13 شعبان 1427

السؤال

قال الله _تعالى_ :" الذي علم بالقلم" كيف نخرج من هذه الآيه فوائد تربوية ؟ <BR><BR>شكرا لكم

أجاب عنها:
اللجنة التربوية

الجواب

إنك إن تأملت هذه الآية أو غيرها من كتاب الله _تعالى_، ستجد كتاب الله –سبحانه- غنياً بالعلوم والمعارف والهدايات القرآنية، ولا تكاد ترجع إليه بعد كل تأمل في الآيات إلا وتجد فوائد جديدة، ولو أدَرْتَ لسان اللغة العربية لتبحث عن كلمة بديلة للكلمة الذي اختارها الله –سبحانه- في هذا الموضع أو ذاك لم تجد كلمة أنسب منها، وهو الكتاب العظيم الذي لا تشبع منه العلماء، ولو تأملت كل كلمة في الآية لظهر لك من الدلائل والفوائد ما يثير في نفسك العَجَب مما يظهر لك من التأملات القرآنية, وكذلك إن راجعة المظان وكتب التفسير وفقه القرآن، فدعنا نقف قليلا مع هذه الآية، لنستنتج منها ما يفتح الله به، فهاك بعض الفوائد: 1- اهتمام الإسلام بالعلم، حيث إن القلم مصدر العلم والتعليم، وقبلها جاء قوله -سبحانه- :"اقرأ" فكانت أول كلمة تنزلت على الرسول الكريم _صلى الله عليه وسلم_ هي الأمر بالقراءة، ثم الإشادة بالقلم، وسيلة نقل العلوم. 2- أهمية القلم وما يقوم مقامه في تدوين العلم، فهو نعمة من الله عظيمة. حيث جعله الله وسيلة للعلم، فقال: "علَّم بالقلم"، ولا تخفى أهمية القلم. ومن ذلك ما خرجه ابن جرير عن قتادة قال: القلم نعمة من الله _تعالى_ عظيمة، لولا ذلك لم يقم دِين، ولم يصلح عيش. وقال القرطبي –رحمه الله- : فدل على كمال كرمه -سبحانه- بأنه علَّم عباده ما لم يعلموا، ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم، ونبَّه على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو، وما دُوِّنَتْ العلوم ولا قُيِّدَت الحِكَم ولا ضبطت أخبار الأولين ومقالاتهم، ولا كتب الله المنزلة إلا بالكتابة، ولولا هي ما استقامت أمور الدين والدنيا. وقال ابن القيم عن القلم في مفتاح دار السعادة كما نقله عنه القاسمي: إذ به تخلد العلوم، وتثبت الحقوق، وتعلم الوصايا، وتحفظ الشهادات، ويضبط حساب المعاملات الواقعة بين الناس، وبه تقيد أخبار الماضين للباقين اللاحقين، ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأزمنة عن بعض، ودرست السنن وتخبطت الأحكام، ولم يعرف الخلف مذاهب السلف، وكان معظم الخلل الداخل على الناس في دينهم ودنياهم إنما يعتريهم من النسيان الذي يمحو صور العلم من قلوبهم، فجعل لهم الكتاب وعاء حافظا للعلم من الضياع، كالأوعية التي تحفظ الأمتعة من الذهاب والبطلان، فنعمة الله -عز وجل- بتعليم القلم بعد القرآن من أجلِّ النعم، والتعليم به. 3- الله منه كل خير والإنسان مهما بلغ وارتفع، فإن ما به من نعمة من علم أو توفيق إلى أي خير كان فإنما هو من الله _تعالى_، ليس من عنده، فلينسب الفضل لأهله، ولا يكن كقارون حين أنعم الله عليه بنعمة المال" قال إنما أوتيته على علم عندي" وليشكر نعمة الله –تعالى- عليه "وما بكم من نعمة فمن الله" فالله _سبحانه_ هو الذي علمك أيها الإنسان. قال سيد قطب -رحمه الله- ثم تبرز –يعني الآية- مصدر التعليم.. إن مصدره هو الله، منه يستمد الإنسان كل ما علم وكل ما يعلم وكل ما يفتح له من أسرار هذا الوجود، ومن أسرار هذه الحياة، ومن أسرار نفسه، فهو من هناك من ذلك المصدر الواحد الذي ليس هناك سواه. 4- فإذا عرفت أن الله هو الذي علمك، وليس منك لنفسك شيء إلا ما أراده لك ربك –سبحانه- فاحذر العجب بنفسك، فإنما أنت جاهل في الأصل، وإن جاءك علم جديد فليس من صفة ذاتية امتلكتها أنت، إنما اختصك الله بها، وواجب عليك شكرها بدل أن تغتر بها، فقد قال –سبحانه- بعد قوله: "الذي علم بالقلم" "علم الإنسان ما لم يعلم" فأنت كنت لا تعلم شيئا، "والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً". فهل تشكر نعمة ربك بعد ذلك على هذه النعمة العظيمة؟ قال ابن القيم –رحمه الله-: وإن كان مما يخلص إليه الإنسان بالفطنة والحيلة فإن الذي بلغ به وأصله إليه عطية الله وهبها الله منه، وفضل أعطاه الله إياه، وزيادة في خلقه وفضله، فهو الذي علمه الكتابة، وإن كان هو المعلم ففعله فعل مطاوع لتعليم الذي علم بالقلم، فإنه علمه فتعلم، كما أنه علمه الكلام فتكلم، هذا، ومن أعطى الذهن الذي يعي به، واللسان الذي يترجم به، والبنان الذي يخط به، ومن هيَّأ ذهنه لقبول هذا التعليم دون سائر الحيوانات، ومن الذي أنطق لسانه وحرك بنانه، ومن الذي دعم البنان بالكف، ودعم الكف بالساعد، فكم لله من آية نحن غافلون عنها في التعليم بالقلم، فَقِفْ وقفة في حال الكتابة. 5- في الآية تنمية لمحبة الإنسان لربه -جل في علاه- فــ(الذي) في الآية اسم موصول يعود على (ربك) في أول السورة، وفي اختيار لفظ الرب دون سواه إشعار، بأن ما ورد بعد ذلك من ربوبية الله –سبحانه- لخلقه ورعايته لهم وتربيته، كما جعل -سبحانه- هذه الآية التي تمن على العباد بالتعليم بالقلم بعد صفة (الأكرم) مما يدل على أن هذه النعمة كرم رباني من الله -سبحانه-. 6- الله سبحانه إنما علَّم بالقلم الإنسانَ فقط، ولم يعلِّم الحيوان، فالإنسان يستطيع التعبير عما يجول في خاطره بالقلم، فإذا جاع استطاع التعبير عن جوعه بالقلم، أما غيره فلا شيء من الحيوانات فلا يستطيع ذلك. 7- في الآية بيان عظمة الله _تعالى_، في تسخيره للقلم الجامد لهذا الإنسان ليعبر عما يريد، لكأنما هو لسان صامت، قال القاسمي –رحمه الله- : أفهم الناسَ بواسطة القلم كما أفهمهم بواسطة اللسان، والقلم آلة جامدة، لا حياة فيها، ولا من شأنها في ذاتها الإفهام، فالذي جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان، ألا يجعل منك قارئا مبيِّنا وتاليا معلما وأنت إنسان كامل؟؟ وقال ابن القيم –رحمه الله-: وتأملْ حالك وقد أمسكت بالقلم، وهو جماد، ووضعته على القرطاس وهو جماد، فتولد من بينهما أنواع الحكم، وأصناف العلوم وفنون المراسلات والخطب والنظم والنثر، وجوابات المسائل، فمن الذي أجرى فَلَكَ المعاني على قلبك، ورسمها في ذهنك ثم أجرى العبارات الدالة على لسانك، ثم حرك بها بنانك حتى صارت نقشا عجيبا، معناه أعجب من صورته، فتقضي به مآربك، وتبلغ به حاجة في صدرك، وترسله إلى الأقطار النائية والجهات المتباعدة، فيقوم مقامك، ويترجم عنك، ويتكلم على لسانك، ويقوم مقام رسولك، ويجدي عليك ما لا يجدي من ترسله، سوى من علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم؟ 8- في الآية إعجاز قرآني، حيث نزلت هذه الآية مع أول ما نزل من القرآن على رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، في مجتمع أمي لا يحفل كثيرا بالقراءة والكتابة، ولا يُولِي القلمَ أهميةً كبرى، فكان للقلم فيما بعد أهمية لا تغفل، قال سيد قطب –رحمه الله-: القلم كان وما زال أوسع وأعمق أدوات التعليم في حياة الإنسان.. ولم تكن هذه الحقيقة إذ ذاك بهذا الوضوح الذي نلمسه الآن، ونعرفه في حياة البشرية، ولكن الله _سبحانه_ كان يعلم قيمة القلم، فيشير إليه هذه الإشارة في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة للبشرية، في أول سورة من سور القرآن الكريم.. هذا مع أن الرسول الذي جاء بها لم يكن كاتبا بالقلم، وما كان ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى لو كان هو الذي يقول هذا القرآن لولا أنه وحي ولولا أنها الرسالة! 9- القلم نعمة من الله _تعالى_ على الإنسان يجب عليه أن يشكرها، ويستخدمها في مرضاة الله، وهو مأجور إن استخدمها في ذلك، مأزور إن استخدمها فيما يغضب وجهه –سبحانه- وليس له أو عليه شيء إن استخدمها في مباح، فليتق الله -سبحانه- كل كاتب في كتاب أو مجلة أو جريدة أو رواية أو حاسب، فكل ما يكتبه مكتوب له أو عليه، والقلم وسيلة ناجعة ناجحة في نصر الدين، وهو كذلك في هدم بنيانه، ومن ذا الذي يحجب نور الشمس بعباءته، "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره...". كناطحٍ صخرةً يوما ليوهنها... فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل أما كتاباتهم وتوهينهم في عضد المسلمين، ورسوماتهم الساخرة المستهترة فستكتب عليهم، وسيطمرها التراب ويعفو آثارها الزمن، وسيزهق الباطل ويعلو صوت الحق يوما ما وإن طال الزمن. 10- ثم ها هو القلم اليوم يصل إلى مستوى لم يصل إليه من قبل، وتنطلق منه الكلمات كالرصاص وتصل إلى أقاصي الدنيا في لحظة واحدة يقرؤها الآلاف في دقائق معدودة، فقلم اليوم لوحة المفاتيح في الحاسوب، وإن كان العلماء والأدباء قديما أطنبوا في وصف القلم، فماذا كانوا سيقولون لو رأوا قلم اليوم، وهي نعمة لا يتمكن الإنسان من شكرها، كسائر نعم الله -تعالى- وما قلناه فيما سبق القلم يصدق على الحاسوب. فهذه بعض الخواطر والفوائد هي ثمرة التأمل والتفكر في كتاب الله, مع الرجوع إلى ما كتبه أهل العلم في بعض تفاسيرهم أو مظان موضوع الآية, رزقني الله وإياك التدبر في آياته والعمل بها, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين