وقف اللاعي
17 جمادى الأول 1438
عبد الله بن عبد اللطيف الحميدي

وقف اللاعي(1)

 

تعددت الأوقاف في البلدان والأقطار الإسلامية، فأوقف المسلمون ما قدروا عليه، وتسابقوا في بذل المعروف وفعل الخيرات على ما كان بهم من فاقة وحاجة مستشعرين قول الحق تبارك وتعالى في وصف الأنصار رضي الله عنهم: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: ٩].

 

وقد أدّت الأوقاف دوراً اجتماعياً كبيراً وحقّقت نفعاً لا يستهان به بل كان نفعها سبباً بعد الله عز وجل في الإبقاء على كثير من أرواح الناس ودفع الهلاك عنهم وخصوصاً في أوقات المجاعات والمساغب التي توالت على بعض البلدان وأجبرتهم على أكل الميتة والجلود وغيرها، والله المستعان.

 

حتى اشتهر في بعض القرى في نجد ما يسمى بوقف (اللّاعي) وهو مصطلح نجديّ مشهور يطلق على من ينادي عند المساجد والطرقات رافعاً صوته من شدة الجوع، مما حدا بعض المحسنين أن يوقّف أوقافاً خاصة تصرف على «اللاعي»(2) وما أكثر ذوي اللّوعات والصرخات في بلاد المسلمين في زماننا هذا، والله المستعان.

 

أُعِين أخي أو صاحبي في بلائِه *** أقومُ إذا عضَّ الزَّمانُ وأقعُدُ
ومَن يفردِ الإخوانَ فيما ينوبُهم *** تَـنُـبْه الليالي مرَّةً وهومفردُ

 

ولأن «شرط الواقف كنص الشارع»(3) كما يعبّر الفقهاء فيحسن بالمسلم أن يتخير من الأوقاف أنفعها وأعظمها بركة وأشملها في خدمة المسلمين، وبالأخص ذوي الحاجة والفاقة أو ذوي العاهات والأمراض أو الأيتام والأرامل أو على ثغور الإسلام للجهاد في سبيل الله وحماية حياض بلاد المسلمين،ويكون ضبط ذلك وتدوينه في وثيقة الوقف.

 

كما يحسن بالمسلم ألا يحجّر واسعا في نص وقفيته فلا يحصر أوجه الصرف في باب معين من أبواب الخير- لا يتعداه إلى غيره- بل يجمل به أن يُضَمِّن صكّ وقفيته - بعد تحديد المصارف الخاصّة - بعض العبارات التي تتيح مجال الصرف لناظر الوقفوفق احتياجات الناس كأن يجعل الصرف على عموم الخيرات المناسبة لزمانها ومكانها أوالأكثر قربة وأجراً عند الله - تعالى -.

 

وإن من الأوقاف الهامّة والتي يغفل عنها كثير من المسلمين الأوقاف الطبية التي تختص بعلاج المرضى المحتاجين، وصرف الأدوية وإجراء العمليات الجراحية بأنواعها، حيث تكمن الحاجة الماسّة لمثل هذا في كثير من بلدان العالم الإسلامي لعدم توفر المستشفيات الحكومية من ناحية أو لغلاء المستشفيات الأهلية من ناحيةٍ أخرى، وبالإمكان أيضاً الوقف على الأدوية وعمل التحاليل والأشعة وإجراء كافة الفحوصات الطبية للمحتاجين من المرضى وإجراء العمليات الجراحية ونحوها.

 

وما أحوج المسلمين اليوم إلى مستشفيات ضخمة تلبي احتياجاتهم الصحية في شتى بلاد المسلمين:

فكم من المسلمين اليوم من فقد بصره أو سمعه أو شُلّ عن الحركة أو تلفت كليته أو أُصيب بأمراض في الدم أو المسالك البولية أو غيرها، وذلك لعدم توفر طبيب يعالج أو جهاز يفحص أو ممرض يداوي أو دواء يصرف أو مشفى يؤوي، والله المستعان.

 

وفي المقابل تجد إسرافا وخيلاء ومباهاة وتفاخرٍاً في بناء بعض المساجد وتزيينها في بعض بلاد المسلمين حتى إنك لتجد عشرات المساجد في الحيّ الواحد ولا يكاد يُصلي في المسجد إلا أشخاصٌ معدودون وربما دفع المحسن لبناء المسجد عشرات الملايين من الريالات.

 

بُني في إحدى المحافظات جامع ضخم لو اجتمع فيه أهل المحافظة والمحافظات المجاورة لها لوسعهم وزاد عليهم، مع العلم أنه يوجد مساجد وجوامع أخرى في نفس البلدة!! وربما كان الدافع لبعضهم أن يخلد اسم باني المسجد ويبرز في اللوحات وعلى ألسن الناس فيُدعى له ويُترحم عليه إن كان ميّتا، أما إن كان حيّا فقد يشوب النية ما يشوبها، والله المستعان.

 

وذكر أحد المهتمين بالأوقاف والمعتنين بها أنه وردت إليه استشارة من مجموعة من الشبّان توفي والدهم رحمه الله وكان رجلا ثريا موسرا وقد أوصى رحمه الله ببناء جامع في إحدى المحافظات بمبلغ خمسة وثلاثين مليون ريال!! فقال لهم هذا المستشار: إن المبلغ ضخم جدا وأنه باستطاعتهم أن يبنوا به عشرة مساجد كبيرة أو أكثر، فقالوا: لا، نريد أن ننفذ وصية والدنا ونبني مسجدا عظيما وفاخراً... فالله المستعان.

 

إن هذا من المفاهيم الخاطئة والتصورات البعيدة كل البعد عن الرؤية الشرعية لبناء المساجد وأن الغاية من ذلك إقامة الصلاة وذكر الله فيها والبعد عن المبالغة في تزيينها وزخرفتها.

 

وقد بوب الإمام البخاري رحمه الله فقال: (بَاب بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ، وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: أَكِنَّ النَّاسَ مِنْ الْمَطَرِ وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ، وَقَالَ أَنَسٌ: يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثُمَّ لَا يَعْمُرُونَهَا إِلَّا قَلِيلًا، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى)(4).

 

وجاء عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ»(5).
وربما بكلفة بناء جامع في حيّ مكتفٍ يّبنى مشفى أو مركز صحي أو مركز لغسيل الكُلى ونحوها في أي قطر من بلاد المسلمين.

 

ويستقى مما مضى:

•    أن يحرص المسلم على مجاهدة نيته وإصلاحها يقول سفيان الثوري رحمه الله: «ما عالجت شيئا اشدّ عليّ من نيتي وإنها لتتقلّبُ عَلَيّ»(6).

 

•    أن على المسلم أن يحرص على تحرّي المصرف الأنفع والمكان الأحوج والجهة الأكثر حرصا وعناية.

 

•    أن يتفقد المسلم أحوال إخوانه المسلمين وأن يتلمس حاجاتهم فكم من محتاج منعه الحياء والعفاف عن سؤال الناس قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: ٢٧٣].

 

_____________________________

(1) اللّاعي: وهو مصطلح نجدي مشهور يطلق على من ينادي عند المساجد والطرقات رافعاً صوته من شدة الجوع، كثر فى سنوات سابقة مما حدا بعضهم إلى أن يوقف له أوقافا خاصة فى بعض قرى نجد من التمر والبر ونحوه، قال في لسان العرب 15/249"ولوعة الجوع: حدته "أهـ.
(2) ينظر: دواوين الأوقاف القديمة في إقليم الوشم(ديوان شقراء أنموذجا)، ليوسف بن عبد العزيز المهنا،ص14.
(3) ينظر: شرحالخرشي على مختصر خليل (7/92)، الاشباه والنظائر لابن نجيم (275)،الفوائد الزينية (70).
(4) أخرجه البخاري(1/96).
(5) وأخرجه أبو داود (449)، والنسائي(2/32)، وابن ماجة (739) وصححه الألباني.
(6) حلية الأولياء(7/62).