النية .. قارب النجاة
16 ربيع الثاني 1438
د. خالد رُوشه

تلك المختبئة بين الضلوع ، الداعمة لكل عمل ، الرافعة من قدره أو الممحية لأثره ، المضيئة لوجوه الصالحين ، والمركسة لأعين المنافقين .. إنها النية الصالحة ..

 

تلك المفرقة بين الصالح والدعي ، وبين المؤمن والمنافق ، وبين الصادق والكاذب ..

 

 

تلك الجوهرة الثمينة ، والكنز الثري العظيم ، الذي يبلغ به المؤمن أعلى الدرجات ، ويحسن به مستقبله ومآله ، فيزحزح به عن النار إلى مقام الجنات ..

 

لطالما كتب العلماء عن النية الصالحة وأثرها، وألفت فيها المؤلفات ، ولن أزيد بكلماتي على ما كتبوا كثير جديد .. غير أني أرجو أن تكون تذكرة للمؤمنين .. وتقويما للدعاة الطيبين ..

 

إننا نعيش مرحلة من اصعب المراحل الي مرت بها أمتنا الإسلامية ، وظرفا من أقسى ظروفها ، ولا نجاة مما تمر به الأمة إلا بقلوب بيضاء ناصعة ونوايا صادقة مخلصة ، يتقبل الله بها دعاء الصالحين ، ويفرج على أثرها من كرب المكروبين ..

 

فالله سبحانه قد وعد بإخلاف الخير على من ظهر من قلوبهم نوايا الخير ، مهما أخذ منهم ، ومهما أوذوا أو هزموا ، فيؤتهم خيرا مما فقدوا ، ويثيبهم فضلا منه مغفرة من عنده وهو الغفور الرحيم ، يقول سبحانه :" يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم " التوبة .

 

ووعد بتوفيق من سعى للإصلاح إذا أراد بنيته الخير ونبذ الفرقة  .. " إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما إن الله كان عليما خبيرا "

 

لكنه سبحانه ايضا حذر من نسي ربه ، وأظهر خلاف ما يبطن ، قال سبحانه :"واعلموا أن الله يعلم مافي أنفسكم فاحذروه " البقرة

 

كما حذر سبحانه الناس جميعا من أنه يعلم طبائع الناس وشاكلتهم وأنه سبحانه يحاسبهم بحسب دواخلهم ونواياهم ، قال سبحانه : " قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا " الإسراء ، والشاكلة هي النية والطبيعة النفسية والاتجاه والطريقة في الحياة وغيرها ، وكل معانيها يصب في اتجاه واحد ، فالله سبحانه يعلم من يصلح للهداية ، فيهديه ، ومن لا يصلح لها ، فيخذله ولا يهديه ، قال الشوكاني " : فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا " لأنه الخالق لكم، العالم بما جُبلتم عليه من الطبائع، وما تباينتم فيه من الطرائق ..

 

إن العمل الصالح لا يتوقف على شىء توقفه على نية صاحبه ، فهي شرط قبول العمل مع متابعة النبي صلى الله ليه وسلم ..

 

وانظر كم يحث النبي صلى الله ليه وسلم المؤمنين على إصلاح النوايا مهما صغرت الأعمال وقلت في أعين الناس ، ففي الصحيحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " اتقوا النار ولو بشق تمرة " , منبها أن العمل الصالح مهما كان قليلا فإن له تأثيرا إيجابيا  , وأن المطلوب من المؤمن أن يكون مبادرا , ولو بالقليل

 

وفي صحيح مسلم :" لا تحقرن من المعروف شيئا " , فإن الله سبحانه يجزل الثواب على المعروف , ويغفر به الذنب , ويستر به العيب , ويقيل به من العثرات , وينجي به من المهلكات .

 

فبالنية الصالحة قد يستوي الغني والفقير , كرجل نوى لو رزقه الله مالا أن يتصدق به أو أن يفعل به صالحا , قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه , أنه والغني " هما في الأجر سواء " ابن ماجه

 

وبها يستوي المعذور والمعافى , يقول صلى الله عليه وسلم :" إن بالمدينة رجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا وهم معكم , شركوكم في الأجر , حبسهم العذر" أخرجه البخاري , فهؤلاء اشتركوا معهم في الأجر في كل خطوة من خطواتهم , وكل مسير يقطعوه , وكل صالح يفعلوه , لأنهم أحسنوا النية لكن منعهم العذر.

 

يقول ابن المبارك : " رُبَّ عمل صغير تُعظِّمه النيّة، ورُبَّ عمل كبير تُصغِّره النيّة" .

 

 

 ويقول شيخ الإسلام : " والنوع الواحد من العمل قد يفعله الإنسان على وجه يكمل فيه إخلاصه وعبوديته لله فيغفر الله له به كبائر"

 

وانظر إلى هذا الرجل الذي اصلح نيته بعمل بسيط في أعين الكثيرين لكنه دال على حبه الخير للناس ، وسعيه لإزالة الضرر عنهم ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلاً يَتَقَلَّبُ فِي الجَنَّةِ فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ» مسلم  .

 

حتى المرأة المخلصة الصادقة في أمر قد يراه الناس من طبيعة الأمهات ، قد أنعم الله سبحانه عليها به بأعظم النعم ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: « جَاءَتْنِي مِسْكِينَةٌ تَحْمِلُ ابْنَتَيْنِ لَهَا، فَأَطْعَمْتُهَا ثَلاَثَ تَمَرَاتٍ، فَأَعْطَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَمْرَةً، وَرَفَعَتْ إِلَى فِيهَا تَمْرَةً لِتَأْكُلَهَا فَاسْتَطْعَمَتْهَا ابْنَتَاهَا فَشَقَّتِ التَّمْرَةَ الَّتِي كَانَتْ تُرِيدُ أَنْ تَأْكُلَهَا بَيْنَهُمَا، فَأَعْجَبَنِي شَأْنُهَا، فَذَكَرْتُ الَّذِي صَنَعَتْ لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّ الله قَدْ أَوْجَبَ لَهَا بِهَا الجَنَّةَ، أَوْ أَعْتَقَهَا بِهَا مِنَ النَّارِ» أخرجه مسلم .

 

فياايتها القلوب الطيبة ، عالجي حالك بنية صالحة ، وسارعي إلى أوبة وتوبة ، وإلى إيجابية ودافعية تعيدي بها ما تراجع من قيمنا ومبائنا ومقامنا النازف الكسير ..