29 جمادى الأول 1426

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:<BR>أشكركم على العمل العظيم الذي تقومون به للميدان التربوي، وأريد منكم تزويدي بمعلومات حول طريقة تدريس السيرة بصورة تجعل الدارسين يشاركون فيه بفعالية في العملية التعليمية، فلدينا مشكلات عند تدريس هذه المادة.<BR>

أجاب عنها:
د. خالد رُوشه

الجواب

تمثل سيرة النبي الكريم _صلى الله عليه وسلم_ النموذج التاريخي الأمثل الذي لم يتطرق إليه عبث أو تزوير ولم تطله يد المائلين إلى هذا الاتجاه الفكري أو ذاك.. ومن ثم فهي معين لا ينضب ومنبع خير لا ينقطع... ولازال العلماء وطلاب العلوم يتوقفون عند دلائل سيرته _صلى الله عليه وسلم_ العطرة فيستخرجون الذهب واللآلي.. وقد يحتاج الدارسون والمربون إلى معالم تبصرهم في أثناء تناولهم للسيرة علما وتعليما كي يزداد إنجازهم في دراستها ويعمق فهمهم بدرايتها , فتكون المشاركة الفعالة من جانب العالم والمتعلم ويكون الأثر المراد من ذاك النبع الأصيل.. وها نحن نقف معك أخي القارئ عند عدة بصائر ومعالم في تدريسها وتعليمها كالتالي: <font color="#0000FF">أولا: وقار صاحب السيرة يلقى بظلاله على طريقة تعليمها.. </font> إن قيمة درس السيرة النبوية الذي يعرضه المعلم والمربي على سامعيه لتزداد قيمته وتسمو فائدته لدى متعلميه كلما تذكر المستمع والمتعلم مقام صاحب تلك السيرة وكلما عاش في ظل وقار حياة ذاك النبي الخاتم _صلى الله عليه وسلم_ ولست أعنى بالوقار مجرد الاحترام والسكون اللازمين عند من يوقره الناس ويجلونه، بل يتعدى التوقير هنا ذلك إلى أمور أخرى عملية نحاول ذكر بعضها، (وعلى المعلم هنا أن يؤكد على هذا المعنى دائماً و يمعن في تعديد جوانب الوقار وتبيينها للمتعلمين ولدارسي السيرة في كل مجتمع – جوانب الوقار الواجب التأكيد عليها): 1- قيمة هذه السيرة العطرة إذ جاءت بعثته _صلى الله عليه وسلم_ في زمن قد مقت الله فيه العرب والعجم كلهم إلا بقايا نادرة من أهل الكتاب. 2- مدى ذلك التأثير الإيجابي الكبير الذي أحدثته هذه السيرة –تطبيقيا – في العالم أجمع , ومدى التغيير الإيجابي الذي غيرته في الأمم التي شرفتها بدعوتها 3- مقام ذلك الرسول الأعظم _صلى الله عليه وسلم_ بين البشر عامة وبين الرسل خاصة وأن رسالته هي خاتم الرسالات وأنها المهيمنة عليها جميعاً. 4- الواجب تجاه هذا الرسول من تأدب في السلوك والواجب تجاهه من طاعة في العمل وتصديق في الرسالة وبذل وعطاء في نصرتها 5- مقدار الجهد الكبير والعطاء العظيم والسعي الدؤوب الذي بذله ذلك الرسول الكريم لأمته بغية تعليمهم وهدايتهم لطريق الهدى والخير والنور والإيمان . <font color="#0000FF">ثانياً: طرق تدريس السيرة بين التجديد والموروث.. </font> قد يستطيع المعلم أن يوصل المعلومة التي يريدها إلى المستمع بطريقة سهلة لا يتعب نفسه فيها ولا يبذل فيها جهدا يذكر، فيفتح كتاب السيرة ويقرأ منه لطلابه وطلابه يستمعون فإذا ما انتهى الوقت أو انتهى الجزء سألهم: هل من سؤال؟ فيهزون رؤوسهم بالنفي فيختم الدرس ويقوم عنهم ظاناً أنهم قد استوعبوا الدرس وحصل المقصود.. ولنا على هذه الطريقة بعض الملاحظات من حيث مدى أثرها في التحصيل والتعليم إذا اكتفى بها المعلم في الموضوع الذي هو بصدده وخصوصاً موضوعات السيرة التي تحتاج سعة لفهم المواقف واستيعاب السلوك النبوي فيها وملاحظتنا كالتالي: 1- لا يمكن الاكتفاء بتلك الطريقة للتأكد من حصول الاستيعاب 2- لابد من استخدام الطرق التعليمية المختلفة لكمال الاستيعاب 3- التطبيق العملي في المواقف هو الدليل الأول على الفهم 4- الاكتفاء بتلك الطريقة يراكم المعلومات في الذاكرة القريبة ويسبب نسيان الموقف والأسماء المذكورة فيه وتهمل معه المعلومة السابقة 5- هذه الطريقة وحدها في التعليم لا تتيح القيام بالتفاعل التعليمي بين الطالب والمعلم. 6- هذه الطريقة وحدها تورث الملل لدى الطالب والمتعلم وتجعله لا يذوب في المادة فهما ولا يشتاق إليها شوقا.. بل يعدها مادة للتدريس النظري فحسب. ولذلك فيجدر بالمعلمين الانتفاع بباقي الطرق التربوية والتعليمية لتوصيل الرسالة العلمية والإيمانية للمنتفعين بها والراغبين فيها, وسأحاول أن أطلعك على طرف من هذه الطرق التعليمية المختلفة التي يمكن أن ينتفع بها في تدريس مادة السيرة النبوية.. <font color="#FF0000">أ – طريقة السلف: </font> قال عبد الله بن مسعود _رضي الله عنه_ فيما أخرجه البخاري: " كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن ". إذن كانت هذه هي طريقة السلف الصالحين في تعلم المادة العلمية المعينة وهى الحرص على تفهم المادة وتطبيقها في المواقف قبل أن يستزيد، وهنا عندما نطبق ذلك على دراسة سيرة النبي _صلى الله عليه وسلم_ نقول إن كل جزئية من جزئيات حياته _صلى الله عليه وسلم_ هي قيمة وكل موقف من مواقفه هو درس في ذاته وكل صفة من صفاته هي قدوة فيجب ألا نفرح بالاستكثار من تدريس السيرة من قبل أن نتأكد من تشرب الطلاب كل موقف وتطبيقهم لكل فضيلة واقتدائهم بكل صفة. <font color="#FF0000">ب – التعليم بالموقف: </font> وهذه الطريقة لا يمكن استخدامها إلا إذا كان المعلم متابعاً للطالب ومحتكاً به وقريباً منه فهو يستغل كل موقف يمر به ليسدى إليه التوجيه والتعليم رابطاً كل موقف من المواقف بمواقفه _صلى الله عليه وسلم_ وهذه الطريقة في التعليم من أبلغ الطرق في التأثير ومن أكثر الطرق رسوخاً في ذاكرة المتعلم إذ إنها تربط بمثير خارجي هو الموقف الذي مر به وبتوجيه مرتبط وهو التوجيه النبوي وطريقته _صلى الله عليه وسلم_ في التصرف فيه، وقد كان النبي _صلى الله عليه وسلم_ كثيراً ما كان يستخدم هذه الطريقة الناجحة في التعليم والتوجيه، فعن عمرو بن عوف الأنصاري _رضي الله عنه_ أن النبي _صلى الله عليه وسلم_ بعث أبا عبيدة بن الجراح _رضي الله عنه_ إلى البحرين ليأتي بجزيتها فقدم بمال من البحرين فسمعت الأنصار بقدوم أبى عبيدة فوافوا صلاة الفجر مع الرسول _صلى الله عليه وسلم_ فلما صلى النبي انصرف فتعرضوا له فتبسم النبي حين رآهم ثم قال: أظنكم سمعتم أن أباعبيدة قدم بشيء من البحرين فقالوا: أجل يا رسول الله. فقال: أبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم " متفق عليه <font color="#FF0000">ج – ما تكرر تقرر: </font> هي حكمة وصفية صالحة إذا حسن استخدامها وطريقة تعليمية ناجحة إذا أتقن العمل بها ومعناها أن يكرر المعلم الجمل الهامة والتوجيهات الضرورية والنصائح الغالية في السيرة النبوية التي وردت على لسان النبي _صلى الله عليه وسلم_ في المواقف الهامة وعلى لسان أصحابه _رضوان الله عليهم_ مرات كثيرة وفى مرات مختلفة وبطرق مختلفة ، فإنه إذا أكثر من تكرار ذلك بهذه الطريقة فإنها تقرر في عقول المستمع كأصول وأسس ثابتة يصعب نسيانها، فالمعلم الحريص على تعليم أتٌباع النبي _صلى الله عليه وسلم_ مثلا يكرر ذكر مقولة المقداد _رضي الله عنه_ " والله يا رسول الله لو خضت بنا البحر لخضناه معك لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون " <font color="#FF0000">د – التعليم بالحكاية: </font> وأقصد بالحكاية هنا حكايات الصالحين من أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة والعلماء الكرام وكيف أنهم اقتدوا بسيرته _صلى الله عليه وسلم_ اقتداء شديداً واتبعوا خطواته متابعة كاملة، فتراجم الصالحين وحكاياتهم هي نموذج تطبيقي لسيرة النبي _صلى الله عليه وسلم_ <font color="#FF0000">هـ – التعليم بالبحث: </font> وهى طريقة جيدة أيضاً في تثبيت المعلومة والتحبيب في العلم والكتاب والتعويد على الصبر على العلم وعلى أدب الخلاف وهى هنا مفيدة جداً في تعليم السيرة النبوية وإخراج المستفاد من الدروس من المواقف والمقارنات بين المواقف السابقة والواقع الحالي وغير ذلك، وهي طريقة يقوم فيها المعلم – بعدما يشرح موضوعه المراد تدريسه – بأن يطلب من الأفراد القيام ببحث علمي مصغر للجزئية من السيرة المطلوبة كأن يطلب منهم البحث في صحة الروايات في تلك الجزئية أو الدروس المستفادة وكيفية تطبيقها في العصر الحديث أو خلافات الرواة في المواقف المختلفة وغيرها، ثم تأتى الخطوة التالية وهي أن يعرض عليهم جميعاً نتائج بحوثهم بعدد تقديمها له وقراءته إياها وعليه أن يثنى على مجهوداتهم ويبين الايجابيات في بحوثهم وأن يقف معهم على كل سلبية ويبين لهم الصواب بوضوح . <font color="#0000FF">ثالثاً: الربط بين أحاديثه _صلى الله عليه وسلم_ وسيرته.. </font> يغفل كثير من المعلمين أثناء تعليمهم سيرة النبي _صلى الله عليه وسلم_ للطلاب عن ربطها بالأحاديث النبوية الشريفة ويكتفون بما ذكره أصحاب السير في باب السيرة فحسب وهو منظور ناقص فسيرته _صلى الله عليه وسلم_ هي كل موروث صحيح عنه في المواقف المختلفة سواء كان تصرفاً أو توجيهاً.. وهذا ما فعله بعض أهل العلم الكبار حينما يذكرون سيرته _صلى الله عليه وسلم_ وأكثر نموذج يحضرني هو كتاب (زاد المعاد في هدى خير العباد) للإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله – فقد ربط فيه أيما ربط بين سيرته الشريفة وبين دروس فقهه وحديثه _صلى الله عليه وسلم_ غير أنه لم يستقص في ذلك الباب ربما لظروف تأليفه ذلك الكتاب القيم صحة الأحاديث... وهنا ننبه إلى أهمية استقصاء الحديث الصحيح الثابت في السيرة واجتناب الضعيف والمردود منها خصوصا وكتب السيرة قد تكثر بها الأحاديث الواهية، كذلك التدقيق في المواقف التي ذكرها الحديث النبوي الشريف ولم يعن بها كثير من أصحاب السير، كذلك التدقيق في الفوائد الفقهية والعملية الشرعية في المواقف المختلفة وسرد أقوال العلماء فيها وما استفادوه منها. وأخيراً فالسيرة النبوية نبع متدفق ومهم للغاية في البناء النفسي والانفعالي لأبنائنا إذا أحسنا استخدامها بطريقة منهجية موظفة.. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.