مذكرات إمام-3

مازال الحديث موصولاً _ أحبتي الكرام _ بالمواقف المختلفة مع جماعة المسجد ذوي الطلبات المتباينة والرغبات التي لا تنتهي والملاحظات التي يروق بعضها، بعضها من المستحيل تطبيقه أو على أقل الأحوال يصعب، وعلى الإمام حيالها أن يتقبلها بصدر رحب وثناء مفعم بالود، ورد جميل يمتص الحماسة، ويقلل أثر عدم القبول.
ذات مرة صليت بجماعتي إحدى العشاءين فلما سلمت والتفت إلى المصلين إذا بشيخ كبير في السن أعمى (وهو والد أحد الجيران)لا يصلي معنا إلا لماماً عندما يزور ابنه يتحدث بصوت عالٍ موجهاً الحديث إلي قائلاً: يـا مطوع تعلم القراءة قبل أن تصلي بالناس، فالإمامة مسؤولية، وأمانة عظيمة، وإياك والغمغمة والغنغنة في القراءة، أفصحْ في نطق الألفاظ، وبيِّن مخارج الحروف، ثم شرع في تعليمي طريقة القراءة والناس يسمعون، ولما يتموا قراءة أول الأذكار التي تقال بعد الصلاة، فقرأ الفاتحة بطريقته التي يرى أنها أفصح وأوضح.
لقد علت وجهي ابتسامة عريضة في هذا الموقف الذي لا أحسد عليه، حيث كان الناس ينصتون لحديثه وقد سمروا أعينهم ينظرون إلي ويترقبون أن أفتح النار عليه، ووالله لم تحدثني نفسي أن أنبس في تلك اللحظة ببنت شفة؛ لأنه لا يليق بالإنسان المدافعة في ذلك الموطن، إذ المدافعة تتضمن مدح الإنسان نفسه، وهذا ما لا يحسن ويجمل، ولا أكتمكم - أيها الأحبة - أني فوجئت كثيراً بهذه التهمة التي لا أشك أني بريء منها براءة الذئب من دم يوسف، ولو عبر عن عدم إعجابه بصوتي لما أثار في نفسي قِيد أنملة من دهشة؛ لأن الناس أذواق وما يعجبك لا يعني بالضرورة أن يحوز إعجاب الآخرين، وكما يقولون: لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع، لقد فجعني هذا الشيخ في صوتي الذي كنت أتوقع أنه في حدود المقبول عند الجميع وأكثر من ذلك عند بعض المعجبين، وتبينت أنه ما ارتفع شيء من الدنيا إلا وضعه الله.
أحبتي الكرام لم تنته القصة بإطلاق الشيخ قنبلته، حيث انبرى له شيخ آخر في مثل سنه لا يصلي معنا أيضاً إلا أحياناً، فقال بصوت عالٍ لما أطال الأول في الشرح والتعليم: اسكت فهو خير منك وأحسن صوتاً ((تبي أزين من ها القراية يالله من فضلك)) أو كلمة نحوها.
عندها شعرت ببرد الانتصار، وحمدت الله أن سلط على ذلك الشيخ ممن يرد عليه ويدافع عني ويعيد الحق إلى نصابه، ولقد وجدت برد الثأر في قلبي وأنا أسمع ولا أنطق وكأن الأمر لا يعنيني وهو يعمل في قلبي ما شاء الله أن يعمل، ورأيت الابتسامه تعلو وجوه المصلين وهم يستمعون سجالاً من الكلام ذي الوزن الثقيل بين شخصين كبيرين، بعضهم يبتسم رضاً وآخرون استطرافاً للموقف واستلذاذاً بالحدث، وبعد أن أدينا الراتبة خرجت فركبت السيارة فوجدت الشيخ الأعمى يمشي ومعه ابنه فما كان مني إلا أن توقفت لأحملهما وأوصلهما للبيت، ووجدت الابن يعتذر من تصرف أبيه المشين ويطلب مني العفو، فوالده شيخ قليل الصبر أعمى، والحياء كما يقال في العينين فهو لا يعرفك ولا يقدرك حق المقدرة، فقلت له بانبساط وأدب: أنا أقدر ذلك كله ولا أجد في قلبي على والدك الشيخ شيئاً ولي رغبة أن أوصلكما فاعتذر بلطف وانصرفت.
كان يمكنني يا أحبتي الكرام أن أرد وأدافع لكن مثل هذا لا يحسن الكلام - كما أسلفت - ولو كان في أمر آخر لا علاقة له بالشخصية لكان في الأمر متسع بيد أن الأمر ضاق لما تعلق بالدفاع عن الذات، ولا يمكنني أيضاً أن أرد وأدافع؛ لأن الذي يقابلني شيخ كبير واحترام الكبار وتلقي عتابهم بالقبول منقبة بكل حال، وكان الإمام أحمد يمر به ذوو الجاه وأهل الدنيا فلا يحتفي بهم فإذا مر به شيخ من شيوخ المسلمين قام له وبالغ في الحفاوة امتثالاً لقول النبي _صلى الله عليه وسلم_: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم".
والأمر العجيب أن يقيض الله من يدفع عني من لا يعرفني حق المعرفة، وليس بيني وبينه علائق مودة أو وشائج قربى، ولعل هذا جزاء معجل لمن ترك الانتصار لنفسه أن يسخر الله له من ينصره، وقد حصل لي مع هذا الشيخ قصة أخرى أحكيها لكم باختصار: ذلكم أني كنت ألقي درساً مطولاً بعد صلاة العصر من رمضان، وفي أيام قليلة أدع الحديث خشية الملل من جهة ولئلا يظن أن الحديث بعد العصر مما وردت به السنة من جهة أخرى، ولذا كنت لا أحدد يوماً للترك كما يفعل كثير الأئمة حين يدعون الحديث عصر يوم الجمعة اكتفاء بالخطبة، ولذا يعتقد بعض العامة أن ترك الحديث عصر الجمعة مشروع وينكرون على من يفعله، وهذا من آثار التزام الترك في يوم بذاته، وقد بلغني أن سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله – ينكر هذا، ويأمر بالحديث اتقاء لهذا المحذور، فصلى معي هذا الشيخ عصراً وانتظر أن أشرع في الحديث فلم أفعل، فرفع عقيرته بالشكوى والإنكار مستفتحاً بالعبارة المشهورة عند أهل نجد (يا دافع البلاء) واندفع يعاتب بشدة على ترك الحديث أصلاً وفي رمضان خصوصاً، ويحثني على أن لا أعود إلى هذه الفعلة، ويخلط ملامته بالحوقلة والاسترجاع. حينها لذت بالصمت لعلمي بأن أفضل شيء لإطفاء المنازعة الصمت، وكل كلمة من الطرف الآخر وقود عظيم للخصومة، وكثرةٌ للغط في المسجد وإشغال للناس بما لاينبغي أن يشتغلوا به، ولست أنسى مرة أخرى أن في هذا تربية لي على ترك الانتصار للنفس وتربية لمن يسمع ممن أراد الله بهم خيراً.
وإلى لقاء قادم - بإذن الله تعالى-.

وستتبع هذه الحلقة –بإذن الله- حلقات أخرى لنفس الكاتب كل أسبوعين.
وبعد اكتمال الحلقات سيتم جمعها في ملف واحد لتعرض بصورة متكاملة -إن شاء الله- فعلى من يرغب الإضافة والإفادة من تجاربه في هذا المجال مراسلة الدكتور/ محمد بن عبدالعزيز الخضيري على بريده الاكتروني:
[email protected]
سائلين الله للجميع التوفيق والسداد.