تقلبات الدنيا ....دروس وعبر
21 ربيع الثاني 1438
د. عامر الهوشان

قال لي صديقي يوما وقد بدت على وجهه علامات الدهشة وأمارات التعجب : ما كنت أظن يوما أن أُخرج من بيتي وأُبعد عن أهلي وأُطرد من مسقط رأسي , وما كنت أتخيل أن آتي يوما إلى بلاد وأرض جديدة لم أفكر يوما بالسفر إليها , ولم أتوقع قط أن يحدث ما كان يحذرنا منه داعية إلى الله فاضل كنت أتردد على درسه الأسبوعي في عاصمة الأمويين بهذه السرعة , إذ طالما كان يتوجس من اقتراب اليوم الذي يتم فيه تهجير أهل الشام من بيوتهم وأرضهم .

 

قلت لصديقي : لم هذا العجب وعلام تلك الدهشة , هذه هي حقيقة الدنيا التي جعل الله تعالى من أبرز خصائصها التقلب والاضطراب , فهي لا تستقر بالإنسان على حال , ولا تدوم له على قرار , بل شأنها التغير من حال إلى حال , قال تعالى : { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } يونس/24

 

قال ابن كثير : ضرب الله تعالى مثلا لزهرة الحياة الدنيا وزينتها وسرعة انقضائها وزوالها، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض بما أنزل من السماء من الماء، مما يأكل الناس من زرع وثمار، على اختلاف أنواعها وأصنافها، وما تأكل الأنعام من أب وقَضْب وغير ذلك، { حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَهَا } أي : زينتها الفانية، { وَازَّيَّنَتْ } أي: حَسُنت بما خرج من رُباها من زهور نَضِرة مختلفة الأشكال والألوان، { وَظَنَّ أَهْلُهَا } الذين زرعوها وغرسوها { أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا } أي : على جَذاذها وحصادها ..... إذ جاءتها صاعقة ، أو ريح بادرة ، فأيبست أوراقها ، وأتلفت ثمارها ؛ { فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا } أي : يبسا بعد الخضرة والنضارة ، { كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ } أي : كأنها ما كانت حسناء قبل ذلك و كأن لم تنعم . 4/260

 

والآيات بهذا المعنى الذي يؤكد اضطراب أحوال الدنيا وعدم استقرارها لكونها دار ابتلاء لا دار جزاء ...كثيرة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم , قال تعالى : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا } الحديد/57

 

لم يكن صديقي وحده الذي عاين بنفسه حقيقة تقلبات الدنيا واضطرابها وعدم استقرارها على حال بعد الذي حدث ببلاد الشام , بل أدرك هذه الحقيقة الكثير ممن  كان قد انخدع بزهرة الحياة الدنيا وزخرفها يوما ما في مشارق الأرض ومغاربها , فهذا تحول بعد الغنى إلى الفقر , وذاك انتقل من الأمن والاستقرار إلى الخوف والتشرد والشتات .......الخ .

 

ليس المقام هنا مقام ذكر الشواهد والأمثلة التي تؤكد حقيقة الحياة الدنيا غير المستقرة , فهي على كل حال حقيقة ثابتة لا تقبل الجدال وإن غفل عنها الكثير من الناس , ولكن المقام هنا مقام الدروس والعبر التي ينبغي أن يتعلمها المسلم من انكشاف هذه الحقيقة أمامه عيانا , ومعايشتها بنفسه هذه المرة وليست نقلا عن فلان أو فلان .

 

ولعل من أهم تلك الدروس التي ينبغي أن يتعلمها المسلم من تلك الحقيقة هي : استثمار نعمة الأمن دائما بالعمل بما يرضي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم , واغتنام حالة الغنى و كثرة المال في يده بعدم التهاون في أداء الزكاة , والحرص على الإكثار من الصدقة والإنفاق في سبيل الله , والمبادرة إلى الأعمال الصالحة في حالة الصحة قبل المرض والعجز وفوات الأوان.......

 

لقد أرشدنا خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم إلى كيفية الاستفادة من نعم الله تعالى قبل أن تزول , ففي الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل و هو يعظه : ( اغتنم خمسا قبل خمس : حياتك قبل موتك و صحتك قبل سقمك و فراغك قبل شغلك و شبابك قبل هرمك و غناك قبل فقرك ) المستدرك للحاكم وصححه الألباني

 

ومن هذا التوجيه النبوي يمكن القول : إن تقلبات الدنيا لن تتوقف , وأحوالها المتغيرة والمضطربة على الإنسان ستستمر , فبعد الغنى وكثرة المال ومظنة الاستقرار ربما يأت الفقر وقلة ذات اليد , كما يمكن أن يباغت الموت الإنسان دون سابق إنذار , وتذهب الصحة والعافية ويحل المرض والعجز .......وما على المسلم إلا أن يستثمر ما أنعم الله تعالى عليه من تلك النعم في طاعته قبل فواتها .

 

تذكرت أثناء الحديث مع صديقي عن تقلبات الحياة التي أصابت أهل الشام مؤخرا حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنهم ذبحوا شاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما بقي منها ؟ ) قالت : ما بقي منها إلا كتفها . فقال صلى الله عليه وسلم : ( بقي كلها غير كتفها ) . سنن الترمذي برقم 2470 وقال : هذا حديث صحيح .

 

نعم لقد بقي لأهل الشام وغيرهم من المنكوبين والمبتلين بتقلبات الحياة وذهاب المال والصحة والأمن والاستقرار ..... ما تصدقوا به في سبيل الله , وما بذولوه من خير وبر عبودية لله , وما استثمروه من نعم الله وآلائه بطاعته قبل فواتها وزوالها ......بينما ذهب ما سوى ذلك من مال وصحة وفراغ وشباب وحياة مرفهة بعيدة عن نية التقرب إلى الله وطاعته أدراج الرياح كأن لم تكن , ولم يبق إلا أن يأخذ العاقل الفطن منها الدروس والعبر .