أنت هنا

تفقد ثباتك على الطريق
20 صفر 1425

نحن في حاجة اليوم إلى فقه الثبات على دين الله _تعالى_ أكثر من أي مدة مضت، أفواج المنحدرين قد كثرت، ومزامير الشياطين قد علت، والأطباق في كثير من البيوت قد تمكنت.
ما هي أوضاع المسلمين اليوم؟ وما أنواع الفتن والمغريات التي بنارها يكتوون؟ وأصناف الشهوات والشبهات التي بسببها أضحى الدين غريباً؟ فنال المتمسكون به مثلاً عجيباً (القابض على دينه كالقابض على الجمر).
ولا شك عند كل ذي لب أن حاجةَ المسلمِ اليومَ لفقه الثبات أعظمُ من حاجة أخيه أيام السلف، والجهد المطلوب لتحقيقه أكبر من أي وقت مضى؛ وما ذاك إلا لفساد الزمان، وندرة الإخوان، وضعف المعين، وكيد الفاجر مع قلة الناصر، ولقد كثرت حوادث النكوص على الأعقاب، والانتكاسات إلى الوراء، والانحدار إلى الفساد؛ مما يَحمِل المسلمَ على الخوف من أمثال تلك المصائر، وعلى تلمس أمورٍ يتحصن بها.
ولقد عشنا سنين متطاولةً في هذه البلاد المباركة، ونحن في معزل عن كثير من الفتن، وكان يتقاطر علينا الفساد من بعض الجوانب، ولكنه انهمر اليوم، يمطر بيوتاً كثيرة بوابله المشين، حتى تغيرت بيوتٌ، وانتكست فطرٌ؛ فساء مطر المنذرين.
وألفتِ الفتنُ أمةً لم تتحصن كثيراً بالثبات وفقهه.
وألفتِ الفتنُ بعضاً من القوم لم يتركوا الفساد رغبة مجردة فيما عند الله، وإنما لأنه لم يتوافر لهم، فلما كان الخيار لهم بين طريقين واضحين متاحين، إذا هم لا يمتنعون من الانزلاق، ولا يردون يد لامس، بل يستبيحون محارم الله بأدنى الحيل.
نعم أحبتي... حُذِّرنا من هذه الفتن، وبُينَّت لنا حرمتها، ولم تزدد إلا سوءً، ومع ذلك كثير من الناس ثبتوا زمناً، ثم استباحوا محارم الله بالأهواء والحيل، فلم يكن البعض في سبيل الثبات بأقوياء، ولا في سبيل الأمانة على الأهل والذريات بأوفياء.

ومن رحمة الله _عز وجل_ بنا أن بين لنا في كتابه وعلى لسان نبيه وفي سيرته _صلى الله عليه وسلم_ وسائلَ كثيرةً للثبات، يلجأ إليه المسلم في مثل هذا الزمان، ويستعين بها حتى يلقى الرحمن، ومن أبرزها أثراً، وأكثرها نفعاً لدين المرء ما يحصل له من الأثر الجميل إذا أقبل على كتاب الله _تعالى_ فالقرآن هو وسيلة الثبات الأولى، وهو حبل الله المتين والنور المبين، من تمسك به عصمه الله، ومن اتبعه أنجاه الله، ومن دعا إليه هُدي إلى صراط مستقيم، ولقد نص الله على أن الغاية التي من أجلها أنزل هذا الكتاب منجماً مفصلاً هي التثبيت، فقال _تعالى_ في معرض الرد على شُبه الكفار : "وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً" (الفرقان:32، 33)، لقد كان القرآن مصدراً للتثبيت؛ لأنه يزرع الإيمان ويزكي النفس بالصلة بالله، ولأن تلك الآيات تتنزل برداً وسلاماً على قلب المؤمن فلا تعصف به رياح الفتنة، ويطمئن قلبه بذكر الله، ولأن القرآن يزود المسلم بالتصورات والقيم الصحيحة التي يستطيع من خلالها أن يُقوِّم الأوضاع من حوله، وكذا الموازين التي تهيئُ له الحكم على الأمور فلا يضطرب حكمه، ولا تتناقض أقوله باختلاف الأحداث والأشخاص.
ومن هنا نستطيع أن ندرك الفرق بين الذين ربطوا حياتهم بالقرآن وأقبلوا عليه تلاوة وحفظاً وتفسيراً وتدبراً، ومنه ينطلقون وإليه يفيؤون ، وبين من جعلوا كلام البشر جل همهم وشغلهم الشاغل، ويا ليت الذين يطلبون العلم يجعلون للقرآن وتفسيره نصيباً كبيراً من طلبهم، فوالله سيجدون أثره صلاحاً في أعمالهم وثباتاً في قلوبهم.

ومن وسائل الثبات على دين الله ما يحصل للمرء من التزام شرع الله، والعمل الصالح، فمن يلتزم شرع الله يثبته الله، يقول المولى _جل وعز_ في كتابه: "يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ" (إبراهيم:27)، قال قتادة : " أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح ، وفي الآخرة في القبر "، وكذا روي عن غير واحد من السلف، وقال _سبحانه_: "وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً" (النساء: من الآية66)، أي: تثبيتاً على الحق، والصراط المستقيم في وقت الفتن، وهذا بيّن ظاهر البيان، وإلا فهل نتوقع ثباتاً على الدين من الكسالى القاعدين عن صلاة الفجر، وعن الأعمال الصالحة، إن هؤلاء هم المسارعون في الفتن إذا ادلهمت، وهم حطبها إذا اتقدت، ولكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم صراطاً مستقيماُ، ولذلك كان _صلى الله عليه وسلم_ يثابر على الأعمال الصالحة ، وكان أحب العمل إليه أدومه وإن قل، وكان أصحابه إذا عملوا عملاً أثبتوه، وكانت عائشة _رضي الله عنها_ إذا عملت العمل لزمته.

ومن صفات عباد الله المؤمنين أنهم يتوجهون إلى الله بالدعاء أن يثبتهم، ويذكرون الله كثيراً وهذان الأمران (الدعاء، وذكر الله)من الوسائل العظيمة في ثبات المسلم، ولقد حكى لنا القرآن دعاء المؤمنين مغرياً بالاقتداء بهم أنهم يقولون : "رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا" (آل عمران: من الآية8) ، "رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا" (البقرة: من الآية250).
ولما كانت (قلوب بني آدم كلُّها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء) كان رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ يكثر أن يقول: "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" رواه الترمذي عن أنس وصححه الألباني.
وتأمل في هذا الاقتران بين الأمرين في قوله _عز وجل_ : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً" (الأنفال: من الآية45) فجعل ذكر الله من أعظم ما يعين على الثبات في الجهاد.
وهل ثبت يوسف _عليه السلام_ في محنته أمام امرأة ذات منصبٍ، وجمالٍ إلا بالذكر والدعاء "قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ" (يوسف: من الآية23)، وهذه استعاذة وذكر، وقال _عليه السلام_: "قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ" (يوسف:33) وهذا دعاء، قال _تعالى_: "فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" (يوسف:34)، لقد تكسرت أمواج جنود الشهوات على أسوار حصنه، وهو الذكر والدعاء، وكذا تكون فاعلية الأدعية والأذكار في تثبيت قلوب المؤمنين.

ومن أعظم وسائل الثبات، أن يتلقى المسلمُ تربية إيمانية وعلمية واعية، وهل كان مصدر ثبات صحابة النبي _صلى الله عليه وسلم_ في مكة إلا بهذه التربية الواعية؟ كيف ثبت بلال، وخباب، ومصعب، وآل ياسر، وغيرُهم من المستضعفين؟ وحتى كبارُ الصحابة في حصار الشعب وغيره؟ وهل يمكن أن يكون ثباتهم بغير تربية عميقة من مشكاة النبوة، صقلت شخصياتهم، لا شك أن هنالك تربية عميقة من لدن رسول الهدى محمد _صلى الله عليه وسلم_.

وبعض الناس يشعره الشيطان بأنه يسبح ضد التيار، وأن الناس كلَّهم هكذا، ولا بد من الاندماج في المجتمع، ومواكبة العصر، وغير ذلك من الحجج التي لا تعارض بينها وبين الثبات، ولكن الأفهام تختلف، ولهؤلاء نقول: إن الصراط المستقيم الذي تسلكه - يا أخي - ليس جديداً، ولا وليد قرنك وزمانك، وإنما هو طريق عتيق قد سار فيه من قبلِك الأنبياءُ، والصديقونُ، والعلماء، والشهداء، والصالحون، فإذا عرفت ذلك فهل تشعر بالغربة مع هؤلاء، وهل تستوحش في طريق سلكه الأنبياء، فيا أخي أزل غربتك، وبدل وحشتك، وما يضرك من فساد زمانك إذا وثقت بطريقك أنها موصله، وأنها صراط الذين أنعم الله عليهم، وهؤلاء كلهم أخوة لك في الطريق والمنهج، فقرَّ عيناً وطب نفساً، فو الله إن قلة السالكين معك اليوم يدل على اصطفائك لا على أخطائك، واللهُ كما يصطفي أنبياءه، يصطفي أولياءه، فبدل شعورك بالغربة شعوراً بالاصطفاء، قال الله _عز وجل_ : "الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى" (النمل: من الآية59)، وقال : "ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا" (فاطر: من الآية32)، ماذا يكون شعورك لو أن الله خلقك جماداً، أو دابة، أو كافراً ملحداً، أو داعياً إلى بدعة، أو فاسقاً، أو مسلماً غير معتز بإسلامه، أوغير ذلك؟ ماذا لو خلقك الله من هؤلاء، ألا تشعر بالاصطفاء إذ لم تكن منهم؟ ألا ترى أن شعورك باصطفاء الله لك يزيل عنك كثيراً من الغربة، ويزيدك ثباتاً على منهجك وطريقك؟ بلى هو كذلك.

النفس إن لم تتحرك تأسن، وإن لم تنطلق تتعفن، ومن أعظم مجالات انطلاق النفس: الدعوة إلى الله، فهي وظيفة الرسل، ومجال إبراز الطاقات، وإنجاز المهمات، والدعوة بالإضافة لما فيها من الأجر العظيم هي وسيلة من وسائل الثبات، والحماية من التراجع والتقهقر؛ لأن الذي يُهاجِم لا يحتاج للدفاع، وكلنا يستطيع ذلك وليست الدعوة مقصورة على العلماء بل هي عمل الجميع وهمهم فاحرص عليها فإنه لا أحسن منها "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً" (فصلت: من الآية33).

يقول _صلى الله عليه وسلم_: "إن من الناس ناساً مفاتيحُ للخير مغاليقُ للشر" رواه ابن ماجة، وحسنه الألباني، وهؤلاء صحبتهم والبحث عنهم من أعظم وسائل الثبات، ابحث عن العلماء، والصالحين والدعاة المؤمنين، وقد حدثت في التاريخ الإسلامي فتن ثبت الله فيها المسلمين برجال، ومن ذلك : ما قاله علي بن المديني _رحمه الله تعالى_: " أعز الله الدين بالصديق يوم الردة ، وبأحمد يوم المحنة "، وهنا تبرز الأخوة الإسلامية كمصدر أساسي للتثبيت، فإخوانك الصالحون، هم معين كبير لك في الطريق، وهم ركن شديد تأوي إليه؛ فيثبتونك بما معهم من آيات الله والحكمة .. الزمهم وعش في أكنافهم، وإياك والوحدة فتتخطفك الشياطين فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.

قد ينزلق البعض في الفساد بسبب الإعجاب، والاغترار بما يتظاهر به أهل الباطل، ولقد حذر الله من هذا، وحث المؤمنين على استبانة سبيل المجرمين، فقال _تعالى_: "لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ" (آل عمران:196)، وفي هذا تسرية عن المؤمنين وتثبيت لهم، وفي قوله _عز وجل_: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً" (الرعد: من الآية17) عبرة لأولي الألباب في عدم الخوف من الباطل والاستسلام له، ومن طريقة القرآن فضح أهل الباطل وتعرية أهدافهم ووسائلهم، قال _تعالى_: "وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ" (الأنعام:55) حتى لا يؤخذ المسلمون على حين غرة ، وحتى يعرفوا من أين يؤتى الإسلام، ومن هذا الباب ما يقوم به الدعاة من كشف خطط المفسدين من المغربين، والمنافقين وغيرهم؛ لاستبانة سبيلهم، ومعرفة حالهم، وأنها لا تستحق الاغترار بها أو الإعجاب.

إخوة الإسلام: ومهما يكن من الوسائل المعينة على الثبات فإنه لا محيص من استجماع الأخلاق المعينة على الثبات وعلى رأسها الصبر، لا يمكن أن تفعل شيئاً من الوسائل إذا لم تكن صابراً وفي الحديث قال _صلى الله عليه وسلم_ : " وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسع من الصبر" رواه البخاري، ومسلم.
وبعد أحبتي في الله . . . إن الثبات على دين الله مطلب عزيز، ومرتقى صعب لا يتجاوزه إلا المخفون من الذنوب، والموفقون من عباد الله، فاجعل من محاسبتك لنفسك هذا العام أن تتفقد ثباتك على الطريق الذي تحب أن تلقى الله عليه، تفقد ثباتك على الطريق الذي تحب أن تختم حياتك به، فما أكثر الصالحون المتنسكون في المواسم، وما أقل الثابتون على الخير، وما عساك مستفيد من عمل سبق أن عملته ولكنك طمسته، وما نَفْعُك من خير عملته يوماً، وتركته دهراً إلا نفع قليل، وأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل.

اللهم اجعل هذا العام عام خير على الإسلام والمسلمين وأطل أعمارنا، ومد آجالنا في حسن طاعتك والبعد عن معصيتك، واجعلنا ممن يتبوأ من الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار،
وصلى الله على محمد وآله.