الوقف الإعلاميّ
28 ربيع الثاني 1438
عبد الله بن عبد اللطيف الحميدي

كان الإعلام في العصر الجاهلي يقتصر على القصيدة وإلقائها في المحافل والأسواق القديمة كسوق عكاظ(1) وسوق مجنّة(2) وسوق ذي مجاز(3) وفي مواسم الحج ونحوها، حيث كانت القبائل تُنشد مآثرها وتُحيي ذكر أمجادها وتتباهى بذلك وتتفاخر عبر منابر القصيد وملتقيات الشعر الجاهلي، وكان هذا كلّ ما يتعلق بالإعلام.

 

ولما جاء الإسلام هذّب مبدأ الإعلام وأهدافه وجدّد في أساليبه فمن ذلك:

أن الإعلام في الإسلام قام على مبدأ الصدق والعدل والإنصاف وقول الحق وعدم الإرجاف أو إشاعة الأكاذيب أو الفواحش بين المسلمين، كما جدّد الإسلام في أساليب الإعلام من حيث تعدد الوسائل فمن ذلك: الخطابة في الجمع والعيدين والمناسبات، ومن ذلك تهذيب الشعر وتطويعه في خدمة الإسلام والدعوة إليه والذّب عنه والدفاع عن مبادئه، وهجاء الأعداء والتحذير منهم، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لشاعر الإسلام حسّان بن ثابت رضي الله عنه: «إن روح القدس لا يزال يؤيدك، ما نافحت عن الله ورسوله»، وقالت عائشة رضي الله عنها: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هجاهم حسّان فشفي واشتفى»، قال حسان:

هجوتَ محمدا فأجبت عنه *** وعند الله في ذاك الجــزاء
هجوت محمدا برا حــنيفا *** رسول الله شيمته الــوفاء
فإن أبي ووالده وعــرضي *** لعرض محمد منكم وقـاء(4)

 

ومن ذلك الأذان للصلاة فهو إعلام بدخول وقتها ودعوة إليها وهي أعظم شعائر الدين الظاهرة لذا اختار النبي صلى الله عليه وسلم - له مؤذنين وراعى أن يكون المؤذن نديَّ الصوت ، ومن الوسائل التي جدّدها الإسلام في الإعلام اتخاذ النبي صلى الله عليه وسلم للخطباء والشعراء واستماعه للحداة (5) المنشدين ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب الملوك والأمراء ويبعث البعوث والسرايا لنشر الإسلام ، ويرسل الدعاة إلى الله والقراء إلى البلدان والقرى والقبائل لدعوتهم إلى الإسلام وترغيبهم فيه وتعليمهم كتاب الله - تعالى - وكل ذلك من وسائل الدعوة والإعلام بدين الله - تعالى - وهي وسائل متجدّدة والأصل فيها الحل والجواز ما لم تخالف شرع الله تعالى.

 

ولأن الوسائل لها أحكام المقاصد تنوّعت الوسائل والأساليب عبر عصور الإسلام ولم تزل في تطور وازدهار، فمن الوسائل التي أضيفت إلى ما سبق:

تأليف الكتب العلمية ونشرها، ومنها إقامة الحلقات والدروس العلمية، ومنها إنشاء المدارس والمكتبات العلمية، ثم تنوعت وتعدّدت الوسائل بعد ذلك ودخلت التقنية الحديثة وجعلت العالم كقرية واحدة عبر وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية، ثم جاءت بعد ذلك الشبكة العنكبوتية «الإنترنت» وما تبعها من وسائل التواصل الاجتماعي الحديث التي قرّبت البعيد وسهّلت وصول المعلومة، فكان لزاما على أهل الإسلام أن يسخّروا هذه الوسائل والبرامج في خدمة الإسلام والمسلمين عبر الأوقاف الإعلامية.

 

ونجدُ أن العلاقة بين الإعلام والوقف علاقة تبادلية فالإعلام يسوّق للوقف ويشيع أحكامه ويبصّر المسلمين به ويحثهم عليه، والوقف يدعم الإعلام ويسانده ويمدّه بالتمويل والرعاية المالية.

 

ولقد برزت في العصور المتأخرة صور مشرقة للأوقاف الإعلامية، ومنها الأوقاف على القنوات الفضائية ومن أبرز القنوات الموقوفة قناة أقرأ وشبكات قنوات المجد وقناة الأحواز وقناة الهدى ومجموعة قنوات أفريقيا وشبكة قنوات رسالة الإسلام ونحوها، وهي قنوات شامخة في سماء الإعلام بزّت قريناتها من القنوات التجارية الأخرى، ونافست قنوات الإعلام الهابط الذي يدعو إلى المجون والفساد الأخلاقي والانحراف العقدي.

 

وإن لهذه القنوات الإعلامية الدعوية أثرها البالغ على المسلمين لاسيما مع الانفتاح الإعلامي الذي يشهده العالم.

 

حكى بعض الدعاة أنه - وبعد افتتاح باقة قنوات أفريقيا «الوقفية» وخاصةً القناة التي باللغة الأثيوبية في الحبشة - قال أحد أساتذة التاريخ هناك:

«إن الأحداث المؤثرة في تاريخ المسلمين في الحبشة ثلاثة: هجرة الصحابة رضي الله عنهم إلى الحبشة، وإسلام النجاشي رحمه الله وافتتاح قناة أفريقيا»(6).

 

فانظر كيف كان للإعلام هذا الأثر البالغ حتى دعا أستاذ التاريخ إلى أن يجعل افتتاح هذه القناة من الأحداث الثلاثة العظيمة التي أثّرت على بلاده!!.

 

وقد يتوهم بعض المسلمين أن الوقف الإعلامي يقتصر على القنوات الفضائية ونحوها ولا يقدر عليه أو يستطيعه إلا أهل الغنى واليسار من المسلمين، والحق أن الأمر ميسّر بفضل الله.

 

وإليك - أخي المسلم - بعض الصور للأوقاف الإعلامية الميسّرة التي يقدر عليها كل مسلم إن شاء الله:

•    وقف حساب في وسائل التواصل الاجتماعي بحيث ينشر فيه المسلم الخير ويدعو إليه كأن يذكّر المسلمين بالأذكار النبوية وينشر التلاوات القرآنية والمقاطع الدعوية ونحوها.

 

•    شراء المصاحف والكتب العلمية والأقراص الإلكترونية والنشرات والمطويات النافعة ونحوها، وتوزيعها ونشرها.

 

•    تسخير ما لدى الإنسان من موهبة في التصميم أو الإخراج أو الصوت الندي في إنتاج وإعداد برامج إعلامية دعوية وبثّها عبر الوسائط المختلفة.

 

•    بذل الوقت والجهد وهو ما يمكن أن نسميه «وقف الوقت»(7) في العمل الدعوي الإعلامي وتسخير الطاقات والمواهب في نشر الخير وتقريب العلم والتوجيه والإرشاد عبر القوالب والصيغ الإعلامية المختلفة.

 

•    إنشاء المواقع الحاسوبية التي تخدم الدعوة إلى الله والعلم النافع كالمواقع الموسوعية أو المنتديات العامة أو العلمية.

 

•    تصميم البرامج والتطبيقات الحاسوبية وبرمجتها عبر أجهزة الاتصال كتطبيقات التلاوات القرآنية أو الأذكار أو تطبيقات معرفة أوقات الصلاة والقبلة أو التطبيقات العلمية أو الخدمية التي تسهّل على المسلمين أمور معاشهم، وتعينهم على قضاء حوائجهم، ونحو ذلك.

 

•    المساهمة في إقامة الحملات الدعوية والإعلامية للجهات الخيرية والدعوية والتسويق للأوقاف الإسلامية الموثوقة عبر وسائل التواصل المختلفة.

 

•    إنشاء المؤسسات الإعلامية الوقفية المتخصصة في هذا المجال الحيوي الهام وتأسيسها وجعلها رافداً من روافد العمل الدعوي والخيري.

 

وإنه على الرغم من النشاط الإعلامي الوقفي – مؤخّرا – إلا أن الحاجة ملحّة وماسّة للإعلام الوقفي الإسلامي وأن يصل الإسلام - دين الحق والسماحة واليسر - إلى أصقاع المعمورة وأن نسعى لتحقيق قول ربنا -تبارك وتعالى-: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: ٣٣ ].

 

ألا ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم إلى الإعلاميّ الصادق النّاصح الذي يحمل على عاتقه همّ الدعوة والإصلاح والدعوة إلى الله - تعالى - نسأل الله - سبحانه - أن يبصرنا بدينه وأن يعيننا على القيام بما أوجب وأن يعزّ الإسلام والمسلمين.

 

____________________________

( ) في الطائف تم تسمية هذا السوق بهذا الاسم بسبب أن العرب كانوا يجتمعون فيه للتعاكظ، والتعاكظ هو التفاخر ، وكانت تحميه قبيلة هوازن.
(2) سوق مَجِنَّة سوق من أسواق الجاهلية الثلاثة الكبرى في موسم الحج، يقع في بلاد قبيلة كنانة.
(3) ذي المجاز هو أحد أسواق العرب الأدبية في الجاهلية، ويقع في شرق مكة المكرمة ويبعد عنها مسافة 21 كم.
(4)أخرجه مسلم(2490).
(5) مفرد حادي:وهو الذي يسُوق الإبَل بالحُداء.
(6) حدثني بها الشيخ د. محمد بن عبد العزيز الخضيري في إحدى الجلسات الاستشارية له.
(7) هو بذل جزء من الوقت للمساهمة في الأعمال التطوعية متعدية النفع.