تشابه الديانات في الطقوس والعبادات
17 ربيع الثاني 1438
إبراهيم الأزرق

الحمد لله وبعد فمن طرائق اللادينيين في التشكيك بالدين مقارنتهم بعض طقوس الديانات الوثنية أو المحرفة بالشعائر الإسلامية، وقد تجد بعضهم يسهب في بيان ذلك وبعضهم قد يختزله في صورة! على سبيل المثال يصور مسلمين عند الكعبة، بجوارهم بوذيون عند صنمهم، بجوارهم نصارى حول الصليب، وهلم جراً.. وغرضهم أن يقولوا بل قد قال بعضهم: جميعكم يسجد ويركع ويخشع ويضرع، فشعائركم شعائر مورثة بشرية المصدر!

 

ومن تأمل ترتيب نتيجة هذه الشبهة على مقدمتها المذكورة عرف أنها قضية كاذبة محلها اللائق بها هو أقرب سلة مهملات! وفي بيان ذلك يقال:

أولاً:  المقدمة غير مسلّمة! فكيف يقال ديانة توحيدية تدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، تشبه غيرها من ديانات المشركين لمجرد الاشتراك في بعض المظاهر؟! وهل قرع طبل لعرس كقرع طبل لمأتم! أبعد الله فهم من ظنّ منشأ البكاء فرحاً هو منشأ البكاء حزناً بجامع الدموع! وقد قيل:

أُعيذُها نَظَراتٍ مِنكَ صادِقَةً *** أنْ تَحسَبَ الشَحمَ فيمَن شَحمُهُ وَرَمُ

 

يا قليل الخبرة!

إِذا نَظَرتَ نُيوبَ اللَيثِ بارِزَةً *** فَلا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ!

 

إن التباين من حيث الفلسفة والحقيقة بين ديانة التوحيد وغيرها تباين كبير، كيف نجمع بين من يدعو صنماً أو بشراً ويسجد له ويتقرب إليه بأنواع القرابين إلى من يرى ذلك كفراً مخرجاً عن الملة، وهادماً للدين؟!

 

أما التشابه في بعض مظاهر التذلل والخضوع كالدعاء والصلاة والسجود فلا يقتضي تشابهاً في العبادة، إذا كان المقصود بالعبادة مختلفا، ففرق بين من يصرف تلك العبادة لله وبين من يصرفها للشيطان.

 

لو رأيت رجلاً يركض نحو هاوية قد أضرمت فيها نار ليقع فيها، وآخر يركض كركضه لكن ليقفز ويتجاوزها فراراً من تلك الهاوية، فهل يقول عاقل: هذا يدل على أن كلا الفعلين دافعهما واحد ورث الآخر من الأول؟! أو لابد من التمييز بينهما بمراعاة القصد؟

 

ثانياً: النتيجة غير مسلمّة، على فرض تسليم المقدمة، فمن قال إن التشابه في الطقوس يقتضي أن أصل وضعها بشري؟ لماذا لا يكون التشابه دليل على أن أصل التدين رباني فطري ثم انحرف فيه من انحرف بصرفه إلى غير الله؟! على سبيل المثال: قد يشبه طعاماً صنعته طعاماً صنعه غيرك، لكن هذا التشابه لا يلزم منه أن يكون أحدهما استفاد من الآخر، كذلك لو فرضنا أن مشركاً يتعبد لآلهته بنحو ما يتعبد الموحد لربه فلماذا يقال هذا دليل على أن تلك العبادة من ابتداع المشرك؟ لماذا لا تكون ابتدأت من الموحد بوحي من خالقه؟ ولاسيما أن الديانات الإسلامية التوحيدية أقدم! وهو الحق الذي سوف أبين دلالة المعقول عليه آخر هذا الجواب.

 

ثالثاً: قد يكون التشابه في جزئية كلياً فالمسلم واليهودي مثلاً يدعوان الله تعالى، لكنه تشابه في حق، مقصودي بذلك ليس التشابه إشكالاً بمجرده! الإشكال أن يكون التشابه في أمر ثبت بطلانه أو خطؤه أو انتحاله.. وأذكر في هذا الصدد أن بعضهم ذكر يوماً أن مراحل تكوين الجنين مذكورة في كتب بعض الوثنيين، فكان مما أجبت به: هب أن مراحل الجنين ذكرت عند البوذيين أو اليهود في كتبهم المقدسة بنحو ما ذكر ذلك في كتب المسلمين –مع أن من قارن كموريس بوكاي عرف الفرق- لو فرضنا صحة ذلك فهل هذا التشابه في حق أو في باطل؟ إن كان في حق كما يقرره علماء الأجنة اليوم، لم يدل ذلك على أن الرسالة التي جاءت بذلك بشرية، فالحق ليس من خصائص البشر وحدهم ولا يجوز على موجدهم وخالقهم تعالى!

 

ونحن نعلم أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم تكن له ولا لقومه صلة بأمم المشرق الأقصى! بل علاقتهم بالأدنى ضعيفة! ونجزم بأن المسلمين ما وصلوا إلى تلك الأصقاع إلاّ بعد عقود من وفاته عليه الصلاة والسلام فانتفى أن يكون أخذه الشعائر والعلوم عنهم. وما الذي يمنع أن يكون علمه ذلك بوحي من الله تعالى الذي أوحى إليه كثيراً من العلوم والحقائق المعروفة عند غير العرب أو التي عرفتها بعد ذلك الأمم.

 

بل ما الذي يمنع إن ثبت –جدلاً- اشتمال كتب البوذيين القديمة على مراحل الأجنة بنحو ما فصله القرآن، ما الذي يمنع أن يكون أولئك قد استفادوا ذلك من كتب بعض الأنبياء المتقدمين، بل لو ثبت ذلك لكان هذا هو المعقول، لأن الطب في تلك العصور كان قاصراً عن إدراك ذلك والبرهنة عليه بنحو الموجات وصور الأشعة التي عرفتها القرون المتأخرة!

 

رابعاً: سبب التشابه في مظاهر للعبادات -لا في العبادات نفسها- بين الأمم هو كونها فرضت في الأصل من الله تعالى على الأمم، ثم انحرفت تلك الأمم بصرفها لغير الله تعالى، فإن الله تعالى أخبرنا أنه فرض الصلاة على أهل الكتاب من قبلنا، وبينت آيات أن تلك الصلاة فيها ركوع وسجود كما في قوله تعالى: (يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران: 43]، وقوله: (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ) [ص: 24]، بل أخبرنا عز وجل أن جنس تلك العبادات من ديدن العباد من لدن آدم ونوح وهلم جراً، كما في سورة مريم قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) [مريم: 58]. وكذلك سائر مباني الإسلام من صيام وزكاة وحج كانت مفروضة على الأمم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]، (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) [البقرة: 83]، وقال عن عيسى: (قال إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا) [مريم]، وجاء في حجهم قوله تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج].

 

وشواهد هذا في السنة كثيرة، وإذا كانت العبادات مفروضة على هذا الوجه من الله تعالى منذ بدء الخليقة فلا غرو أن يقع ضرب من التشابه في المظاهر بل في جزئيات يتجاوز التشابه مجرد المظهر.

 

ومما يدل على أن أصل العبادات ربانية لا بشرية، أن العقل البشري لا يدل بمجرده على كون الطواف مثلاً عبادة؟ وما لا يدل عليه العقل البشري لا يقال هو من إنتاجه! فالتعبد بالطواف وبالقيام وبالقراءة كل ذلك لا دليل يوجبه عقلاً؟ نعم هو لا ينافي العقل إذا كان للإله الحق، فمن حق الإله أن يفرض على عباده ما يختبر طاعتهم به، لكن فرق بين ما لا ينافي العقل، وبين ما دل عليه العقل، وهكذا الرسل تأتي بمحارات العقول –أعني ما تحار فيه ولا تهتدي بمجردها لوجهه- لكنها لا تأتي بمحالات العقول –وهي ما تقطع العقول باستحالته أو بطلانه.

 

وبهذا نعلم أن التشابه إن كان دليلاً على شيء فهو دليل على أن أصل التدين إلهي لا من إنتاج عقول البشر؛ لأن كثيراً من الطقوس لا تهتدي إليها العقول، ولا تقيم دليلاً لها، لكن البشرية انحرفت في التدين بعد بما يخالف المعقول فصرفت تلك العبادات إلى غير ربها وخالقها سبحانه وتعالى، وهذا ما جاءت الرسالة الخاتمة بتصحيحه.

والله هو الموفق وهو يهدي السبيل.