حبُّ الدنيا والإقبال على الشَّهوات
30 ربيع الأول 1439
د. صفية الودغيري

من شغف حبًّا بما جُمِع بين أيدي الناس، وألهاه حبُّ الدُّنيا والإقبال على الشَّهوات، غرق في بحر من الأهواء، وذهبت ريحه في كلِّ اتِّجاه، وتجاذبته العلل ولازمته الأسقام، وران على قلبه الرَّان، وصدئ كما يصدأ الرِّتاج، وخبا وهج بصيرته بالغفلات، وغرَّته الدُّنيا ببارقها ومباهجها، وانتشى بما يصيبه من روائحها، وما يجده من الانبساط في رحابها، فصار كمن يطلب الماء في كفٍّ خانته فروج أصابعه، لا يذكر من وروده عليها مصادرها ولا مواردها، حتى أدركته المنِيَّة بفجائعها ومواجعها، وسقاه مورد الموت سمَّه النَّاقع، فسقط في مراتِع التَّهلكة، ومبارِك  القذَر والعُرَّة، وانتقل من غضارة العيش والنَّعيم إلى الرُّفات، فصار تحت الثَّرى والتُّراب، وانجلى عن بصيرته الغطاء، وانقضى ما كان له في زمن الملذَّات والمسرَّات، وانفضَّ عنه مجلس الإخوان والأهل والأصحاب، وانكشف ما سوَّد صحيفته من الذُّنوب والآثام، بعد فوات فصول البِذار والغِراس .

 

وصدق الحق سبحانه وتعالى حين قال: ﴿حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ۚ كَلَّا ۚ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ۖ وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)[1] .

 

فما الدُّنيا إلا دارُ من لا دارَ له، وزهرة الحياة وسلوتها، وهي لا تدوم لأحد، وكلُّ ما فيها إلى زوال وفناء، ولا يسلم من شرِّها إلا من سلَّم نفسه لأمر الله فكفاه، واحتمى بحصن الإيمان فوقاه، وصدق يقينه بالإخلاص، وهي لا ترمي بسهامها وتقصم بحمامها إلا من أمن ما فيها من سرور ورخاء، وانخدع بما له فيها من حظٍّ موفور ونعيم ومتاع .

 

فطوبى لمن كان وصيَّ نفسه وأمينا عليها، ولم يكن أهل الدُّنيا أوصياءه وأمناءه، وكان أزهد في الدُّنيا وأرغب إلى الآخرة وأحرص عليها، وطوبى لمن ملك الدُّنيا بالرِّضا والقناعة، ولم تملكه بالغرور والجشع وطلب الزِّيادة، وتزيَّن للدُّنيا بلباس الذُّل والخشوع، والخوف والتَّقوى، ولم يتزيَّن لها بلباس أهل التَّرف والطَّمع والشُّهرة ..

 

 وطوبى لمن كان عمله  الصالح ذخرا له في معاده، منافسا غيره في الإقبال على فعل الخيرات، ومتيقِّظا في ساعات التِّيه، والانفلات، وفساد الأخلاق، حذرا من الفتن والشَّهوات، وطامحا إلى القرب من الله بالخشية والطاَّعات ..

 

وقد حذَّر الحقُّ سبحانه عباده من الرَّكض خلف الملاهي والتَّسالي بلا ضرورة ولا احتياج، والغفلة عن الذِّكرى والاتِّعاظ، والأمن من مكر الله والعقاب، فقال تعالى: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) [2] .

 

وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5)[3] .

 

فالدُّنيا نِعْمَ الدَّار لمن طلبها عن طريق الحلال، ليصل أهله ورحمه وذويه، ويبرَّ بهم وينصف في أداء حقوقهم، ويقدِّم ما يحفظ دينه ونفسه وعرضه، ويأخذ منها بقدر ما يلبِّي حاجاته ورغباته وملذَّاته التي أحلَّها الله له ..

 

والدُّنيا نِعْمَ الدَّار لمن تزوَّد فيها بالأعمال الصَّالحات، واكتسب فضائلها وطلب غنائمها، ففاز بالجنَّة ونعيمها ..

 

والدُّنيا لا تغرُّ وَتخدع إلا من أصمَّه حبُّها، وَأعماه اللُّهاث خلفها، ومن لم يصغ لنداء الحق، فصَدَّ قلبه وعقله وجوارحه عن الاعتبار بمواعظها، ولم يبصر معايبها وما تُبْديه نقائصها، ولم يتعلَّم من دروسها وعبرها، ولم يحذر مصارع الهَلْكى، وتقلُّب أحوالها من الصِّحَّة إِلى السَّقَم، ومن الشَّبيبة إِلى الشَّيخوخة والهرم، ومن الغنى إلى الفقر، ومن العزِّ  إِلى   الذُّل ..

 

فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه: (إنَّ الدُّنيا حُلْوةٌ خَضِرةٌ، فمَن أخذها بحقِّها بُورِك له فيها، ومَن أخَذها بغيرِ حقِّها فمَثَلُه كالذي يأكُل ولا يشبَع، وَيْلٌ للمُتخوِّضِ في مال الله ومال رسوله مِن عذاب جَهنَّم يومَ القيامة)[5].

 

وذكر أنَّ عليًّا سمع رجلا يسبُّ الدُّنيا، فقال: (إنَّها لدارُ صِدق لمن صدَّقَها، ودارُ عافية لمن فهمَ عنها، ودارُ غنى لمن تزوَّدَ منها، مسجدُ أحبَّاءِ اللَّه، ومهبطُ وحيه، ومُصلَّى ملائكته ومتجر أوليائه، واكتسبوا فيها الرَّحمة وربحوا فيها الجنَّة، فمن ذا يذمُّ الدُّنيا وقد آذنت بفراقها ونادت بعيبها، ونعت نفسها وأهلها فمثَّلت ببلائها البلاء، وشوَّقت بسرورها إلى السُّرور، فذمَّها قوم عند النَّدامة، وحمدها آخرون حدَّثتهم فصدَّقوا، وذكَّرتهم فذُكِّروا، فيا أيُّها المغترُّ بالدُّنيا المغترُّ بغرورها، متى اسْتَلامت إليْكَ الدُّنيا، بل متى غرَّتْك أبمضاجع آبائك من الثَّرى، أم بمصارع أمَّهاتك من البِلى، كم قد قلَّبت بِكفَّيْكَ ومرَّضتَ بيديك، تطلب لَه الشِّفاء وتسأل له الأطبَّاء، فلم تظفر بحاجتك ولم تُسعَفْ بطلبتك، وقد مثَّلت لك الدُّنيا بمصرعه مصرعَكَ غدا، ولا يغني عنك بكاؤك ولا ينفعك أحبَّاؤك) [6] .
 
وعن حسَن بن صالح، أَنَّه كان يتمَثَّل هذين البيتين [7] :

فما  لك يومَ الحَشْر شيْءٌ سوى الَّذي ..   تَزوَّدته يوم الحياة إِلى الحَشْر
إذا أنت لــم تزرع وأَبْصَــرْتَ حاصِـــدًا   ..  نَدِمْتَ على التَّضييع في زمن الْبَذْرِ

وقال يحيى بن معاذ: (لو يسمع الخلائقَ صوت النِّياحة على الدُّنيا في الغيب من ألسنة الفناء، لتساقطَتِ القلوبُ منهم حزنًا) [8].
وقال بعض الحكماء: (الدُّنيا أَمْثَالٌ تضربُها الأيام للأنام، وعِلْم الزَّمان لا يحتاج إِلى تُرْجُمان، وبِحُبِّ الدُّنيا صُمَّتْ أسماع القلوب عن المواعظ، وما أَحثَّ السَّائق لو شعَر الخلائق) [9].
 

[1]  سورة المؤمنون

[2]  سورة الأنعام

[3]  سورة فاطر

[4]  ذم الدنيا/ لأبي بكر عبد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان بن قيس البغدادي الأموي القرشي المعروف بابن أبي الدنيا (ت 281هـ) ـ دراسة وتحقيق:  محمد عبد القادر أحمد عطا ـ مؤسسة الكتب الثقافية الطبعة الأولى: (1414 هـ - 1993 م)  : ص 56

[5]  أخرجه ابن حبان في صحيحه، من طريق خولة بنت قيس/ رقم الحديث: ( 4512) و(2892)، والطبراني في المعجم الأوسط من طريق خولة بنت قيس/ رقم الحديث: (281/5)، ومن طريق أم سلمة/ رقم الحديث: (188/8)، والألباني في السلسلة الصحيحة/ رقم الحديث: (1592 )، وخلاصة حكم:  إسناده صحيح بنحوه.

[6]  جامع العلوم والحكم في شرح خمسين حديثا/ عبدالرحمن بن رجب الحنبلي ـ المحقق / المترجم: شعيب الأرناؤوط وآخرـ  مؤسسة الرسالة - بيروت الطبعة الأولى:( 1411هـ): 2 / 194

[7]  الإشراف في منازل الأشراف/ ابن أبي الدنيا (ت 281هـ)  ـ المحقق: د. نجم عبد الرحمن خلف ـ مكتبة الرشد : الرياض ـ السعودية ـ الطبعة الأولى، 1411هـ 1990م: ص 112

[8]  جامع العلوم والحكم: 2 / 195
[9]  المصدر نفسه : 2 / 195