العولمة والسنن
15 رمضان 1424

العولمة والسنن:
كان الناس في عصرهم الأول نموذجاً مثالياً لعولمة حضارية، وحدة على مستوى البشرية جمعاء؛ فكرية ثقافية، سياسية، اقتصادية، وكان ذلك وفقاً لمنهج الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ثم جاءت الأذواق والأهواء بعجرها وبجرها، فحاولت جبابرة القرون - جيلاً بعد جيل- رفض الكتاب الذي أنزل ليقوم الناس بالقسط، موظفةً الحديد والنار في محاولات شتى لفرض أضرب من "العولمة"، بل لفرض نفوسهم ونفوذهم على العالمين "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم" (1)، "وما كان الناس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون" (2).

إن إرادة الله الكونية اقتضت وجود الخلق، ومشيئته الشرعية اقتضت توحدهم على منهج الحق كما قال- سبحانه-:"يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم ~ وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون" (3) ولكن خالفت الإرادة الكونية المشيئة الشرعية "فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون" (4)، أي: يفرحون بما هم فيه من الضلال؛ لأنهم يحسبون أنهم مهتدون (5).فاقتضت حكمته –سبحانه وتعالى- وجود الخير والشر في هذا الكون "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (6)، "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ~ إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" (7)، "هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير" (8)، "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ~ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن ُيدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ" (9).
وكما اقتضت حكمته وجود الخير والشر، جرت سنته بدوام التدافع بينهما، فقد جعل الله الأيام دولاً "ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين" (10)، "... ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز" (11)، "وتلك الأيام نداولها بين الناس" (12).

غير أن العاقبة للتقوى، فصاحب الحق يجب عليه أن يستعين بالله ويصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ~ إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين ~ وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين" (13).

فالناس من حيث المآل فريقان، فريق في الجنة وفريق في السعير، وعلى الأعراف فريق ثالث مآله إما إلى جنة أو إلى نار، فالمحصلة فريقان.
أما في الدنيا فصراع أهل الحق مع أهل الباطل مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى أن يرسل الله ريحاً تقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى في أرض الله من يقول: الله الله، وعندها تقوم الساعة على شرار خلق الله.

كما أن أهل الباطل طوائف مختلفة ولكن مآلها واحد، تجمعهم أهواء وأهداف مصالحهم الضيقة، فيتداعون لحرب من يعارضهم من أهل الحق، كما أخبر - صلى الله عليه وسلم- "توشك أن تداعى عليكم الأمم كما تدعى الأكلة على قصعتها"، ولكن هم مع ذلك طرائق قدداً، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.

ولما كان الناس كذلك، فقد راعت شريعة الإسلام العالمية هذه السنة الكونية، فجاءت تشريعات الإسلام معتبرة للفروق بين ما يجب التفريق فيه كالأديان، فأصحابها بين متبع للباطل ومتبع للحق، فهم متباينون، ومن الجور التسوية بين المتباينين، ولايمكن أن يسمى هذا عدلاً.
وجاءت كذلك ملغية للتفرقة فيما تلزم المساواة فيه، كالتفريق بين الناس على أساس الأعراق بينما هم كلهم لآدم وآدم من تراب.
أما النظام العالمي الأمريكي فله حقيقة ودعوى تجاه هذه المسألة:
أما حقيقته، فهي فرض للهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة الأقوى،على كافة الشعوب والمجتمعات، وهو شكل جديد من أشكال الاستعمار كما سبق، وقد اعترف بنحو هذا بعض الأمريكيين كالكاتب الصحفي (توماس فريدمان).

أما دعواه فهي زعم أن النظام العالمي الجديد قائم على عدم التفريق بين الناس على أي أساس، سواءً أكان ديناً أو عرقاً، رجلاً أو امرأة أو غير ذلك، فلا فرق البتة، ولست هنا في مقام مناقشة تفصيلية لهذه الفكرة.
ولكن يكفي القول بأن العدل هو التسوية بين المتساويين والتفريق بين المختلفين، وإن إلزام المختلفين بفعل واحد أو سلوك طريق بعينه سيكون مجحفاً في حق بعضهم.
كما أن اعتبار الفروق لامناص منه، والواقع التطبيقي العملي الفعلي اضطر هؤلاء لاعتبار بعض الفروق، فعلى سبيل المثال، لماذا يمنع غير الأمريكي مثلاً من الترشح لحكم أمريكا؟ أليست المساواة تقتضي جواز ترشح أي إنسان، سواء جاء من إحدى الولايات أو جاء من إحدى القارات؟ كذلك لماذا يمنع من كان دون سن معينة من الترشح؟ ومع ذلك لم نر أحداً خرج يطالب بحقوق الشباب! إذن فلابد من ضوابط ومحددات، وهذه المحدادات هو ما يرفض العالم أن تكون أمريكا هي صانعتها، وبخاصة في بلداننا.
وأخيراً أشير إلى فشل هذا النظام في إلغاء هذه الفوارق حتى بين مصدريه من أبناء الملة الواحدة، فهذه بريطانيا تعيش ردحاً من الزمن أزمة سياسية ثقافية اجتماعية عجزت أن توحد فيها بين رؤى الجيش الأيرلندي الكاثوليكي الذي يسعى للانفصال، وبين الوحدويين البروتستانت، ومازلنا نسمع بين الفينة والأخرى نبأ انفجار عبوة وضعها متطرفون بروتستانت، أو مقتل بروتستانتي برصاص كاثوليكي أو اشتباكات بين كاثوليك وبروتستانت، كل ذلك في الدولة التي تعد الحليف الأول لراعية العولمة الجديدة!
وقل مثل ذلك عن الجيش الأحمر الياباني الوثني، وجيش التحرير الكوبي الشيوعي.
وكم من مرشح غربي فاز في الانتخابات العامة بسبب برنامجه الاقتصادي الإصلاحي!
وبعد ذلك يريد النظام العالمي الجديد أن يقنعنا بإمكانية إلغاء سنة كونية لن تنتهي إلاّ بنهاية هذه الدنيا.



1سورة البقرة: 213.
2سورة يونس: 19.
3سورة المؤمنون: 51.
4سورة المؤمنون: 53.
5تفسير ابن كثير 3/248.
6سورة يونس: 99.
7سورة هود: 119.
8سورة التغابن: 2.
9سورة الشورى: 7-8.
10سورة البقرة: 251.
11سورة الحج: 40.
12سورة آل عمران: 140.
13سورة الأنبياء: 105-107.