إعصار هارفي.. والرياء
5 ذو الحجه 1438
أمير سعيد

في سويعات، بلغت خسائر ولاية تكساس الأمريكية أكثر من أربعين مليار دولار وفقاً لتقديرات أولية عن إعصار هارفي الذي ضرب الولاية.

 

الرصد الجوي والراداري المبكر لم يفلح في تقليل الخسائر دون هذا الحد، فكل ما يملكه البشر إزاء مثل هذه الكوارث الكبرى هو الإفلات الشخصي منها مع ما خف وزنه وأمكن حمله ونقله. لم يكن بالإمكان نقل مبانٍ ومنشآت فأتلفها إعصار هارفي الذي تكون من سحب جاءت من إفريقيا وتجمعت في المحيط الهادئ والتأمت في إعصار من الدرجة الرابعة انطلق إلى خليج المكسيك غازياً ولاية تكساس الجنوبية بسرعة تبلغ نحو 215 كم/س. 

 

بنيت هذه المنشآت في سنوات وعقود، ثم بلحظة كانت ركاماً، تماماً مثلما ينفق المرء عمره في بناء طموحات وتطلعات كبيرة، ثم ينسفها بعمل سيء أو يختمها برياء في لحظة لا ينفع فيها ندم ولا أوبة.

 

تلك المقاربة، أطلت صورتها مع رؤية الإعصار، حين يستدعي العقل هذه الصورة، وذاك المثال الذي ضربه الله سبحانه وتعالى في كتابه لإحباط الأعمال وانهيار طموحاتها في لحظة، في قوله عز وجل: { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } (266) البقرة. هذا المثال الذي ضربه الله سبحانه وتعالى لأولئك الذين يبنون قصوراً في الرمال، إنفاق للأموال في رياء وسمعة، أو إهدار أعمال صالحات بخاتمة سيئة، كمثل هذا المسن العجوز الذي أحيط بظروف ثلاثة، كما يقول الشيخ الشعراوي رحمه الله: " إننا أمام رجل محاط بثلاثة ظروف. الظرف الأول: هو الجنة التي فيها من كل خير. والظرف الثاني: هو الكبر والضعف والعجز عن العمل. والظرف الثالث: هو الذرية من الضعفاء. فيطيح بهذه الجنة إعصار فيه نار فاحترقت، فأي حسرة يكون فيها الرجل؟ إنها حسرة شديدة. كذلك تكون حسرة من يفعل الخير رئاء الناس".

 

إن المشهد الذي صورته الآية الكريمة يأخذ العيون باتجاه الصلة الحقيقية بين النية والعمل، والعمل وخاتمته، ففي فساد هذه النوايا وتلك الخواتيم يحبط العمل تماماً وتضيع الحياة هباء، يقول الإمام الطبري رحمه الله: " يقول (أي معنى الآية): فكذلك المنفق ماله رياء الناس، أطفأ الله نوره، وأذهب بهاء عمله، وأحبط أجره حتى لقيه، وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله، حين لا مستعتب له، ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة، واضمحل عمله كما احترقت الجنة التي وصف - جل ثناؤه - صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذريته أحوج ما كان إليها فبطلت منافعها عنه".. تلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه الآية ثم قال: "هذا مثل ضرب للإنسان يعمل عملا صالحا، حتى إذا كان عنده آخر عمره أحوج ما يكون إليه، عمل عمل السوء".. إن عظم الأعمال وبهاءها لا ينبغي أن يذهل النفس عن أصلها، نوايا أصحابها وخواتيمها، فليست العبرة بما يخطف العين بعظمته وكثرته وإنما بما يبقى ويدوم؛ فذاك بستان من كل الثمرات تجري من تحته الأنهار، لم تطفئ نار إعصار مدمرة، أحرقته بغمضة عين، وتلك حبة وحيدة صالحة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء.

 

لا يطلع على النوايا إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يعلم الخواتيم سواه عز وجل، ولهذا كنا بحاجة لمثال يقرب المعنى الغيبي لإحباط الأعمال بناء على فساد النوايا أو الخواتيم، وقد كان بالآية الكريمة، التي نستحضرها مع هذا المشهد لإعصار دمر المنشآت وغزا اليابسة - ولو لم يكن محرقاً كما إعصار الآية - هذا التدمير وتلك الخسائر والحسرات، تشبه تلك التي تغمر المرء حين تنتهي حياته هباءً وعبثاً برياء أو بخاتمة سوء.