه، بالعاطفة يتكاتف الجار مع جيرانه، بالعاطفة يكون الإنسان فعالاً في مجتمعه، ولكن الانسياق وراء العاطفة وحدها خطأ كبير جداً، بل لا بد من توافق وتنسيق بين العاطفة والعقل، فكيف يكون ذلك؟
يكون ذلك بإرجاع العاطفة إلى العقل، وإرجاع العقل إلى الشرع، فإذا تحركت العاطفة عندك فارجع إلى عقلك، وانظر حكمه، ثم بعد ذلك عليك أن ترجع العقل إلى الشرع، فيصدقه أو يكذبه، فالشرع هو الذي يحكم بين العقل القاصر، والعاطفة الجياشة إن اختلفا.
والعقل الصريح لا يناقض النقل الصحيح أبداً، فالعقل الصريح الخالي من الشوائب، من الهوى، من الرواسب، لا يتعارض أبداً مع النقل الصحيح، كما بين شيخ الإسلام - رحمه الله - فمتى دل الشرع على خلاف عقلك فثق بأن في نمط التفكير خللاً ينبغي أن يراجع.
أقف عند هذا الحد، وتتصل الوقفات مع آيات هذه السورة العظيمة في مقالات أخرى، أسأل الله أن ينفع قارئها وكاتبها بها، وصلى الله على نبينا محمد.

_________
(1) رواه الحاكم في مستدركه 1/172 برقم (319)، والبيهقي في الكبرى 10/114، والدراقطني في السنن 4/245، وغيرهم.
(2) صحيح البخاري 4/1757.
(3) صحيح البخاري 3/1322.
(4) صحيح البخاري 5/1990، ومسلم 4/1901.