ذنوب الخلوات تذهب بالحسنات
11 ربيع الثاني 1439
د. عامر الهوشان

كما أن للعمل الصالح في السر والطاعة التي تكون بين العبد وربه ولا يعلم بها أحد من الناس "الخبيئة الصالحة"....مكانة عظيمة عند الله ومنزلة رفيعة يجد العبد أثرها وأجرها أحوج ما يكون إليها يوم القيامة فإن للذنوب في الخلوات والإصرار على مناجزة الله بالمعاصي كلما خلا بنفسه وغابت عنه أعين الناس أثرها السلبي الخطير على عبادات العبد وطاعاته وحسناته .

 

يكفي أن يصغي المسلم جيدا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يبين فيه خطر ذنوب الخلوات ومآلها الكارثي على مستقبله الحقيقي الأخروي ليدرك ضرورة الإقلاع عن هذه الآفة قبل فوات الأوان .

 

ففي الحديث عَنْ ثَوْبَانَ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ : ( لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا ) قَالَ ثَوْبَانُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا ، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ ، قَالَ : ( أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ) سنن ابن ماجه برقم/4245 وصححه الألباني .

 

قال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله : "الحذر الحذر من الذنوب خصوصا ذنوب الخلوات فإن المبارزة لله تعالى تُسقط العبد من عينه وأصلح ما بينك وبينه في السر وقد أصلح لك أحوال العلانية " صيد الخاطر ص 207 .

 

أخطر ما في ذنوب الخلوات وقوع العبد بجريرة جعل الله تعالى أهون الناظرين إليه وسقوطه في معصية تعظيم شأن الناس والخشية منهم من أن يروه على معصيته وذنبه على حساب مراقبة الله وعظمته وخشيته في قلبه , الأمر الذي قد يقدح في صدق إيمانه ويمس حقيقة يقينه بإطلاع عليه في سره كما علانيته .

 

قال ابن عباس رضي الله عنه : يَا صَاحِبَ الذَّنْبِ لا تَأْمَنَنَّ مِنْ سُوءِ عَاقِبَتِهِ وَلَمَا يَتْبَعُ الذَّنْبَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا عَلِمْتَهُ فَإِنَّ قِلَّةَ حَيَائِكَ مِمَّنْ عَلَى الْيَمِينِ وَعَلَى الشِّمَالِ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ الَّذِي عَمِلْتَهُ ........ وَخَوْفُكَ مِنَ الرِّيحِ إِذَا حَرَّكَتْ سِتْرَ بَابِكَ وَأَنْتَ عَلَى الذَّنْبِ وَلا يَضْطَرِبُ فُؤَادُكَ مِنْ نَظَرِ اللَّهِ إِلَيْكَ أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ إِذَا عَلِمْتَهُ ..... ) حديث موقوف / حلية الأولياء برقم/1180 

 

ومن هنا يمكن فهم عقوبة إحباط أعمال صالحة ونسف عبادات وطاعات كجبال تهامة وجعلها هباء منثورا كجزاء على ذنوب الخلوات كما جاء في حديث ثوبان رضي الله عنه إذ الأمر هنا يتعدى حدود مجرد الذنب العابر إلى عتبة النفاق و داء ومستنقع الرياء في الأعمال .

 

الوصف النبوي الدقيق لسمت وحال أؤلئك يجعلهم أقرب إلى المنافقين بأعمالهم المرائين بطاعاتهم منهم للمخلصين المبتغين وجه الله تعالى بها , والدليل على ذلك أنهم "إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها", والانتهاك قرين الاستحلال والأمن من مكر الله وعقوبته , وهو ما يتنافى مع حال المؤمن الذي وإن غلبت عليه شهوته وأوقعته بالمعصية والذنب فهو لا يعصيه مستحلا نواهيه و زواجره وإنما يعصيه تحت وطأة غلبة الشهوة وهزيمته أمام إغوائها وإغرائها , وضعف ارتقائه لمقام الإحسان  وحسن مراقبة مالك الأكوان . 

 

لا شك أن تحذير المؤمن من الوقوع في ذنوب الخلوات والظهور بمظهر العابد الناسك أمام الخلق والناس بينما ينتهك محارم الله في خلواته ويتجرأ على معصيته حين يكون وحده....لا يعني أن المجاهرة بالذنوب وإعلان المعصية واقترافها أمام أعين الناس دون حياء وخجل منهم أو خوف وخشية من الله مسموح به في دين الله , فالمجاهر بالمعصية أمام إثمين : إثم المعصية ذاتها وإثم المجاهرة بها .

 

ففي الحديث الصحيح عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلَانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ ) صحيح البخاري برقم/6069

 

إن من سمات أصحاب النفوس الطاهرة والقلوب النقية والأفئدة التقية استواء سريرتهم وعلانيتهم , فحالهم أمام الناس كحالهم في خلوتهم , وخشيتهم من الله في الظاهر كخشيتهم منه في الباطن , لا يفسدون طاعات العلانية بمعصية السر ولا يحبطون أعمالهم الصالحة الظاهرة بذنوب الخلوات الخفية .

 

قال مُطَرِّف بن الشِّخّير: "إذا اسْتَوَتْ سريرة العبد وعلانيته؛ قال الله عزَّ وجلَّ : هذا عبدي حقًّا" .

 

قد لا تكون عقوبة ذهاب الحسنات الكثيرة وإحباط الأعمال الصالحة الوفيرة يوم القيامة هي الجزاء الوحيد لمقترفي ذنوب الخلوات , فهناك التهديد بعقوبة دنيوية عاجلة قد تكون رادعة للمبتَلين بهذا الداء ألا وهي الفضيحة في الدنيا بإظهار ما أسروه وكشف ما أخفوه عن أعين الناس فقد ورد في الأثر عن عثمان رضي الله عنه أنه قال : ما أسَرَّ عبدٌ سريرة إلا أظهرها الله على قَسَماتِ وجهه وفلتات لسانه إن خيرًا فخير وإن شرًا فشَرٌّ .