تونس من الانقلاب إلى الإفلاس!
7 ذو القعدة 1428
حسام أبو جبارة

يشعر الرئيس التونسي زين العابدين بن علي بإحراج شديد ترجمته الثورة العارمة التي تقودها عدد من الصحف النظامية. وليس سبب هذا الغضب سوى كتاب صدر في طبعته الخامسة يتناول حياة الرئيس التونسي بعبارة "صديقنا بن علي"! كتاب كان يكفي أن يصل إلى أيدي المعارضة التونسية لتنشر أهم المقتطفات منه عن الرجل الذي صنع من تونس دولة بوليسية من الطراز الكبير..!
"صديقنا بن علي" ليس في الحقيقة كتابا عاديا، لسبب بسيط انه من تأليف أكبر صحفيين هما " نيكولا بو" و" جون بيير توكوا". هذا الأخير المعروف بتنقيبه الاحترافي في الوثائق القديمة لرؤساء العالم، وقد كان مؤلف كتاب عن الرئيس الفرنسي " جاك شيراك" يفضح فيه الكثير من التناقضات في سياسته إزاء العالم الثالث. لكن اليوم يتعلق الأمر بشخصية عربية تثير الكثير من الأسئلة من وجهة نظر الكتاب، وبالتالي تستحق الوقوف أمامها في هذه الأيام التي تحيي فيها "الذكرى العشرين" من حبس الشعب التونسي في قفص الوهم الديمقراطي الذي لم يعد ينطلي على 66% من التونسيين الذين عبروا عن رأيهم عبر الوسائل المتاحة "الانترنت" ونشرت صحيفة اللوموند تحقيقا عن "التطور الخيالي" كتشبيه عن الدور الذي لعبه الرئيس بن علي وزوجته وحاشيته في تعليب الدولة داخل إطار "العصا لمن عصى!" في دولة محرومة من الأوكسجين..!

جاء بن علي بنية البقاء طويلا، وربما مدى الحياة. جاء ليغير نحو مزيد من الهشاشة ومن الاعوجاج

* الدولة البوليسية المخيفة!
لعل أهم سؤال يمكن طرحه يكمن في ما يسمى بالانقلاب في تونس والذي نفذه وزير الداخلية آنذاك زين العابدين بن علي الذي استطاع أن يصعد إلى مناصب كبيرة في السلطة بفضل قدرته على "التدليس" ولأنه ـ كما جاء في الكتاب ـ استطاع أن يخدع الجميع بمن فيهم المقربين منه والذين سرعان ما تخلص منهم بأكثر من طريقة..
لم يكن الانقلاب على الحبيب بورقيبة الذي فقد وقتها أسباب بقائه، وفقد حتى مقومات "الرئيس الراشد" الذي يمكن أن يقود دولة بعد أن "بقي حاكما عليها سنوات طويلة" كادت تحوّل تونس إلى مملكة..! فالحبيب بورقيبة المعروف بمواقفه المتناقضة التي وصلت درجة التخريف في بعض الحالات، يحسب له ـ رغم كل شيء ـ أنه "قاوم المستعمر" الفرنسي وزُج به في السجن إبان الاحتلال، لكن الذي جاء من بعده " ضمن شعار التصحيح" لم يقل للشعب أنه " أقال رئيسا (خرفانا) بالقوة " وأنه لم يمنح الشعب حق تقرير المصير، بل جاء بن علي بنية البقاء طويلا، وربما مدى الحياة. جاء ليغير نحو مزيد من الهشاشة ومن الاعوجاج، ليصنع من تونس دولة منغلقة على نفسها في مجالات مهمة، ومفتوحة على العالم ضمن ما كان يريده الغرب لأجل " تأييد ديمقراطية بن علي" كديمقراطية عربية "رائدة" على حساب الحريات التي يزعم نفس الغرب أنه يدافع عنها..

وإن كان الحبيب بورقيبة قد "منع الحجاب" على سبيل المثال بمادة قانونية واحدة، إلا أن زين العابدين منعه بمواد كثيرة منعا مطلقا لا رجعة فيه، كما منع الحق في الشعائر الدينية بحرية مطلقة في اللبس و الأداء (ولم يغلق قط المعابد اليهودية المنتشرة في جزيرة جربة مثلا، و لم يمس الكنائس التي تعمل بحرية شبه عجيبة، إنما كان جل رفضه أن يكون الإسلام دينا تطبيقيا، لأن "صديقهم بن علي" قرر أن يكون الإسلام في تونس دينا نظريا فقط..!
• تاريخ شخصي مزور!
ليس هذا كلامنا، بل كلام الكتاب الذي أغضب الرئيس التونسي غضبا كبيرا لأنه حمل بين طياته حقائق لم يستطع أن يكذبها النظام أبدا، بعد إن صارت موثقة.. فكتاب " صديقنا بن علي" عرض السيرة الذاتية للرئيس التونسي بن علي، إلى درجة احتجت الخارجية التونسية عام 1999 بعبارة: "هذا لعب بالنار" لكن الغريب ألا أحد كذب فعلا تلك الحقائق التي جاءت، خاصة من قبل الإتحاد الأوربي الذي استضاف الكاتبين في ملتقى دولي، ليس هذا فقط، بل إن الممثلة البلجيكية لدى الاتحاد الأوربي عبرت عن "مخاوفها من الضغط الذي يمارسه نظام بن علي على التونسيين وحرمانهم من التعبير الحر عن أنفسهم و أفكارهم"، جاء هذا والرئيس التونسي لم يفوّت فرصة لمجاملة الإتحاد الأوربي في القول العمل، ولم تفوت فرصة لمجاملة المجتمع الغربي ككل في فتحه لحنفية الحريات التي تحوّلت إلى "انحلال" في أحيان كثيرة، مع ذلك جاءت الممثلة البلجيكية لدى الاتحاد الأوروبي لتدين القمع الذي يمارسه بن علي على الشعب التونسي وكأنها تقول له: "الحرية ليست "انحلالا" بل هي منح الشعب حقه في الحياة.."!

حدث ذلك في فترة استقبل فيها الاتحاد الأوربي عدداً من الطلبة التونسيين الذين فروا من البلاد والذين تعرضوا قبلا للتعذيب من قبل الأمن التونسي داخل السجون، كانت من بينهم الطالبة "إيمان الدرويش" التي اعتقلت لأنها شاركت في إضراب قانوني نظمته الجامعة، وتم تعذيبها واغتصابها.. تلك الشهادة كانت بمثابة القنبلة التي انفجرت دوليا و اعتبرتها وقتها مجلة "باري ماتش" الفرنسية صفعة موجعة على خد زين العابدين بن علي، بالخصوص أن تلك الشهادات لم تكن فردية، بل جماعية اشترك فيها طلبة آخرون من بينهم "زهير عيساوي" و"نور الدين الشعري" و"حمدي الملياني" الذين حكوا بدورهم عما جرى لهم في سجون زين العابدين بن علي من تعذيب واغتصاب كان الأمن التونسي يمارسه على المعتقلين والمعتقلات وعلى أهالي المعتقلين لإجبارهم على الاعتراف، وكان يتم تصوير عملية الاغتصاب للإذلال وإثارة حالة الانهيار العصبي الحاد والتي تصل إلى حد الجنون أو الانتحار."

تلك التفاصيل لم يخفها كتاب " صديقنا بن علي" بل ذهب إلى أبعد منها عندما نبش عن " البيئة" التي جاء منها الرئيس التونسي وكشف عن "الشهادات التعليمية المزورة" التي ادعى أنه يمتلكها، بحيث أن الكتاب أكد بشهادة العديد من المعاهد الفرنسية أو البريطانية أن بن علي لم يدرس فيها وبشهادة بعض المقربين منه والذين لم يذكر الكتاب أسماءهم أعلنوا أن بن علي لم ينل من التعليم أكثر من الخامسة متوسط، و أنه لم يصل إلى الثانوية حتى، مما جعل صحف فرنسية تقول عنه "بن علي الرئيس الذي صنع شهادته مثلما صنع "تاريخه المزور"..
ليس هذا فقط، بل الجانب الثوري للرئيس كان مزورا أيضا، ففي سيرته الذاتية التي نشرتها وزارة الخارجية التونسية فإن زين العابدين بن علي واحد من الثوار الذين حاربوا الاستعمار وأنه اعتقل وتعرض للتعذيب في سجون المستعمر الفرنسي، لكن "معهد التوثيق الفرنسي" الذي يملك أسماء المجاهدين الذين اعتقلوا إبان الاحتلال الفرنسي لتونس لم يعثر أبدا عن اسم زين العابدين بن علي ضمن الأسماء التي تنام في سجلاته، وقد أعلن عن ذلك بشكل صريح كشفه الكتاب مرتين بعبارة "تاريخ مزور"! و"لو أن كاتبا تونسيا كتب ذلك الكلام لتعرض للإعدام، ولكن الحقيقة جاءت هذه المرة من وراء البحر! "تلك عبارة قالها محامي تونسي معارض يعي جيدا أن زين العابدين بن علي لا ولن يستطيع أن يعدم الصحافيين أو يزج بهما في السجن، ولن يستطيع حتى تكذيب الحقائق التي جاءت في الكتاب والتي تعكس بشاعة ما يمارسه النظام التونسي (على غرار الأنظمة الشمولية المغاربة) من أعمال "البلطجة السياسية" و"يحكي أيضا عن آلاف المعتقلين السياسيين من الرجال والنساء، وعن حالات الاغتصاب الدنيئة التي تتعرض إليه المعتقلات التونسيات خاصة الفتيات منهن اللائي ادخل بعضهن إلى السجن في قضية "لن أنزع الحجاب" التي أثارتها جامعة سوسة والتي تدخلت الشرطة بعدها في اعتقالات وانتهاكات غير إنسانية ولا أخلاقية.. عشرون عاما من الحكم الأزلي الذي يذكرنا أيضا بالمعمرين من الحكام العرب القابعين على قلوب الشعب العربي الذي صار يدرك اليوم أن "موت الرئيس" لم يعد خلاصا، طالما ثمة " جمهوريات بالوراثة"، وإن كان الشعب التونسي يشكر الله أن بن علي لا يملك أولادا، وأنه لن ينصب ابنته رئيسة وقد ينصب زوجته التي تصفها صحف المعارضة في تونس " بأمنا الغولة"!