شهر القرآن

شهر القرآن يا أهل الفرقان

مقدمة:
الحمد لله ذي الحجج البوالغ، والنعم السوابغ، والنقم الدوامغ، حمداً لاانقطاع لراتبه، ولا إقلاع لسحائبه، وصلى الله وسلم على أفضل مبعوث، وخير وارث وموروث، وعلى آله الطيبين، وصحبه أجمعين.








وبعد فإن حبل الله فينا كتابه  
فجاهد به حبل العدا متحبلا

وأخلق به إذ ليس يخلق جِدة
 
جَديدا ً مواليه على الجِدِّ مُقبلا

وقارئه المرضي قرَّ مثاله
 
كالاترجِّ حاليه مُريحاً ومُوكلا

وإن كتاب الله أوثقُ شافع
 
وأغنى غناءً واهباً متفضلا

وخير جليس لا يمل حديثه
 
وترداده يزداد فيه تجملا

وحيث الفتى يرتاع في ظلماته
 
من القبر يلقاه سناً متهللا

جزى الله بالخيرات عنا أئمة
 
لنا نقلوا القرآن عذباً وسلسلا

ولنا أن نذّكر ببعض واجبنا تجاه هذا الحبل الممدود والعهد المعهود، الذي من استنار به أبصر ونجا، ومن أعرض عنه زل وهوى.. ولاسيما في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
وأذكر بعض الجوانب التي ينبغي أن نعتني ونشغل الأوقات بها:

أولاً: حفظه أو ماتيسر منه

فحافظ القران هو العالم المقدم (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) [العنكبوت:49]. روى الإمام مسلم في الصحيح، أن نافع ابن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بعسفان، وكان عمر -رضي الله عنه-استعمله على مكة. فقال له عمر -رضي الله عنه- :من استخلفت على أهل الوادي؟ قال: استخلفت عليهم ابن أبزى. قال: وما ابن أبزى؟ فقال: رجل من موالينا. فقال عمر -رضي الله عنه- :استخلفت عليهم مولى! فقال: إنه قارئ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قاض، فقال عمر رضي الله عنه: أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين) (1).
بل صاحب القرآن رفيق الملائكة السفرة، الكرام البررة، روت أمنا عَائِشَة-رضي الله عنها- عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ : "مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ" (2)، ويوم القيامة " يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا" (3)
ولعل سر ذلك أن من استنار بنور الوحي أبصر الطريق!





نزه فؤادك عن سوى روضاته  
فر ياضه حلٌ لكل منزه

والفهم طِلِّسْمٌ لكنز علومه
 
فاقد إلى الطِلِّسم تحظ بكنزه

لا تخش من بدع لهم وحوادث
 
مادمت في كنف الكتاب وحرزه

من كان حارسه الكتاب ودرعه
 
لم يخش من طعن العدو ووخذه

لا تخش من شبهاتهم واحمل
 
إذا ما قابلتك بنصره وبعزه


ثانياً: تدبره والعمل به
ذم الله أقواماً فقال: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24].قال ابن كثير: " أي بل على قلوب أقفالها فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه" (4) وبالمقابل امتدح أقواماً فقال: ( وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين)َ [المائدة:83].وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال:2].
ثبت في صحيح البخاري من حديث أنس، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: " المؤمن الذي يقرأ القرآن ويعمل به كالأترجة؛ طعمها طيب، وريحها طيب، والمؤمن الذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة؛ طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن كالريحانة؛ ريحها طيب، وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كالحنظلة؛ طعمها مر أو خبيث، وريحها مر" (5).








طوبى لمن حفظ الكتابَ بصدره  
فبدا وضيئاً كالنجوم تألَّقا

الله أكبر ! يالها من نعمة
 
لما يقال " اقرأ ! " فرتل وارتقا

وتمثلَ القرآنَ في أخلاقه
 
وفعاله ، فبه الفؤادُ تعلقا

وتلاه في جنح الدجى متدبِّراً
 
والدمعُ من بين الجفون ترَقرَقَا

هذي صفاتُ الحافظين كتابه
 
حقاً فكن بصفاتهم متخلِّقَاً

يا حافظ القرآن .. لست بحافظٍ
 
حتى تكون لما حفظتَ مُطبِّقَاً

ماذا يفيدُكَ أن تسمَّى حافظاً
 
وكتابُ ربك في الفؤاد تمزَّقَا

يا أمتي ..! القرآنُ حبلُ نجاتنا
 
فتمسكي بعراهُ كي لا نغرقا


قال القرطبي -رحمه الله- في تفسيره : " فيجب على حامل القرآن وطالب العلم أن يتقي الله في نفسه ويخلص العمل لله فإن كان تقدم له شيء مما يكره فليبادر التوبة والإنابة وليبتدئ الإخلاص في الطلب وعمله فالذي يلزم حامل القرآن من التحفظ أكثر مما يلزم غيره كما أن له من الأجر ما ليس لغيره " (6).
قال الفضيل بن عياض : حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي له أن يلهو مع من يلهو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلغو مع من يلغو تعظيماً لحق القرآن(7) .
لما حارب المسلمون مسيلمة الكذّاب، وقُتل حامل رايتهم زيد بن الخطاب، تقدّم لأخذها سالم مولى أبي حذيفة فقال المسلمون : يا سالم، إنا نخاف أن نُؤتى من قبلك - فقال : بئس حامل القرآن أنا إن أتيتم من قِبَلي . فقطعت يمينه فأخذ اللواء بيساره، فقطعت يساره فاعتنق اللواء وهو يقول: (وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل) [آل عمران:144]. ( وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير)[آل عمران:146]. فلما صُرع قيل لأصحابه : ما فعل أبو حذيفة؟ قيل : قُتل(8).

أخيراً يا أخا الإسلام!

لتكن لك في رسول الله أسوة حسنة، سأل سعد بن هشام أمَّ المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- فقال: أخبريني عن خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: (كان خلقه القرآن) (9)، ولذلك زكاه ربه سبحانه فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم)[القلم:4].
جعلنا الله وإياكم من أهل القرآن، الحافظين لحروفه، الواقفين عند حدوده، المتدبرين لآياته، فلمثل هؤلاء يجيء القرآن شفعياً يوم القيامة (10).
وصلى اله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


1 رواه مسلم في الصحيح 1/559، ورواه جمع من الأئمة بأسانيد صحيحة.
2 رواه البخاري في صحيحه 4/1882، ورواه غيره.
3 رواه الترمذي بسند لا بأس به، وقال: هذا حديث حسن صحيح، ورواه الإمام أحمد في المسند بأكثر من طريق 2/192 و 2/471 ورواه أيضاً أبوداود في السنن 2/73، والنسائي في الكبرى 5/22، والبيهقي في الشعب 2/347، وغيرهم.
4 تفسير ابن كثير 4/180.
5 رواه البخاري في صحيحه 4/1928.
6 تفسير القرطبي 1/19.
7 انظر فيض القدير 3/368.
8 الجهاد لابن المبارك ص 98، وانظر مستدرك الحاكم 3/252.
9 حديث صحيح رواه الإمام أحمد في المسند من غير طريق 6/91، 6/163، 6/216، ورواه غيره.
10 ثبت ذلك عند مسلم 1/553، وغيره.