القراءة .. حياةٌ مُضاعفَة
3 رجب 1438
د. صفية الودغيري

القراءة حياةٌ، وأيَّةُ حياةٍ هي تلك التي تَغْمرُك بمَشاعِر الصِّدْق مع الذَّات والآخَر، والإِخْلاصِ للكلمة والمعنى المُراد، وأيَّةُ حياةٍ هي تلك التي تهَبُك ضِعْفَ السَّاعاتِ التي تَمْضي بلا عَدٍّ ولا حِساب، وتُساوي في حِساب الإنْسانِيَّة لقاءً فَريدًا للأَرْواح وإنْ فصَلتْها حُدود الزَّمان والمَكان، وميقاتُ الفُصول والأيام ..

 

 

فالكتاب آمَنُ جَليس، وأَسرُّ أَنيس، وأَسْلَم نَديم، وأَفْصَح كَليم، وقد وصَفه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ فقال : " الكتاب نِعْمَ الذُّخْر والعقدَة، ونِعْمَ الأَنيس ساعَة الوحدة، ونِعْم القَرين، والدَّخيل، والوزير، والنَّزيل " [1] .

 

 

وقال : " والكتاب وعاءٌ مُلئ عِلمًا، وظرفٌ حُشِي طُرَفًا، إنْ شِئْتَ كان أَبْيَن من سحبانِ وائِل[2]، وإنْ شِئْتَ كان أَعْيا من باقِلٍ[3]، وإنْ شِئْتَ ضَحِكتَ من نَوادِرِه، وعَجِبت من غَرائِب فَوائِدِه، وإنْ شِئْتَ شَجتك مَواعِظُه، ومَنْ لك بواعِظٍ مُلْهٍ، وبزاجِرِ مُغْرٍ، وبناسِكٍ فاتِكٍ، وبناطِقٍ أَخْرَس، وبشَيْئٍ يَجْمَع لك الأَوَّل والآخِر، والنَّاقِص والوافِر، والشَّاهِد والغائِب، والحَسَن وضِده .." [4] .

 

 

وعن أبي العباس أحمد بن محمد بن مسروق قال : قرأت في كتاب :

نِعْمَ المُحَدِّثُ والرَّفيقُ كتابُ    تَلْهو به إن خانَك الأَصْحابُ

لا مُفْشِيًا للسِّر إنْ أَوْدَعْتَه    ويُنالُ منـه حكمـةٌ وصَـوابُ

 

 

1 ـ القِراءَة النَّافِعَة المُثْمِرَة ..

إنَّ القِراءَة النَّافِعَة المُثْمِرَة هي فَنٌّ يُحرِّك وِجْدانَ القارئ، فيَخْفِق صَدْرُه بالمَشاعِر الإِنْسانِيَّة النَّبيلَة، حتى يصير لا شيء آثَر من كُتبه، ولا أَشْرَح لصَدْرِه من قراءَتِها، ولا أبْلَغ تَأثيرًا في نفسه من اتِّحاد أنفْاسِه بأنْفاسِها، حين يُرْسِل العِنان لمَلكاتِه في القراءَة، ويَبْسط لسانَه في حديثٍ شائِقٍ ماتِع يعمُّه الوِفاق والانْسِجام، يُنْبِئ عن حُبٍّ أَخَّاذ وشَغَفٍ بمَنافِع كُتبه العَميمَة ومَفاخِرها العَظيمَة، كأنَّها جُزْءٌ لا يَنْفصِل عن بَقِيَّة أَجْزائِه، ووَرقة قد تَعلَّقَت بأَوْراقِ فُصولِه فصارت شجرةً باسِقَة ووارِقَة الظِّلال، أو فكرة اتَّحَدَت بنَسيجِ أَفْكارِه، فتَوحَّدَت الأفكار وانْتَظمَت في عِقْدِ المَعاني، وتَراصَّت في اتِّساقٍ غجيب، اهْتَزَّ له النَّبْضُ والجِنان طَروبًا بما يَسْري إلي روحِه ويَتَدفَّقَ في عُروقِه، فيُحْيي بداخله ما أماتَتْه الغَباوَة والإِهْمال، ويُجَدِّد ما تقادَم وانْدثَر وحَجَبه النِّسْيان .. وما أحسن ما قالَه عبد الله بن المعتز يصِف الكِتاب وما يُقَدِّمه للقارئ : <<الكتابُ والِجٌ للأبواب، جَريئٌ على الحِجاب، مُفْهِمٌ لا يَفْهَم، وناطِقٌ لا يتكلَّم، وبه يشخص المُشْتاق إذا أَقْعَدَه الفِراق، أما القلم فمُجَهِّزٌ لجُيوشِ الكَلام، يَخْدُم الإِرادَة ولا يَمَلُّ من الاسْتِزادَة، ويَسْكُت واقِفًا ويَنْطِق سائِرًا على أرضِ بَياضِها مظلمٌ وسَوادُها مُضيءٌ، وكأنَّه يُقَبِّل بساطَ سُلْطان، أو يَفْتَح بابَ بُسْتان >> [5]  .

 

 

والقِراءَة النَّافِعَة المُثْمِرَة هي فَنٌّ يَنْهَض بالفِكْر والثَّقافَة، ويَرْتَقي بمُسْتَوى المَنْطِق والتَّعْبير، والفَهْم والذَّوْق، عَبْر وَسيطٍ من الإِحْساس الشَّفيف، يَصِلُ العَيْن التي تُبْصِر والشَّفة التي تُلامِس السُّطور، فتُشْرِق البصيرَة وتُنْطِق الحوار الصَّامِت، وتَكْشِف المَسْتور في لحَظاتِ التَّأَمُّل واسْتِحْضار الذِّهْن لطاقَةِ التَّفكير واسْتِجماع القلب، فيصبح القارئ قادِرًا على أنْ يَصْنَع مُكَوِّنًا ثقافِيًّا، وواقِعا ثقافِيًّا مُخْتلفًا عن واقع أولئك الذين لا يمارسون الثقافة، ولا يُدْرِكون ما أَدْركَه من المَبادئ العِلْميَّة والمَلكات العَقْليَّة، والخِبْرات الحَياتِيَّة التي تَحْتَويها القراءة احْتِواءً كامِلاً ..

 

 

ويصبح القارئ ذا رُؤى تَحْليليَّة وتأَمًّلات نَقْديَّة تُحَرِّك حَواسَّه الخَمْس، وتوقِظ ذاكرته في الماضي والحاضر، وتَدْعوه ليتمرَّد على الفكرة الواحدة والرأي الواحد، والمُضِي في طَريقِه على هُدى وبصيرَة، يُصَحِّح ويُقَوِّم، ويُحَلِّل، ويَشْرح، ويَسْتنتٍج، ويُقارن، فينتقل من مَرحلة الجُمود والثَّبات إلى مَرحلة التَّجديد والإِبداع، وإصْدار الفكرة الوَليدَة اللَّحظة، المُتَّصِلَة بالإِلْهام المُنْسَجِم مع الإِحْساس والعَقْل انْسِجامًا تَكامُلِيًّا، يَشُدُّه بميثاقِ الكتاب ورباطِه المَتين ..

فهو الجَليسُ الذي لا مؤونَةَ عليه من مجالسَتِه وصُحْبَتِه: " إنَّه حاضِرٌ نَفًعُه، مَأْمونٌ ضَرُّه، يَنْشَطُ بنَشاطِك، فيَنْبسِطُ إليك، ويَمَلُّ بمَلالِك فيَنْقَبِضُ عنك، إنْ أَدْنَيْتَه دَنا، وإنْ أَنْأَيْتَه نأى، ولا يَبْغيكَ شَرًّا، ولا يُفْشي عليك سِرًّا، ولا يَنْمُّ عليك، ولا يَسْعة بنميكَةٍ إليك " [6] ..

 

 

والقِراءَة النَّافِعَة المُثْمِرَة تُغَيِّر القارئ في الظَّاهِر والباطِن، وتُغَيِّر ما يَحْمِلُه من الأفكار والآراء والتصَوُّرات الخاطئة، وتُحَرِّك فيه الانْجِذاب إلى ما هو جديد وفريد، ومُناسِب لمرحلته وواقعه وبيئته، وتُخْرِج منه إِنْسانًا مختلفا عما كان عليه في سالف أيَّامه .

 

 

فالقراءَة إنْ لم تُحْدِث في القارئ تغييرا أو إصلاحًا، أو صَحْوَةً أخلاقيَّة، أو بَعْثًا في الدِّين والدُّنْيا، أو يقَظةً في الفِكْر والثَّقافَة، فهي لا تتعَدَّى أنْ تكون اعْتِيادًا مَأْلوفًا، أو عُرْفًا مَعْمولاً به، أو إِدْمانًا يتلذَّذ بممارستِه، أو تقليدًا لغيره في ضَمِّ الكُتب إلى الكُتب لإِشْباع غريزة التَّملُّك، أو ترتيبًا آليا لأصنافٍ من الكتب في رفوف ذاكرةٍ اسْتِهلاكية  ..

2 ـ شرف القراءة بشرف مقاصدها ونتائجها

على القارئ أنْ يَبْلُغَ مَهْد إبداعِ الكاتِب، وأنْ يَسْمو إلى قمَّةِ تَفْكيرِه وثَقافتِه، ويَتذَوَّق أُسْلوبَه البَليغ الفَصيح، ويُشارِكَه سِحْرَ المَباني والمعاني، ويَغوصَ في أعماقِ بَحْر أَسْراره، ويُحَلِّق في فَضاءِ خَيالِه ومجَرَّات أحلامه، ويُصْغي إلى شَدْوِه وتَغْريدِه على أَغْصانِ أفكارِه، ويَصْعَد لصُعودِه ويَنْزِل لنُزولِه، ويَتنفَّس بأَنْفاسِ قَلمِه ويتتبَّع شَهيقَه وزَفيره، ويَتلَّذَّد بمَذاقِ حَرْفِه وحَلاوَة كلمَتِه، ويَجوب مملكتَه العامِرَة بالثَّقافَة والمَعْرفَة، ويَشُقَّ دُروبَها المظلمة والضَّيِّقَة، ويَميل مع مُنْعرجاتِها ومُنْعطَفاتِها، إلى أنْ يسْتقيمَ له الفَهْم السَّليم، ويُبْسَط له اللِّسان البليغ، وتُفْتَح أمامَه أبواب البَيان، وتُفَك الإشارات والطَّلاسِم والألْغاز، فيُدْرِك مُرادَه ويصِل إلى غاياته من تَحْصيل العِلم ومُكابدَة مَشاقه ..

 

 

ولن يُدْركَ ذاك المَقْصِدَ المُمَجَّد والمُرْتقى الصَّعْب، إلا إذا تَحَرَّر من قُيود الفَهْم المُعتم والتَّفكير السَّقيم، وتَخلَّص من التعصُّب المَقيت، وما يَصُدُّه عن المُضِي في طَريقِ المعرفة وممارسَةِ الثَّقافَة، آمِنًا مطمئنًّا على نفسه من السُّقوط مع مَنْ سَقطوا من المُبْطِلين والمُفْسِدين في قاعِ التِّيه والجَهالَة ..

 

 

ولن يَأْمَن على نفسِه من السُّقوط، إلا إذا الْتَزم بالحُدود وتَقَسيَّد بالضَّوابِط الشَّرعية، وحافَظ على القِيَم الدِّنِيَّة والأَخْلاقِيَّة، وتَزوَّد بالعُلوم والمَعارف المُسْتَنيرة، وأَزاحَ عن طَريقِه العَوائِق والمَضايِق، وسَلكَ سَبيلَ الرَّشاد في الفَهْم والشَّرح والتَّحليل، واسْتَقامَ مَنْهجُه في المُخالفَة والمُعارضَة والنَّقْد، وتَوَسَّط في الحُكْم، واعْتَدَل  في إِصْدار الفَتاوى والأَحْكام، واحْتَكَم إلى طولِ النَّظر والرَّوِيَّة في التَّفكير، وتَجنَّب تَجاذُبات الأهواء والنَّزعات، ولم يتصَدَّر مرتبة الاجْتِهاد والتَّأويل وهو ليس لها أَهْلا  ..

 

 

ومَنْ عَجز عن بُلوغ  هذا السَّنام ولم يأخُد بهذه الأسباب، لم يَسْلَم مُنْطَلقُه في القراءة، ولم يَسْتقِم حالُه على طَريقةٍ مُثْلى، بل يظلُّ يَتخبَّط في مَسيرِه كالضَّرير، ويتوكَّأ على عَصا الغَباوَة والجهالَة، هائِمًا على وجهِه بلا بَوْصَلة ولا خارطَة، ولا اعْتِبار لعَلاماتِ التَّحْذير الحَمْراء وإشارات الانْتِباه والأخطار ..

 

 

ولن يَغْنَم من قِراءَته إلا رَشْفَ الحِبْر والمِداد، والتَّلَذُّذ برَسْم الخَطِّ على صَفحاتٍ بيضاء، والتَّحْديق في الشَّكْل وزَخْرفة الكتابة، كمَنْ يُقَلِّب في الصُّوَر فلا يُبْصِر إلا ظِلَّ أَلْوانهاالباهِتَة، الخالِيَة من مَعانيها التي تُخاطِب الحِسَّ والذَّوق، ولا يصِلُ إلى شيء ذا قيمَة تُذْكَر من وراء فَهْمِه العَيِي وخَيالِه الحَسير، ولا يَبْلُغ كُنْهَ الغايَة والجَوْهَر، وإنْ أطالَ النَّظَر والتَّحديق في تَرْتيبِ العِبارات والجُمَل  ..

 

 

ولهذا لما قدم أبو الحسن الماوردي لكتابه "أدب الدنيا والدين" نبَّه إلى ضَرورة الاعْتِناء بالمَقاصِد والغايات، والاهتمام بالنَّتائج والمَنافِع لاجْتِناء ثمرَة العِلم وفَضْلِه فقال: <<إنَّ شَرف المَطْلوب بشَرفِ نَتائجِه، وعِظَمُ خَطَره بعِظَم مَنافعِه، وبحسَب مَنافعِه تجِب العِناية به، وعلى قَدْرِ العِناية به يكونُ اجْتِناء ثمَرتِه>>[7] .

 

ولن يصِل القارئ إلى بُلوغِ غاياتِ القراءة ومَقاصِدها المَنْشودَة إلا باخْتِيارِه للمُناسِب من الكُتب النافِعَة، التي تَنْسَجِم مع ذَوْقِه وفَهْمِه، وتُوافِق اخْتياراتِه ومُؤَهِّلاته الثَّقافية، ويُحكَى عن الخليل بن أحمد الفراهيدي أنه قال : كان يتردَّد إليَّ شخص يتعلَّم العَروض وهو بعيدُ الفهم، فأقامَ مُدَّة ولم يَعلق على خاطِره شيءٌ منه ما أمكنه ، فقلت له يوماً: قَطِّع هذا البيت: - هات مفاعل وفعول ـ إِذا لَم تَستَطِع شَيئاً فَدَعهُ وَجاوِزهُ إِلى ما تَستَطيعُ، فشرع معي في تقطيع البيت على قدر معرفته، ثم نهض ولم يَعُد يجيء إليّ، فعَجِبتُ من فِطْنتِه لِمَا قَصدتُهُ في البيت مع بُعد فَهْمِه ..

 

 

والاختيار المناسب للكُتب مَبْنِيٌّ على أُسِّ العقل، الذي جَعله الله تعالى للدِّين أصلاً وللدُّنْيا عِمادًا، فالعقل يَهْدي القارئ إلى بلوغِ مآربه وأغراضه ومَقاصِده، وبه يَميزُ الصَّالحَ النَّافع منَ الضَّار الفاسِد، وبه يَعْرِف حقائق الأمور ويَفْصِل بين حَقائِق المَعْلومات .

 

 

وقال أحد الشعراء وهو إبراهيم ابن حسان :

وأفضَل قَسم الله للمرءِ عَقْلُه     فليس من الأَشْياءِ شيئٌ يُقارِبُه

إذا أَكْمَل الرَّحمن للمرءِ عَقْلَه      فقـد كَمُلَــــت أَخْلاقُــــه ومآرِبُــــه

والاختيار المُناسِب للكُتب مَبْنيٌّ كذلك على الاسْتِفادة من ذَوي الخِبْرَة والحِنْكَة، والاعْتِماد على آراء أهل الفَنِّ والاخْتِصاص، وملازَمَة أصحاب القَريحَة وسَداد الفِكر والرَّوية، والانْتِفاع بآراء العُلماء والشيوخ والأخْذ بمشورتهم، فقد حَمدت العرب آراءهم، حتى قال بعضهم : "المشايِح أشجارُ الوَقار، ومَنابِع الأَخْبار، لا يطيشُ لهم سَهْم ولا يَسْقُط لهم وَهْم، إنْ رَأَوْكَ في قبيحٍ صَدُّوك، وإنْ أَبْصَروكَ على جَميلٍ أَمَدُّوك" [8] ، وقيل: "عليكم بآراءِ الشُّيوخ فإنَّهم إنْ فقَدوا ذَكاءَ الطَّبْع، فقد مَرَّت على عُيونهِم وُجوهُ العِبَر، وتَصَدَّت لأَسْماعهِم آثارُ الغير " [9] .

3 ـ لا قيمة لمكتبة لا يَنْتفِع القارئ بمَحْصولِها

لا قيمة لمكتبةٍ مُكْتظَّة الرُّفوف بالكُتُب والمَوْسوعات العِلميَّة النَّفيسَة، وأنتَ لا تَزورُها إلا كما يَزورُ الإبنُ العاقُّ لأمِّه، تُكَحِّل عَيْنَك بجَمالِها وتَغْتَرُّ بمَظْهَرِها الخَلاَّب، كغادَةٍ حسْناء تَأْسَرُ قَلْبَك عند مقامِك بمَجْلسِها في ميقاتٍ مَعْلوم، وتَشْتَغِل بتَرْتيبِ كُتُبِها بحسَبِ حُروفِ الهجاء والفُنون والتَّخَصُّصات، فيَأْخُذك الغُرور هُيامًا بحُسْنِها وانْبِهارًا بسُطوعِ شمسِ مَحاسِنِها، وتَزْهو بما لها من بَديعِ الصِّفات، وتَنْتَشي من عَناقيدِ الخُيَلاء وأنتَ تَرْقى سُلَّمَها صُعودًا ونُزولاً، كأنَّك تَرْقى سُلَّم المَجْدِ والرِّفْعَة بما جمَعْتَ من نَفيسِ نَفائِسِها، أو كأنَّ الدُّنْيا حيزَتْ إليك بحَذافيرِها بما غَنِمْتَ من كُنوزِها وذَخائِرِها، وأنت لم تَحُزْ من لُبِّها إلا على القِشْر السَّميك، ولم تَحُزْ من جَوْهَرِها إلا على البَريق الخَدَّاع للبصَرِ الحَسير ..

 

 

إنَّ القيمة الحقيقِيَّة للمكتبة، تَكْمُن في أُنْسِك بها، واشْتِغالِك بالاطِّلاع على ما فيها، لأنَّها أكْرَم مال وأَنْفَس جَمال، وأَسرُّ أنيسٍ للرُّوح، وأَوْفى صديق في اليَسار والإِعْسار، وهي رَوْضتُك وحَديقَتُك الغَنَّاء، كلَّما زُرْتَها وأَطَلْت القراءة والتَّفكير والنَّظَر وَجَدت الإِمْتاعَ والمُؤانسَة، والانْشِراح والغِبْطَة  ..

 

 

فمُحادثَة الكُتُب تُخْبرُك عن العُقول الماضِيَة، وتُنْبئك عن الحِكَم الخالِيَة، وأخبارِ الأُمَم السَّالفة، لذا كان العُلماء والصُّلَحاء، ومَنْ سَلفَ من مُحِبّي العِلْم وأَهْلِه وخاصَّتِه، يَجِدون أُنْسَ وحدتهِم ورَغْد عَيْشهِم في مُلازمَة الكُتب، ومُداوكَتهِم على النَّظَر والتَّحقيق في عُلومِها وفُنونِها، قال مُحْرِزُ بْنُ جُبَيْرٍ الْمَرْوَزِي قِيلَ لِابْنِ الْمُبَارَكِ : " يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوْ خَرَجْتَ فَجَلَسْتَ مَعَ أَصْحَابِكَ؟ قَالَ: إِنِّي إِذَا كُنْتُ في الْمَنْزِلِ جَالَسْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، يَعْنِي النَّظَرَ فِي الْكُتُبِ" [10]، زقال عمر بن عبد الله البصري : " كان عبد الله بن عبد العزيز العُمَري يَلزَم الجَبَّان ـ أي المقابر ـ كثيرًا، فكان لا يَخْلو من كتابٍ يكونُ معه يَنْظُر فيه، فقيل له في ذلك، فقال: إنَّه ليس شيءٌ أَوْعَظ من قَبْر، ولا أَسْلَم من وحدة، ولا آنسَ من كِتاب" [11] .

 

 

والقيمة الحقيقِيَّة للمكتبة، تَكَمُن فيما حَواه قَلبُك من الدُّرِّ والدُّرَر، وحَفِظَه عَقْلُك ووَعاه، وخَطَّه قَلمُك بين دَفَّتي كتاب، لتَأْمَن على مَحْفوظِك من طَوارِق الغَفْلة والنِّسْيان، وتَنالَ حُظوظَ تَدْوين العِلْم وحِفْظه في محَلِّ التَّشْريف والتَّمْجيد، قبل فَواتِ حُظوظِك بحِفْظه في محَلِّ الامْتِهان والتَّحًقير، وبين الرُّفوفِ والأَدْراج، وكما قال الخطيب البغدادي: <<فإنَّ الله جعَل للعلومِ محلَّين: أحدهما، القُلوب، والآخر: الكُتب المُدَوَّنَة. فمَن أوتِيَ سَمْعًا واعِيًا، وقَلْبًا حافِظًا، فذاك الذي عَلَت دَرجَتُه، وعَظُمَت في العِلْم مَنْزِلتُه، وعلى حِفْظِه مُعَوَّلُه، ومَنْ عجَزَ عن الحِفْظِ قَلْبُه فخَطَّ عِلْمَه وكَتبَه، كان ذلك تَقْييدًا منه له، إذْ كتابُه عِنْدَه آمَنُ من قلبه، لما يَعْرِضُ للقُلوبِ من النِّسْيان، ويَتقسَّم الأَفْكارَ من طَوارِقِ الحَدثان>>[12] .

 

 

وقال المبرِّد : نظَر أعرابيٌّ إلى رجُل وهو لا يَسْمعُ شيئًا إلا كتبَه، فقال: "ما تَتْرُك نُقارَةً إلا انْتَقَرتَها[13]، ولا نُماصَةً إلا انْتَمصتَها[14]، وإنَّك لمَلقَمةُ[15] الكلمَة الشَّرود " [16] .

 

 

وإنَّ القيمَة الحَقيقِيَّة للمكتبة، فيما ادَّخَرْتَه من قِراءَاتِك وسَماعاتِك ومُطالعَاتِك للكُتب، وما انْتَفعت به من عُيونِ آثارِها بالاسْتِرشاد بمَضْمونِها، وإِدْراكِ البُغْيَة من مَعْرفَة مَقْصودِها، وإصابَة الحُجَّة من مَدْلولِها ..

 

 

وما تَحصَّلْت عليه من ثَرْوَةٍ دينِيَّة وأَخْلاقِيَّة وثَقافِيَّة، وما زَيَّنْت به روحَك من قَلائِد مَعانيها وحُلَلِ مَبانيها، وصُوَرِها البَهِيَّة وأَفْكارِها النَّيِّرَة، وما مَلَأْتَ به رُفوفَ ذاكِرَتك من  عَمارِ الطِّيبِ والثَّناء، ورَيْحانِ العِلم ومَكارمِ الأخلاقِ والخِلال  ..

 

 

ولذا قال بعض العلماء : " الكتاب تؤَدِّبُك عَجائِبُه، وتَسُرُّك طرائِفُه، وتُضْحِكُك مُلَحه ونَوادِرُه، وهو نُزْهَة الأديب عند لَذَّته، ومُتْعَته عند خَلْوَتِه، وتُحْفَته عند نَشاطِه، وأُنْسُه عند انْبِساطِه، ومُسْتَراحه من هَمِّه، ومَسْلاتُه من غَمِّه، وعِوَضه من جَليسِ السُّوء، وسُخْف الأَماني، ومُسْتَقْبَح الشَّهَوات، وهو رَوْضَة مَجْلسِه، وبُسْتان يده، وأنيسٌ يَتقَلَّب معه .. " [17] .

 

 

فما عَرفتَه من عُلومِ الأَوَّلين والآخرين، وخَبَرته من أَحْوالِ السَّابِقين واللاَّحِقين، واطَّلَعْت عليه من عُيونِ الأَخْبار، ومُسْتَحْسَن الأَشْعار والأَمْثال، ونُكَت الحِكايات، وصُنوفِ الجَواهِر في بُطونِ الكُتُب، وما حَوَتْه الرَّحلات والمَعاجِم والفَهارس والدَّفاتِر، سيَنْفَعُك في تَكْوين ثَقافتِك، والارْتِقاء بأُسْلوبِ تَعْبيرك وخِطابِك، وتَهْذيب ذَوْقِك ومَنْطِق بَيانِك وإِفْصاحِك، فتَصيرَ ذا ملكَة في التَّعبير بطَلاقَة، بارِعَ اللَّفْظِ ذا لسانٍ باهِر..

 

 

كما ستُمَكَّنك المُداومَة على القراءَة، من اكْتِساب مَناهجِ البَحْثِ العِلْمي الرَّصين، وامْتِلاك مَفاتيح الإِصْلاح وأَسْبابِ الإِرْشاد والتَّبْليغ، وبُلوغ الذِّرْوَة في الانْتِفاع والتَّحْصيل، وإِجادَة الفَهْم والتَّقْدير، واسْتيعابِ الشَّرح والتَّحليل، وتَطْويرِ ذاتك ومُؤهِّلاتك، والقُدْرَة على الاخْتِيار واتِّخاذ القَرار السَّليم، وسُلوكِ الطَّريق الوارِهَة واتِّباع المَنْهَج المُسْتَقيم، والبَراعَة في التَّخْطيط وإِدارَة الوقت بما يتَناسَب مع أَوْلويَّاتك، وما من شَأْنِه أنْ يُحَسِّنَ سُلوكَك وأُسْلوبَ مُعامَلاتك، ويُحَقِّق ثورة تَغْيير وإِصلاح شامِلَة لحَياتك، تُثْمِر سعادَةً في الدُّنْيا والآخرة..

 

 

لذا قال أحد الحكماء : " لولا ما رسَمَت لنا الأَوائِل في كُتبِها، وخَلَّدَت من فُنونِ حِكَمِها، ودَوَّنَت من أَنْواعِ سِيَرِها حتى شاهَدْنا بذلك ما غابَ عَنَّا، وأَدْرَكْنا به ما بَعُدَ عَنَّا، وجَمَعْنا إلى كَثيرهِم قَليلَنا، وإلى جَليلهِم يَسيرَنا، وعَرفْنا ما لم نَكُنْ لنَعْرِفَه إلا بهم، وأَدْركنا الأَمَد الأَقْصى بقَريبِ رُسومهِم، إذن لحسَر طُلاَّبُ الحكمَة، وانْقطَع سبَبهم عن المعرفة، ولو أُلْجِئْنا إلى مَدى قُوَّتِنا ومَبْلغ ما نَقْدِر على حِفْظِه خَواطرنا، وتُرِكْنا مع مُنْتَهى تِجارَتِنا لما أَدْركَتْه حَواسُّنا وشاهَدَتْه نُفوسُنا، لقَلَّت المعرفَة وقَصُرَت الهِمَّة، وضَعُفَت المُنَّة، وماتت الخَواطِر، وتَبلَّد العقل، ونَقص العِلْم، فكان ما دَوَّنوه في كُتبهِم أَكْثَر نَفْعًا، وما تَكلَّفوه من ذلك أَحْسَن مَوْقِعًا، ويجِب الاقْتِفاء لآثارهِم، والاسْتِضاء بأَنْوارهِم، فإنَّ المَرْءَ مع مَنْ أَحَب، وله أَجْرُ ما احْتسَب .. " [18] .

 

 

وإنَّ القيمة الحَقيقيَّة للمكتبة تكْمُن فيما تُنْتِجُه وتصْنَعُه بداخلك، فتُكَوِّن منك إنسانًا مُسْتَعِدًّا ليَتعَلَّم ويُعَلِّم، وأَهْلاً للنُّهوض برِساَلة التَّربية والتَّعليم، وتَحمُّل مَسْؤوليَّة الإِصلاح والتَّغيير، فتَتحَوَّل من قارئٍ للمَعاني والأَفكار إلى كاتِبٍ يُنْتِج من مكتبتِه العامِرَة بالكُتب ثقافةً مُتحرِّكة ..

 

 

ذلك أن مَنْ يَقْرأ عليه أنْ يَكْتُب كي يَنْتفِع بما يَقْرَؤُه، ويَفْتَح طَريقًا رَحيبًا ومُزْهِرًا بالعِلْم، وقديما  قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَد : " مَا سَمِعْتُ شَيْئًا إِلا كَتَبْتُهُ، وَلا كَتَبْتُهُ إِلا حَفِظْتُهُ، وَلا حَفِظْتُهُ إِلا نَفَعَنِي " [19] .

 

 

ومَنْ يَقْرأ عليه أنْ يُنْتِج وهو يَقْرأ كاتبًا جَديدًا، مُخْتَلفًا عن الذي حاورَ قَلمَه وناقشَ آراءَه، وكاتِبًا قد أَنْجبَه المَخاض، فصار مُوَلِّدًا للمَعاني التي تَقْتاتُ وتَتَغذَّى بداخِل بَواطنِ نَفْسِه، وأَعْماقِ ذاتِه القارِئَة للحُروف والكَلمات، التي تَسْتقبلُها كروحٍ ذات أَنْفاس وحَركات وأَحْلام، وآفاق من التَّفْكير المُتَأنِّي، والاسْتِبْصار الدَّقيق الرُّؤَى والعَميقِ الشُّعور ..

 

 

 وهذه مرتبةٌ عالية لا يصِلُ إليها القارئ العادي، ولا يُدْرِك قِمَّتَها الشَّمَّاء الكاتب العادي، بل يَصًعَد سُلَّمَها ذاك القارئ المُحِبُّ للقَلم، المعنى، والفكرة، وذاك القارئ الذي يَتمثَّل التَّعبير بإِحْساسِه ووِجْدانِه، وخَلجاتِه وأَنْفاسه، ويَحْتوي ذاك الكُلَّ الذي لا يَتجزَّأ بفَهْم فَريد وإِدْراك ليس له نَظير ..

 

 

وإنَّ القيمة الحَقيقيَّة للمكتبة، تَكمُن في تلك الصُّورَة التي يُقَدِّمُها الكاتِب الجَديد الذي أنْتجته المكتبة، لقُرَّاءٍ جُدُد على اخْتِلاف مَداركِهِم وتَنَوُّع مُسْتَوياتِهم الثَّقافِيَّة، فيُلْزِمهُم احْتِرامَه وتَقْديرَه لأنَّه أَهْلٌ للتَّقْدير والتَّشْريف، ولأنَّه يَتحَرَّك بتلك المكتبة ويَعْكِس قيمَة ما يدَّخِرُه من كُتبِها ومُصَنَّفاتها، ولأنَّه يَتمثَّل غاياتِ العِلم وأَهْدافه السَّامِيَة، حيث يَحُثُّ القُرَّاء على مُجالسَتِه لساعاتٍ طويلة، وهم يُمْعِنونَ النَّظَر فيما يُحَدِّثهم به، ويُطيلون التَّفْكير فيما يُقَدِّمُه إليهم من فَوائِد وفَرائِد، وما يَزْرعُه فيهم من قِيَم وفَضائِل، تَبْعَث فيهم نَشْوَةَ القراءة، وتوقِظُ فيهم إِلْهامَ الفِكْرَة والإِبْحار في أَغْوار المعنى ..

 

 

ولأنَّه القلم الذي يُعَبِّر عن أَفْكارهِم ومَشاعِرهم، ويُشاركهم آمالهُم وآلامَهُم، وأَفْراحهُم وأَتْراحهُم، ويَسْرُد عليهم القِصَص والحِكايات التي عَجزوا عن ذِكْرِ تَفاصيلها وعَرْضِ أَحْداثِها، وتَتَبُّع تَسَلْسُل فُصولِها المُتَّصِلة بوُجودهِم وواقعهِم السَّعيد والمُتَأزِّم .

 

 

ولأنَّه القلم  الذي يُسَجِّل تاريخَ العَقْل البَشري، ودَواة الفِكْر الإنساني وحِبْرَ الكتابة ومِدادَها، الذي يَرْبِطُ سِلْسِلة الأَحداث  في الماضي والحاضر بلا انْقِطاع، ويُكْمِل النَّقْص ويَروم بُلوغَ التَّمام، ويَتْرك عند خاتمة الكلام نِقاطًا وسُطورًا مُعَلَّقَة، وفَراغاتٍ على بَياضِ الوَرَق، تُلْهِم طِماحَ الهِمَم إلى التَّطَلُّع إلى مَلْأ تلك السُّطور والفَراغات، وضَمِّ الأفْكار إلى نَظائِرها من الأفكار، ووَصْل حلقاتِ المعاني بأَشْباهِها من المعاني، وشَحْذِ الأَقْلام الخامِلَة للتَّنْقيح والزِّيادَة، وتَحْسين الكلام وتَحْبيرِه وتَزْيينِه، وإخْراجِه على صورَةٍ أبْهى ..

 

 

ولأنَّ هذا القلم هو زينَةَ المجالس ونُزْهَة المجامِع وروحُ الإنسانِيَّة، الذي يَمُدُّ قَلْبَ العالم بالنَّبْضِ والخَفَقان، ويَمُدُّ شِرْيانَــــه بصَبيبِ المعرفة والثقافة المتحرِّكة على الدَّوام ..

[email protected]

 

[1]  تقييد العلم للإمام الحافظ أبي بكر أحمد الخطيب البغدادي ـ تحقيق : سعيد عبد الغفار علي ـ تقديم: فضيلة الشيخ الدكتور محمد بن عمر بن سالم بازمول ـ دار الاستقامة : ص 158

[2]  هو سحبان بن زفر بن إياس الباهلي الوائلي توفي سنة 54 هـ، وهو فصيح العرب وخطيبها، يكان ضرب به المثل في الفصاحة و الخطابة، وأدرك الجاهلية و أسلم،  وكان سحبان خطيباً غَمر البديهة، قوي العارضة، متصرفاً في فنون الكلام، كأنما يتلو عن ظهر قلب  وبه يضرب المثل في كل ذلك  ..

[3]  باقل فهو رجل يُضرب به المثل في العيّ، قيل أن أمه كانت تعلمه طوال النهار اسمه و حين يحلّ المساء ينساه مجدداً، وقد عرف باقل بأنه أعيا العرب و ضُرب به المثل بالعي و البلادة و الغباء.

[4]  تقييد العلم : ص 158

[5]  المصدر نفسه : ص 157

[6]  المصدر نفسه : ص 157

[7]  أدب الدنيا والدين / أبو الحسن الماوردي ـ شرح وتعليق: محمد كريم راجح ـ دار اقرأ، بيروت ( ط. الرابعة 1405 ه ـ 1985م ) : ص 5

[8]  المصدر نفسه : ص  10

[9]  المصدر نفسه : ص 10

[10]  تقييد العلم : ص 163

[11]  المصدر نفسه : ص 163

[12]  المصدر نفسه : ص 13

[13]  ما تترك نقارة إلا انتقرتها: أي ما تترك شيئًا طيّبًا منتقًى إِلاَّ أَخذته لنفسك ـ والنُّقَارَةُ : قَدْرُ ما يَنْقُر الطائرُ في الحبَّة ونحوها ..

[14]  النَّمْص: نَتْف الشعر وترقيقه، ومعنى ولا نُماصَة إلا انْتمصتها، أي ولا شعرة دقيقة إلا ونتفتها

[15]  الالتقام ، الابتلاع ـ والْتقام الكلمة ، ابنلاعها وتناوُلها بسرعة ..

[16]  تقييد العلم : ص 148

[17]  المصدر نفسه : ص 167

[18]  المصدر نفسه : ص 155

[19]  المصدر نفسه : ص 148