ترامب بين الانثروبولوجيا والاستراتيجيا
9 صفر 1438
أمير سعيد

قبل ثماني سنوات كنت أراقب السباق الانتخابي داخل الحزب الديمقراطي بين باراك أوباما وهيلاري كلينتون، وأذكر أنني تحيرت في توقع الفائز منهما: أيمكن للولايات المتحدة أن تنتخب امرأة لأول مرة في تاريخها أو تنتخب رجلاً أسود بما يحمله ذلك من دلالة على تحرر شعبي أمريكي نسبي من كراهية الملونين البغيضة، لكن حينما سألته عن توقعه وجدت الأمر محسوماً تماماً بالنسبة إليه: "الأمريكيون يعبدون القوة، ولا يمكن أن يمنحوا أصواتهم لامرأة تعبر بحكم تكوينها عن الضعف".. تعجبت، كيف للأمريكيين أن يتعالموا مع منافسة سياسية كما لو أنها "حلبة مصارعة" يتبارى فيها الأقوياء بعضلاتهم لا بأفكارهم، زادني د. محمد العبدة المفكر ذو الدراية الواسعة بالتاريخ وأحواله ودلالاته، مازحاً: "نعم، المجتمع الأمريكي مجتمع ذكوري"!.. تصادف أن أعدت عليه السؤال قبل أسابيع من الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، فوجدته ما زال عند رأيه، لم يهزه فيه حماقات ترامب التي جعلت كثيرين يستبعدون نجاحه.

 

في معرض نقاش مع الخبير الاستراتيجي (الحقيقي) الأستاذ طلعت رميح، ورغم عدم تقصد الانتخابات الأمريكية بالنقاش إلا أنه باغتني بالحديث عن قادم الاستراتيجية الأمريكية التي تستدعي وجود ترامب؛ فقاطعته بالتذكير باستطلاعات الرأي التي لم تكن تمنح ترامب ما يجعله أهلاً للفوز بالانتخابات. لم يتراجع عن رأيه لكنه استدرك بتحفظ "حتى لو لم يكن هذه المرة فلابد أن يأتي ولو في المرة القادمة".

 

الموقفان لهما في الحقيقة دلالات لابد من التأمل فيها ملياً؛ فإذ كان الأول مستنداً إلى ركن من علم الانثروبولوجي، وعنايته بسلوك المجتمعات البشرية، مستعيناً بآلة التاريخ وكواشف، توقف الثاني عند استراتيجيات الدول التي لا تعلو فوق الشخصيات وتوظف الأدوات فيما تريد من مصالح عليا ترتئيها مراكز القوى الحقيقية التي تحكم الدول من خلف الستائر الغليظة.

 

وفيما كانت الاستطلاعات والأخبار والفضائح تذهب بالتوقعات يميناً ويساراً، تبدو المحددات الكبرى، والركائز الأساسية أكثر حضوراً وتأثيراً ولو لم تبد لأول وهلة واضحة للأنام.

 

ليس الهدف بالتأكيد أن نوجد آلة دقيقة للتوقعات؛ فلسنا معدي نشرات أحوال جوية، كما أننا لم نعد نملك ترف التفرج على ما يمور حولنا مكتفين بأن السبق كان لنا في توقع حصول هذا أو ذاك؛ فما دمت غير فاعل، وغير موجود في ميدان الصراع؛ فسوف يغرق بالطوفان الأريب والأحمق، وسوف لن يفيد كثيراً مجرد التوقعات والاستشرافات المستقبلية. إن هذه الأدوات وتلك الآلات لا تفيد إلا حينما تصبح رافعة نحو القيام بواجب الوقت، وكل وقت، انتظام حبات الدرر الفكرية في عقد فريد يجلب من لبنات التاريخ حواضر المستقبل.

 

لقد تعين أن يتمحض الحق، ويولد المشروع الجامع للأمة، في تلك الليالي الكالحات، التي لم تعد تفسح وقتاً لهزر أو لتجارب عبثية، لا وقت لهذا، ولا مخرج من هذه الظلمة إلا بانبعاث حكيم عاقل لا يستنزف أمتنا في تخبطات الهواة وخبط عشوائهم وعبثهم بالمصائر.