28 محرم 1434

السؤال

فضيلة الشيخ: <BR>ما حكم أكل لحم الضبع ؟ علماً أنه من الحيوانات المفترسة ذات الأنياب وآكلات الجيف.

أجاب عنها:
سليمان الماجد

الجواب

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد
فاختلف العلماء في حكم أكل الضبع على قولين مشهورين:
الأول : أنه جائز ، وهو قول جابر بن عبدالله وابن عباس رضي الله عنهم ، وعليه مذهب الشافعي وأحمد .
واستدلوا لذلك بحديث جابر رضي الله عنه أنه سئل عن الضبع أصيد هو ؟ قال : نعم ، قلت : آكلها ؟ قال : نعم ، قلت : أشيء سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم . رواه الترمذي في "سننه" (851) ، والنسائي في "سننه" (2836) ، وأبو داود في "سننه" (3801) ، وصححه جمع من المحدثين .
الثاني : أنه حرام الأكل ، وهو قول سعيد بن المسيب وابن المبارك والليث وسفيان والحسن والأوزاعي وعبدالرزاق ، ومذهب أبي حنفية وقول لمالك .
واستدلوا لذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث أبي ثعلبة : أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع .
ومن أسباب الخلاف في هذه المسألة : تعارض دلالة حديث أبي ثعلبة مع حديث جابر المذكورين .
ومن أسبابه : خلاف العلماء في قول جابر : سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يعني أنه سمع أنه صيد يُفدى ، أو أن الذي سمعه : أنه يؤكل ؟
فالحديث محتمل للأمرين ، والمانعون قالوا : إن جابراً نسب اعتباره صيداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال بالتحريم فهماً منه بأن وصف الصيد يبيح الأكل ؛ فلا يكون فهمه معارضاً لدلالة حديث أبي ثعلبة الصريح في تحريم أكل كل ذي ناب من السباع .
ومن أسباب الخلاف التردد في الضبع : هل هو سبع له طبع العدوان ؛ كالأسد والنمر والذئب ؟ وهل له ناب ؟ حتى يُطبق وصفا الحديث في النهي عن "كل ذي ناب من السباع" .
فسلم الإمام ابن القيم رحمه الله ـ الذي يرى جواز أكله ـ بأنه ذو ناب ، ولكنه لا يراه سبعاً عادياً ؛ حيث قال : ( .. فإنه إنما حرم ما اشتمل على الوصفين : أن يكون له ناب ، وأن يكون من السباع العادية بطبعها ؛ كالأسد والذئب والنمر والفهد ، وأما الضبع فإنما فيها أحد الوصفين ، وهو كونها ذات ناب ، وليست من السباع العادية ) أهـ .
وإذا كان وصف "الناب" ووصف "السبُعية" تعبدان لا يُعقل لهما معنى ؛ فالضبع سبع ذو ناب .
أما صفة السبعية والعدوانية فهي ظاهرة فيه ؛ حيث يعدو على الحيوانات مأكولة اللحم ؛ كالغزال والإيل والبقر الوحشية ؛ بل إنه يعدو على الإنسان ويأكله ، ويعدو على السباع الصغيرة أو الوحيدة فيفترسها ، وهذا ظاهر لمن تأمل سلوكه ؛ فعليه فهو مشمول بالنهي في حديث أبي ثعلبة المذكور .
وإن كان الوصفان معقولين مقصودهما أن ما فيه هاتان الصفتان فإن أغلب اغتذائه على اللحوم فيحرم فالضبع كذلك ، مع ما ينحط به عن بقية السباع بما يصفه علماء الأحياء بكونه من "المفترسات القمَّامة" أو "منظفات البيئة" التي تأكل الجيف والمنتنات .
وأما حديث جابر فلا يصح الاستدلال به لتخصيص الضبع من عموم النهي ؛ لما أورد عليه من الاحتمالات القوية في رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والاحتمال إذا ورد بطل به الاستدلال ؛ كما تقرر ذلك في الأصول .
وتأيد هذا أنه جاء الحديث من وجوه أخرى بكونه صيداً عن جابر نفسه ، وكذلك عن ابن عباس وأبي هريرة ، ولم يذكر فيها حل أكله، وذكْرُ حل الأكل أولى بالتنويه من ذكر كونه صيداً ؛ مما يؤكد أن الذي رواه جابر هو كونه صيداً يُفدى ؛ لا أنه حلال يؤكل.
وروى أحمد في "مسنده" (14137) بسنده عن عبد الرحمن بن أبي عمارٍ أنه قال: قلتُ لجابرِ بنِ عبدِ الله رضي الله عنه : آكُلُ الضَّبُعَ ؟ قال : نعم ، قلت : أصيدٌ هِي ؟ قال : نعم ، قلت : أسمعت ذلكَ من رسولِ الله ، قالَ: نَعَمْ .
ففي هذه الرواية ما يختلف عن الرواية المذكورة في أدلة المبيحين ، وذلك في في ترتيب ذكر مسألتي الصيد والأكل ؛ فجابرٌ رضي الله عنه في هذه الرواية أبدى رأيه أولاً في حل لحمه ، ثم قال له السائل : أصيد هي ؟ فقال : نعم ، وذكر أنه سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا موافق للروايات التي روى فيها جابر كونها صيداً ، ولم يرو حل أكلها .
وغاية ما دل عليه حديث جابر ما فيه أنها صيد يفدي في الإحرام ، ولا دلالة فيه على حل أكلها لهذا المعنى ، ففي مذهبي الحنفية والحنابلة أن كون الشيء صيداً يفدى ليس من شرطه حل أكله ؛ حيث يُقصد الضبع والثعلب وغيرهما بالصيد للانتفاع بجلودها .
وقد سئل الإمام أحمد عن محرم قتل ثعلباً ؟ فقال : عليه الجزاء هي صيد ، والإمام أحمد يرى حرمة أكل الثعلب ، وانظر "الإنصاف" (10/360) .
فتلخص من هذا أن المحكم هنا هو حديث أبي ثعلبة في النهي عن كل ذي ناب من السباع ، وأما حديث جابر فإن لم يُقل : لا دلالة فيه فهو مشتبه محتمل يُرد إلى المحكمات .
ولعل سبب من قال بحله من المتقدمين أن العرب كانت قبل الإسلام تأكل الضبع ، واستمر الأمر على ذلك ، إما بإقرار من النبي صلى الله عليه وسلم ، أو توقف لانتظار وحي ، ثم حُرِّم كل ذي ناب من السباع عام خيبر في السنة السادسة ؛ فقد روى أحمد في "المسند" (8724) بسنده عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حُرِّم يوم خيبر كل ذي ناب من السباع والمجثمة والحمار الأنسي ، وهو حديث ثابت ، صححه الترمذي وعبدالحق الإشبيلي وغيرهما ، ولم يطلع المبيحون على النهي ، أو فهموا من حديث جابر تخصيصه بالحل . كما ثبت عند أبي داود في "سننه" (3811) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وعن الجلالة عن ركوبها وأكل لحمها. فهل يُظن أن تُحرم الحمر الأهلية التي غالب ما تأكله مباح ، مع أن نظيرها الوحشي مباح ، أو يُحرَّم أكلُ الجلالة لحمها وشرب لبنها وركوبها ؛ لأنها تأكل القذر ، ثم لا يحرم سبع ذو ناب ؛ يأكل الجيف ، وينهش فريسته حية ويغتذي بدمها دون أن يُعتبر فيه ما يُعتبر في الجلالة من نقاء لحمها مدة كافية ؟ إلا أن يكون هذا دليلاً على أنها مشمولة بالنهي .
وقد روى أحمد في "مسنده" (21327) بسنده عن عبد الله بن يزيد قال : سألت سعيد بن المسيب عن الضبع فكرهها . فقلت له : إن قومك يأكلونه . قال : لا يعلمون . وفيه (27101) عن سعيد قوله : إن أكلها لا يحل .
وقال ابن العربي المالكي كما في "فيض القدير" (4/258) : ( .. وعجباً لمن يحرم الثعلب وهي تفترس الدجاج ، ويبيح الضبع وهو يفترس الآدمي ، ويأكله ) أهـ .
فالأظهر مما ذُكر أن الضبع محرم الأكل .
والله أعلم . وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.