الوهابية في مواجهة غلاة التكفير
9 شعبان 1438
د. عبدالعزيز بن محمد آل عبداللطيف

طالما افتروا الكذب على دعوة الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - فاتهموا دعوته بتكفير عموم المسلمين، فلا يكاد يحصى عدد الذين سوّدوا هذا البهتان في مراسلات ومؤلفات[1]! والرزية أن هذه الكذبة الصلعاء تولى كبرها بعض المعاصرين للشيخ الإمام من المنتسبين إلى العلم في نجد، كابن سحيم مثلاً، والذي كان مصدقاً بهذه الدعوة، ومقرراً صحتها ثم سرعان ما انقلب على عقبه! فاتهم الدعوة الوهابية بتكفير المسلمين، ثم بَعَث إلى علماء الأحساء والحجاز والعراق بهذه الفرية، وزيّن لهم الرد والتكذيب على الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، ثم إن هذه الكذبة ظهرت واستفحلت والدعوة في بداياتها في العيينة[2]، حتى إن أحمد البصري الشهير بالقباني كتب مجلداً ضخماً بعنوان: «فصل الخطاب في رد ضلالات ابن عبد الوهاب»، يزيد عن مئتي ورقة، وهي جواب عن رسالة ابن سحيم التي تكرر فيها طلبه الرد على الشيخ الإمام سنة 1157هـ[3].

 

 

وقد تعددت أجوبة الشيخ عن تلك الدعوى، وخلاصتها في قوله: «سبحانك هذا بهتان عظيم»[4]. وربما قال: «الذي نكفّر الذي يشهد أن التوحيد دين الله ودين رسوله، وأن دعوة غير الله باطلة، ثم بعد هذا يُكفِّر أهل التوحيد»[5]. وخاطب أحدَ علماء العراق فقال: «ما ذكرتم أني أكفّر جميع الناس إلا من تبعني.. يا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل، هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف أو مجنون؟»[6].

 

ومهما يكن فإن شبهة التكفير هاهنا لا تنفك عن ملابسات مهمة لا بد من استصحابها، فمن خلال تتبع آراء علماء نجد قبل الدعوة فإن نجداً قد اعتراها شطحات المتصوفة وشكوك المتكلمة[7]، والصوفية وأهل الكلام يجمعهم أن غاية التوحيد عندهم هو إثبات أن الله هو الصانع، وشهود الحقيقة الكونية، والإقرار بربوبية الله وحده[8]، فلم يرفعوا بتوحيد العبادة رأساً، مع أنه غاية دعوة المرسلين وأول واجب على كل مكلف، بل جزم الشيخ الإمام أن علماء العارض - بمن فيهم الشيخ نفسه - لا يعرفون معنى لا إله إلا الله، قبل ظهور هذا الخير، وقبول هذه الدعوة![9].

 

حتى إن الشيخ الإمام ساق رسالة للشيخ عبد الله بن عيسى - وهو أجلّ علماء نجد - يعترف فيها بجهله بتوحيد العبادة كما في مقالته: «عباد الله لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله، وتلطّخ بالشرك وهو لا يشعر، فقد مضى أكثر حياتي ولم أعرف من أنواعه ما أعرفه اليوم»[10].

 

وإذا استبان أن القوم لا يفقهون من التوحيد إلا توحيد الربوبية، فبطبيعة الحال سيغيب عنهم إفراد الله تعالى بالعبادة، ويظهر فيهم الشرك في توحيد العبادة، فإن الذي يذبح لغير الله، أو يستغيث بالأموات لا يعدّ صنيعه شركاً مخرجاً من الملة عند أولئك القوم ما دام أنه يعتقد أن النفع والضر بيد الله تعالى![11] ومثال ذلك أن داود بن جرجيس يزعم أن دعاء الأموات والذبح والنذر لغير الله ليس بشرك![12]

 

ومن ثم فلا يُستغرب أن يتهم أولئك الخصوم هذه الدعوة بالتكفير لاسيما أن هذه الدعوة المباركة ذات سلطة شرعية، ولها شوكة وقوة وجهاد، فأجرت أحكام الشرع المنزل على الواقع الملائم، وحكمت على أشخاص وبلدان بالشرك بعد بيان المحجة وإقامة الحجة.

 

بينما خصوم الدعوة لم يستوعبوا توحيد العبادة وما يضاده في الأذهان، فضلاً عن تحقيقه في عالم الواقع والأعيان!

 

والحاصل أن من طالع تراث هذه الدعوة بعلم وعدل أيقن بتهافت هذه الفرية، وكما قال العلامة السهسواني (ت 1326هـ): «إن الشيخ وأتباعه لم يكفروا أحداً من المسلمين ولقد لقيتُ غير واحد من أهل العلم من أتباع الشيخ، وطالعت كثيراً من كتبهم، فما وجدتُ لهذه الأمور أصلاً وأثراً، بل كل هذا بهتان وافتراء»[13].

 

وعلّق الشيخ محمد رشيد رضا (ت 1354هـ) على كلام السهسواني فقال: «بل في هذه الكتب خلاف ما ذكر وضده، ففيها أنهم لا يكفّرون إلا من أتى بما هو كفر بإجماع المسلمين»[14].

 

ثم إن لعلماء الدعوة مواقف حازمة واحتساباً صارماً تجاه الغلاة في التكفير، كما في الشواهد التالية:
• حذّر الشيخ عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب (ت 1285هـ) من بعض الأفغان القادمين على نجد، من أنهم يرون رأي الخوارج، ومعهم غلو في التكفير[15].

 

واحتسب على رجل يغلو في التكفير، ويكفّر بأشياء لم يكفّر بها أحد من أهل العلم[16]، وغلّظ الشيخ عبد الرحمن بن حسن على أحد المنتسبين إلى العلم، ممن تلبس بمذهب الخوارج من حيث لا يشعر، فقال: «والمقصود بيان حال صاحب الورقة، وأنه قال بقول الخوارج، المخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، فكفّر المسلمين بدعوى ادّعاها، لعلة اختلقها، أو تلقاها ممن لا يعتمد عليه»[17].

 

• وأما العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن (ت 1293هـ) فقد ابتلي بمخاطبة ومحاورة غلاة التكفير، كما وقع سنة 1264هـ حيث شاهد العلامةُ عبد اللطيف رجلين فارسيين بالأحساء قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفّرا أهل الأحساء، فأحضرهم العلامة عبد اللطيف، وأغلظ لهم القول، وكشف شبهتهم، ودحض ضلالاتهم، فأظهرا التوبة، ثم عادا إلى تكفير عموم المسلمين[18].

 

وفي مشهد آخر: سطّر العلامة عبد اللطيف رسالة طويلة إلى أحد غلاة التكفير[19]، حيث تأوّل المخاطب آية: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} [محمد: 26] على ما يقع من أمراء ذلك الوقت من مكاتبة أو مصالحة أو هدنة لبعض ملوك الشرك، فتوهم المذكور أن مجرد مصالحة أو مكاتبة الكفار تعد ردة عن الملة، ومظاهرة للكفرة، فتعقبه العلامة عبد اللطيف بأن عليه أن ينظر في سياق الآية وأولها، حيث قال عز وجل: {إنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد: 25]،[20]، فليست كل مكاتبة موالاة للكفار، وليس مطلق الطاعة لهم ردة عن الملة.
• ولما حصل لبس وغلط في المراد من الناقض العاشر[21] من نواقض الإسلام التي ذكرها الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب، بيّن الشيخ ابن سحمان (ت 1349هـ) أن المراد بالإعراض هاهنا هو الإعراض عن تعلم أصل الدين الذي يدخل به الإنسان في الإسلام، لا ترك الواجبات والمستحبات[22].

 

وقال - رحمه الله -: «هذا المعرض هو الذي لا إرادة له في تعلم الدين ولا يحدث نفسه بغير ما هو عليه، بل هو راض بما هو عليه من الكفر بالله والإشراك به، لا يؤثر غيره، ولا تطلب نفسه سواه»[23].

 

• ولما وقع من بعض الإخوان في عهد الملك عبد العزيز نوع لبس وغلط فظنوا أن مطلق مصالحة الكفار يعد موالاة محرمة؛ عندئذ راسلهم العلامة الفقيه عبد الله العنقري (ت 1373هـ)، فكان مما سطّره:

 

«بلغنا أن الذي أشكل عليكم أن مجرد مخالطة الكفار ومعاملتهم بمصالحة ونحوها، وقدومهم على ولي الأمر لأجل ذلك أنها هي موالاة المشركين المنهي عنها في الآيات والأحاديث، وربما فهمتهم ذلك من (الدلائل) التي صنّفها الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ، ومن (سبيل النجاة) للشيخ حمد بن عتيق».
 إلى أن قال: «معرفة سبب التصنيف مما يعين على فهم كلام العلماء فالمراد به موافقة الكفار على كفرهم، وإظهار مودتهم، ومعاونتهم على المسلمين والإمام وفقه الله [الملك عبد العزيز] لم يقع في شيء مما ذكر، فإنه إمام المسلمين، والناظر في مصالحهم، ولا بد له من التحفظ على رعاياه وولايته من الدول الأجانب»[24].

 

والملاحظ في أكثر الوقائع السابقة أن هؤلاء الذين تلبّسوا بالغلو إنما كان ناشئاً عن سوء الفهم لكلام أئمة الدعوة، وهذا واقع يتكرر في هذه الأيام، فإن القوم لم يعقلوا تقريرات الشيخ الإمام في هذه المسائل، لم يفهموا مراد صاحب رسالة «الدلائل» و«النجاة والفكاك» وملابسات تأليفها، كما أن بعضهم يحتج بـ«مجموعة التوحيد» وهو لا يعرف مقصودها[25].

 

ثم إن النَفَس الغالي لا ينفك عن مغالطة وتسوية بين المختلفات، فالقوم خلطوا وسوّوا بين موالاة الكفار المحرمة وبين التعامل معهم الجائز بمصالحة أو هدنة ونحوها.

 

وأخيراً فإن مواقف وردود علماء الدعوة على غلاة التكفير، لم تشغلهم عن الردّ على من أعرض عن التوحيد، وعكف على الشرك، فهم ينزّلون المسائل منازلها، ويراعون مراتب الشرور، فإن غاية من غلا في التكفير أن يكون خارجياً مارقاً، لكن من غلا في المخلوقين فعبدهم من دون الله فإنه يصير مرتداً كافراً.

 

ثم إن ما كان مشتبهاً موهماً من عبارات بعضهم، فإنه يرد إلى ما كان محكماً بيّناً كما هو سبيل المحققين والمنصفين.

 

ومن ذلك أن بعض المعاصرين اتهم الشيخ عبد الرحمن بن حسن بتكفير الأشاعرة، واحتج بعبارة موهمة، وعند التحقيق فإن عبارة الشيخ في تكفير الذين جوّزوا عبادة غير الله تعالى، وأما متكلمة الأشاعرة فقد نصّ على أنهم ليسوا من أهل السنة - في موضع آخر[26] - فلم يكفرهم كما ظنه المتخرصون، ولما ذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن عقيدة ابن حجر الهيثمي قال: «عقيدته عقيدة الأشاعرة النفاة للصفات، وفي كلامه حق وباطل»[27]، بل إن من شيوخ الشيخ عبد الرحمن بن حسن: الشيخ حسين بن غنام الأحسائي، ولديه تمشعر في الكلام الإلهي، وقد تعقبه تلميذه عبد الرحمن بن حسن[28]، واحتفى بسائر تقريراته وأشعاره في مواطن عديدة.
 

 

ـــــــــــــــــــ

[1] ينظر: دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب لعبد العزيز آل عبد اللطيف ص210 - 219.
[2] ينظر: المرجع السابق ص55 - 219، وبحوث وتعليقات في تاريخ السعودية لعبد الله العثيمين ص91 - 113.
[3] ينظر: المرجع السابق ص55 - 219، وبحوث وتعليقات في تاريخ السعودية لعبد الله العثيمين ص91 - 113.
[4] ينظر: مجموعة مؤلفات الشيخ 5/11، 12، 48، 100.
[5] مجموعة مؤلفات الشيخ 5/48.
[6] مجموعة مؤلفات الشيخ 5/36.
[7] ينظر: فصل: علم الكلام عند علماء نجد، وفصل: التصوف عند علماء نجد من كتاب: مسائل الاعتقاد عند علماء نجد قبل الدعوة الإصلاحية للكاتب ص45، 103.
[8] ينظر: التدمرية لابن تيمية ص142، 143.
[9] ينظر: مجموعة مؤلفات الشيخ 5/186، 187.
[10] مجموعة مؤلفات الشيخ 5/193.
[11] ينظر: تفاصيل أقوال خصوم الدعوة في كتاب دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ ص251 - 257.
[12] ينظر: تفاصيل أقوال خصوم الدعوة في كتاب دعاوى المناوئين لدعوة الشيخ ص251 - 257.
[13] صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان ص 518.
[14] صيانة الإنسان عن وسوسة دحلان ص 518.
[15] ينظر: مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 4/368، والدرر السنية 3/221، 225.
[16] ينظر: الدرر السنية 11/309.
[17] الدرر السنية 8/271.
[18] ينظر: الدرر السنية 1/467، 468.
[19] ينظر: الدرر السنية 1/466 - 485.
[20] ينظر: الدرر السنية 1/476.
[21] هو الإعراض عن دين الله تعالى لا يتعلمه ولا يعمل به.
[22] ينظر: الدرر السنية 10/473، ومنهاج أهل الحق والاتباع لابن سحمان ص63، 64.
[23] إرشاد الطالب لابن سحمان ص11.
[24] الدرر السنية 9/157، 158 = باختصار.
[25] ينظر: رسالة الشيخ عمر بن سليم، الدرر السنية 9/168.
[26] ينظر: الدرر السنية 11/239.
[27] الدرر السنية 3/225.
[28] ينظر: الدرر السنية 3/227.

 

المصدر/ مجلة البيان