مذكرات إمام-2

هذه هي المذكرة الثانية من حلقات (مذكرات إمام)، وللاستفادة هناك رابط الحلقة الأولى
وستتبع هذه الحلقة –بإذن الله- حلقات أخرى لنفس الكاتب كل أسبوعين.وبعد اكتمال الحلقات سيتم جمعها في ملف واحد لتعرض بصورة متكاملة -إن شاء الله- فعلى من يرغب الإضافة والإفادة من تجاربه في هذا المجال مراسلة الدكتور/ محمد بن عبدالعزيز الخضيري على بريده الاكتروني:
[email protected]
سائلين الله للجميع التوفيق والسداد
مشرف النافذة

المذكرة الثانية:
لكون الإمام يقابل عدداً كبيراً من المصلين ويتعامل مع جمهور الناس فإنه لن يصل إلى إرضائهم جميعاً وتحقيق طلباتهم، فعلى الإمام أن يوطن نفسه على الصبر وقوة التحمل، وحسن الرد، والتجاوز عن هنات الجماعة، وإذا تذكر أنهم جاؤوه من كل حدب، كل واحد منهم قد تلقى نوعاً من التربية، وله طبيعة مغايرة وأخلاق مختلفة فإن ذلك يحمله على تحمل تلك الطلبات والاقتراحات والرغبات، وامتصاص غضبة الغاضب، ورد طلب من يبغي محالاً.
ولعلي أحدثكم عن بعض ما مر بي في ذلك وفيه عبرة:
1- جاءني مرة شيخ من المواظبين على الصف الأول، لكنه من العوام الذين لا يقرؤون ولا يكتبون ولا يقطعون الوقت بقراءة القرآن فيتبرم بالدقيقة التي يقضيها في انتظار إقامة الصلاة.
فقال لي: أظن أنك ثقيل النوم؟ فقلت له مندهشاً: قد ظهرت علي آثار صدمة التهمة: وكيف عرفت ذلك؟ قال: لأني أراك لا تقيم صلاة الفجر إلا بعد زمن طويل، قلت له: وهل تعلم أني أنا الذي أوقظ المؤذن للصلاة، وكان إذ ذاك يؤذن في المسجد شاب ثقيل النوم فيطلب مني أن أوقظه عبر الهاتف فأفعل، قال لي: فما الذي يجعلك تتأخر علينا وتقطعنا؟ فقلت له بأدب جم واحترام: يا عم وكم نجلس بين الأذانين؟ فقال لي بلغة الواثق العارف بالأمر بلا تردد: نجلس خمساً وعشرين دقيقة، ثم استطرد قائلاً: ألا تعلم يا شيخ أن في الجماعة المريض وذا الحاجة؟ ألا تعلم أن فيهم المسلوس (صاحب السلس) ومريض السكر الذي تعجله البولة؟ وفيهم وفيهم، حتى ظننت أنه سيجعل الجماعة كلهم قطيعاً من المرضى فقاطعته قائلاً: ألا تعلم يا عم أن نظام الوزارة يقضي بهذه المدة فلا نتعداها، وعلى كل فإذا أبيتم إلا أن نقصر المدة مراعاة لظروف هؤلاء فلا بأس لأن مصلحتكم مقدمة على غيرها، فما هو الحل برأيك الذي ينقذنا من هذه الأزمة، فقال مبادراً: أن تجعلها عشرين دقيقة، لقد ذهلت من ضحالة الطلب وضخامة العرض، وقلت: وهل الخمس دقائق ستقضي على مشكلة كل واحد من هؤلاء؟ فأجاب: نعم، لقد كان يمكنني أن أرد طلبه بكل قوة؛ لأن الحل المقترح لا يصنع شيئاً، ولأننا ملزمون من قبل الوزارة باقتفاء المدة بلا تعد إلا أن الله وفقني لطريقة حفظت بها الود وجعلت الأمر فيها إلى غيري، وهي أن آكل الأمر إلى جماعة المسجد إن وافقوا على ذلك فإن طلبه سيكون محل الإجابة والتنفيذ، حينها شعر بالانتصار؛ لأنه كان يؤكد بأن جماعة المسجد كلهم على رأيه لا يخالفونه فيه، ولعله كان يتكلم بذلك مع بعض الشيوخ فيوافقه بعضهم من الأميين ويسكت آخرون تركاً للمخالفة وبعداً عن المشاقة، لما وافق على اقتراحي طلع علينا رجل من عقلاء الجماعة وأوسطهم عمراً، وممن كنت أستنير بخبرتهم، وأستفيد من آرائهم عند أي عارض، فدعوته وعرضت عليه اقتراح تقصير مدة الانتظار في صلاة الفجر إلى عشرين دقيقة فسأل عن الداعي لذلك فأخبرته بالعلة التي أخبرني بها الشيخ العامي وهو فصيح يستمع إلى عرضي، فقال صاحبنا المستشار: بل أقترح أن تزاد المدة خمساً لتصبح نصف ساعة؛ لأن العشرين وما زاد عليها لا تكفينا نحن للاستيقاظ وإيقاظ أهل البيت خصوصاً من الصبيان الذين يؤذوننا عند القيام فنحتاج معهم إلى مزيد وقت لندرك الصلاة مع الجماعة، وكم اضطرونا لترك سنة الفجر، ثم التَفَتَ إلى الشيخ قائلاً: أما عمنا هذا فإنه ينام مبكراً ويقوم مبكراً وليس في بيته أولاد يوقظهم ويزعجونه وليس ممن يقرؤون فيقطعون الوقت بالقراءة فهو يستثقل المدة، فعليه أن يراعينا نحن المثقلين بالمسؤولية.
لقد فرحت بإجابته أيما فرح وشعرت أنه خضد شوكة هذا الشيخ وخرجت من هذه القضية قائلاً: على كلٍّ أنا معكم على الذي تتفقون عليه، فإن شئتم الزيادة زدت أو النقص فكذلك أو نبقى على ما كنا عليه فالأمر إليكم، وبقي الرجلان يتناقشان ويتحاوران، ولعل صاحبنا قال للشيخ الأمي: لعل الأسلم يا أبا فلان ألا نستعجل في الخروج إلى المسجد عند سماع الأذان حتى تمضي مدة تشعر أن البقاء معها غير محرج لك، فلملم الشيخ حاله يجر اقتراحه مصحوباً بالخيبة وحفظت بالذي وفقت له الود بيني وبينه وعرف أن اقتراحه ليس قول الجميع ولا أكثرهم، وحمدت الله أن خلصني من المشكلة بلا فرقة ولا دماء أو خصومة، وعندي مثلها أخريات سأحكيها لكم فيما يأتي من الحلقات.
فالله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.