أطفال الديجيتال والذائدون عن الحياض!


رأيته يتمايل بشكل حاد ماداً ذراعية ضاماً قبضتيه يسير،وهو يقول: "تتش كهههع سسس..."، وللأمانة أو نحو ذلك، فلما رآني وقف مشدوهاً ينظر إلى، ووقفت متعجباً أنظر إليه، لا لكونه كائن قادم من الفضاء الخارجي، ولكنه فيما يبدو صبي راشد سوي!
وتمضي السنوات.. ولم يعد ضرباً من الجنون لدى من كان دون سن الخامسة عشرة إصدار أصوات غريبة، أو حركات بهلوانية عجيبة، أو إشارات وإيماءات غير مفهومة!

ولكن الآبدة الغريبة هي تلك النقلة العجيبة بين الأمس واليوم، فكم سمعنا من آبائنا وأجدادنا، قولهم: "والله ما كنا كذلك"، وصدقوا والله وبروا في ذلك، فقد حدثنا الآباء عن الأجداد، وأنبأنا الأجداد عن الأبناء، فشتان شتان بين الواقع الحاضر، والتاريخ القريب المعاصر، كان أحدهم في صباه ما بين الكُتَّاب أو الحقل، يقرأ أو يزرع، يعين أباه ويحمل جزءاً من هم أسرته الصغيرة، يعيش واقعه، يعرف للكبير قدره، وللمعلم حقه، وللجار حرمته، فلا غرابة أن يفقده الحي إذا عرض له مايشغله، فتراهم يسألون أين ذهب فلان بن فلان، وكأنه أحد الأعيان، ومع ذلك كان لهم حظهم من ذكريات الصبا الجميلة وعوارض الطفولة ومشاغباتها البريئة الطريفة، وكم كان لتلك العهود في نفوسهم من معان شهدناها في آثارهم، ولعل منها ما أشار إليه الأول:



وحبب أوطان الرجال إليهم  
مآرب قضاها الشباب هنالكا

إذا ذكروا أو طانهم ذكَّرَتْهُم
 
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا

وحق لمثل هذا أن يقول بملء فيه:


ولي وطـن آليْتُ ألا أبيـعـه  
وألا ألـفي له الدهـر مالكا

عهدت به شرخ الشبابِ ونعمةً
 
كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا

و لذلك ذاد المستعمرَ الغربي عن ربوع وطننا العربي العربي الإسلامي، الآباءُ والأجداد بينما تحالف عليه الأبناء والأحفاد.
وإذا تركنا التاريخ القريب ورجعنا بالذاكرة نحو تاريخ بعيد، زاد البون واتسع الفرق بين صبية جيلنا وبين الكبار: صبية جيل الخالدين..


وليس الخلد مرتبة تقلى  
وتؤخذ من شفاه الجاهلين

ولكن منتهى همم كبار
 
إذا ذهبت مصادرها بقين

لك أن تقارن بين الصورة المعاصرة، وصورة ذلك الغلام الذي أجاد المشي وتعلمه من قريب، يقول له أبوه لما بلغ معه السعي: "يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ماتؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين" قل لي بربك أي عقل هذا وأي غلام! _عليه وعلى أبيه أفضل الصلاة والسلام_.
فإن قيل: تلك أمة خلت، قلنا جاء ابن عمر –رضي الله عنهما- متطوعاً يوم أحد وله من العمر أربعة عشر عاماً فرُدَّ لصغره، فتولى وبه هم مقيم مقعد، ومثله عمير قال سعد بن أبي وقاص _رضي الله عنه_: عُرض على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ جيش بدر، فرَدّ عمير بن أبي وقاص، فبكى عمير، فأجازه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، وعقد عليه حمائل سيفه، أهولاء غلمة، وأبناء اليوم غلمان؟
من الذي قتل رأس الكفر أبا جهل، أليسا غلامين من الأنصار؟
في الصحيح عن عبدالرحمن بن عوف _رضي الله عنه_ أنه قال: بينا أنا واقف في الصف يوم بدر فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بغلامين من الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت أن أكون بين أضلع منهما، فغمزني أحدهما، فقال: يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم ما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال: أخبرت أنه يسب رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، فتعجبت لذلك فغمزني الآخر، فقال لي مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس قلت: ألا إن هذا صاحبكما الذي سألتماني فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فأخبراه، فقال: أيكما قتله؟ قال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا فنظر في السيفين، فقال: كلاكما قتله.
مثال آخر ذلك الغلام الذي كان في حجر الجلاس فلم يمنعه كونه ابن زوجه، من أن يأمره بالمعروف إذ زل، ولم تمنعه سِنُّه من النصح لله ولرسوله.
ومجال آخر .. إذا تأملت طلب أولئك للعلم وروايتهم له وجدت العجب العجاب، فهذه عائشة _رضي الله عنها_ توفي رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ وهي ابنة ثمانية عشرة سنة، فروت عنه أكثر من ألفي حديث فلله درها كيف كان صباها.
وقد ترجم البخاري بابٌ: متى يصح سماع الصغير، على حديث محمود بن الربيع: عقلت من رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ مجة مجها من وجهي وأنا ابن خمس سنين، ليصحح به التحمل عن ابن خمس سنين أو من كان دون البلوغ، وقد أورد الخطيب -رحمه الله- جملة آثار حفظها جمع من الصحابة ومن بعدهم في الصغر، وحدثوا بها بعد ذلك وقبلت عنهم.
وقال الإمام أحمد: إذا عقل ما يسمع صح تحمله الرواية، وهو الذي رجحه ابن جماعة في المنهل الروي، وقال: اعتبار كل صبي بحاله، وكأني بيحيى بن معين خمّن حال عامة الأجيال المقبلة فاشترط بلوغ الخمس عشرة سنة، ولا أدري إذا رأى جيلنا، فأي سنٍ يشترط!

قارن بين تلك النماذج وبين ما أضحت عليه الحال، وقل لي أي بون أبعد: هذا أو الثرى من الثريا؟

كان مخلد بن الحسين والعالم المجاهد ابن المبارك -وهما هما- إذا ذكر لهما من ذكرت ونحوهم تمثلوا، فقالوا:

لا تعرضنَّ لذكرنا في ذكرهم  
ليس الصحيحُ إذا مشى كالمقعدِ

فماذا نقول؟! أولئك قوم شهدوا الوحي وعاينوا التنـزيل، فلا سبيل للمقارنة أو التمثيل.

نزلوا بمكةَ في قبائلِ نوفَلٍ  
ونزلتُ بالبيداءِ أبعد منْزِلِ!

ولكن السؤال: ما الذي أوجد هذا الفرق؟ أليست العلوم تزداد يوماً بعد يوم؟ أليست العقول تتفتح على آفاق جديدة حيناً بعد حين؟
الجواب: بلى، ولكن!
فرق بين من هداه الوحي فأبصر الطريق وسار نحو هدف ربي عليه، وبين من تفتحت عيناه على كابتن ماجد وأبطال الديجيتال والرمية الملتهبة، ولا يفوتني ذكر البكيومونات وغيرها من الخُزَعْبِلات والسخافات الحديثة المعاصرة.
فرق بين من شُكلت نفسيته وفقاً للفطرة السوية، وبين من شَكلت عقله الفضائيات المرئية التي استغرقت الأوقات وذهبت بالطاقات.

فخير جليسٍ (في الزمــان!) كتاب  
وخـير أنيس (في الحديث) قناة!

فرق بين من نشأ معتزاً بدينه وقيمه وأخلاقه، وبين من شكلت أخلاقه وقيمه –منذ نعومة أظفاره- الأفلام الكرتونية والثقافة الغربية.
إنه من الطبعي أن يكون الأول غصة في حلق المستعمر لا تجمعه به رابطة، كما أنه من الطبعي أن يكون الأخير أداة طيعة في يد المستعمر، سواءً أكان الاستعمار عسكرياً أو ثقافياً يكفي به المنافقون القتال.